هل نحن في حاجة إلى فلسفة من دون مجتمع فلسفي؟
هل بالفعل توجد " فلسفة" بالمعنى العام أم يتعلق الأمر بفلسفات، كما يقول أنطونيو غرامشي،ورؤى مختلفة، يختار المرء دائما واحدة من بينها ؟ كيف يتم هذا الاختيار؟ أهو مجرّد حدث فكري أم أنه أكثر تعقيدا؟ ويُضيف غرامشي" ألا يحدث أن يتناقض اختيار المرء الفكري مع طريقة سلوكه، وأيهما يمثل رؤيته الحقيقية للعالم.؟"
وهل يصح الحديث عن الحاجة إلى " فلسفة " وليس " الفلسفة"!!! من دون وجود " مجتمع فلسفي "، يكون القاعدة الاجتماعية لتمثل فلسفة ما كممارسة فكرية وحياته، من دون للسقوط في نفعية ضيّقة تقلب المعادلة الجدلية بين الفكر والواقع، لتجعل من الفلسفة مجرد وسيلة لأهداف غير فلسفية؟
ولكي يتمثل المجتمع الفلسفي فلسفة تعكس همومه وتطلعاته، وتعمل على الارتقاء به، يتطلب الأمر خلق " حدث فلسفي" يكون دافعا للتفلسف وممارسة التفكير بشروطه الفلسفية،من منطلق التساؤل عن الغرض من طرح سؤال الحاجة،من خلال تساؤل كثيرا ما يُردده المهتمون بمصير الفلسفة:" هل ستظل الفلسفة معرفة محصورة في جدران المؤسسات التعليمية ،أن ستتحول إلى تجربة وجودية حياتية؟ لكن ما الحدث الذي يُمكن أن يستفز الوعي النقدي لدى أفراد مجتمع ما؟ في حالة المجتمع العربي، يتأسس الحدث الفلسفي على طبيعة الإشكالية التي من شأنها تضيء إمكانية ممارسة التفكير النقدي، وإذا فهمنا الإشكالية باعتبارها : كيفية تصور المشكلات في منظومة فكرية معينة ( حسب تعريف عبد الله العروي في كتابه مفهوم الدولة ص15) فالسؤال، ما المشكلات التي يُعاني منها المجتمع المغربي، حتى يُمكن تبرير الحاجة إلى الفلسفة، والحاجة أيضا مُتعلقة بأنماط أخرى من الوعي البشري، وما الفلسفة إلا شكلا من أشكال الوعي الإنساني؟
وارتباط الفلسفة بالفكر، يجرّنا إلى إشكالية طبيعة علاقة الفكر بذاته وبالواقع الذي يتخذه موضوعا له. إذن هل يجوز الحديث عن الفكر بمعزل عن واقعه، وبعبارة أدق ، ومن منظور المفكر مهدي عامل :"في علاقته البنيوية مع البنية الاجتماعية القائمة، ثم وضعه في حقله الإيديولوجي الخاص بهذه البنية ؟........."
..............نعود إلى موقف غرامشي، والذي يربط وجود فلسفة بوجود اللغة،يقول :" باعتبارها تتضمن عناصر رؤية العالم، وعناصر ثقافة، ولو صح هذا الافتراض لأمكن تقدير درجة رؤية أي شخص للعالم من واقع لغته. فمن يتحدث إلا اللهجة المحلية، أو لا يفهم اللغة الفصحى فهما كاملا، يكون حدسه للعالم قاصرا بالضرورة ومحليا ومُتحجّرا وعتيقا بالنسبة لتيارات الفكر الكبرى السائدة في التاريخ العالمي، وسوف تكون مصالحه ضيّقة وظائفية إلى حد ما أو إقتصادوية وليست مصالح عامة." ونسأل هل الحاجة إلى الفلسفة في مجتمع مغربي ترتفع فيه نسبة الأمية ويتعثر فيه اللسان العربي أمام سيادة اللهجة الدارجة؟ والمُصيبة حين يُلجأ إلى اللهجة الدارجة لتدريس الفلسفة بالفصل الدراسي.
كيف تكون الحاجة إلى " فلسفة " وأية فلسفة،سواء بالنسبة إلى الفضاء العمومي أو بالنسبة للمؤسسات التعليمية حيث تحضر " الفلسفة " كمادة دراسية،تخضع لضرورات المنهاج، وهذا الأخير بالتعريف " هو تحويل لمعرفة معينة إلى مادة مدرسية بهدف تحويل فكر المتعلم المستهدف وسلوكه وفقا لمواصفات التخرّج التي تحددها أغراض المرحلة التعليمية التي ينتمي إليها.."
..............من يأتي على رأس قائمة الأولوية في سؤال الحاجة إلى الفلسفة، هل المجال المؤسسي التعليمي أم مجال الفضاء العمومي؟ إذا كانت الفلسفة تحضر كمادة دراسية، فما أهمية طرح سؤال الحاجة، وإذا كانت شبه غائبة في الفضاء العمومي فكيف نجعل من الحاجة إلى الفلسفة مطلبا مشروعا؟
لكن هل بالفعل جضور الفلسفة في المؤسسات التعليمية ( الثانوي التأهيلي والجامعة) يُغنينا عن طرح سؤال الحاجة؟ هل بالفعل تحضر الفلسفة في المؤسسات التعليمية بكامل هويتها وحقيقة آلياتها أم ما يتم تدريسه هو في حقيقته أشبه بالفلسفة، أو ربما ضد الفلسفة؟
...ما طبيعة إنتماء مدرسي الفلسفة، وهل لهذا الانتماء ( أقصد الإيديولوجي درجة الكفاءة والتكوين) تأثير على نشر الوعي الفلسفي، أو على الأقل الالتزام بغايات المنهاج والذي يزعم أنه ينطلق من خصائص الفلسفة !!! ومن مواصفات التلميذ؟
أذكر بعض الأمثلة، ولا يتعلق الأمر بتقييم كمّي أو عددي، أن ولوج تدريس تدريس الفلسفة أصبح مفتوحا حتى لخصوم الفلسفة ومن مرجعيات سياسية لا تُخفي عدائها للفلسفة، وبالدليل لا يخجلون من كونهم أعداء للفلسفة، وكدليل، وأتحمل مسؤوليتي في هذا الأمر، أني عاينتُ مدرسين ومدرسات للفلسفة يُصرون أمام تلامذتهم على أن الفلسفة مناقضة للدين وعلى التلاميذ التعامل معها كمادة دراسية يتم القطع معها بعد امتحان البكالوريا، وليست الفلسفة طريقا في التفكير ونمطا من السلوك قاعدتهما العقل في بعديه النقدي والإشكالي وأفقهما تنوير ذات المتفلسف.إحدى المدرسات قمعت تلامذة مدرس زميل لها لمّا أبانوا عن رغبتهم في التفلسف وإبداع الأسئلة الحارقة....وحكمت على زميلها بأنه " خْرْجْ عليكم "، والبديل الفلسفة مادة للحفظ بهدف اجتياز الامتحان الوطني، ومن ثمة الفلسفة مادة جاهزة ونمطية ولا مجال للدهشة أو الشك المنهجي والسؤال الفلسفي والنقد والنسقية وهدم البداهات...فهده مجرد أوهام لا تنفع في الامتحان الوطني، بل الذي ينفع إملاء أطروحات الفلاسفة تباعا..ونسأل هل نحن في حاجة إلى فلسفة؟ أعتقد نحن في حاجة إلى إعادة النظر في وضعية الفلسفة داخل المؤسسة التعليمية، والدفاع عن الموروث الفلسفي الذي تعامل مع الفلسفة كونها موقف للوعي أكثر منها معرفة بالمعنى الوضعي.
إن الرهان على الحاجة إلى الفلسفة يجب أن ينطلق من المؤسسات التعليمية، باعتبارها الفضاء والنواة التي تؤسس للمجتمع الفلسفي، بل وهي المُنتج لشروط تواجد الفلسفة في الفضاء العمومي انطلاقا من مختلف أماكنه، بحجة أن متعلمي الفلسفة هم أشبه برسل تعميم الفلسفة في البيت والشارع والمنتديات والمقاهي والجمعيات، حين تكون الحاجة إلى الفلسفة مشروعا وجوديا ، مخما كان تخصص المتعلم من الثانوي، أو الجامعي، في هذه الحالة ستكون الفلسفة نمطا من الحياة، وحاجتنا لهذا النمط هو المأمول لكن بشرط أن هيّأ له شروطه.
لكن يصطدم هذا الطموح بغايات المؤسسة من تدريس الفلسفة وتواجدها بالفضاء العمومي. بالفعل هناك مسلمة كون الدولة تحدد الغاية من وجود الفلسفة داخل إحدى مؤسسات الضبط الإيديولوجي والاجتماعي،لكن هذا لايجعل من مدرسي الفلسفة يخضعون ميكانيكيا للمرامي الإيديولوجية للنظام الحاكم، فإذا كانت حاجة الدولة إلى الفلسفة يخدم سياسية التفكك الفكري والاجتماعي الذي تنهجه، من قبيل تواجد مادة الفلسفة إلى جانب الدراسات الاسلامية، وكلية الحقوق والعلوم إلى جانب مدرسة الحديث الحسنية والتعليم الأصيل...الحاجة إلى الفلسفة يدخل ضمن مشروع تفكيك الوعي النقدي والنسقي، وتعميق الجرح بين التناقضات الاجتماعية وتحويل التناقض الأساسي إلى تناقض ثانوي.
الحاجة إلى الفلسفة تصدم أيضا بالماركوتينك الفلسفي، من خلال ظهور المقاولة الفلسفية والمتمثلة في الدروس الخصوصية والتأليف المدرس التجاري...ولهذه المقاولة الفلسفية كوارث لا تُحصى، الأمر الذي يجعل من الحاجة إلى الفلسفة مطلبا استعجاليا، لنعرف عن أيّ فلسفة نتحدث أمام فوضى أبطالها مدرسي الفلسفة أنفسهم.
نعم نحن في حاجة إلى فلسفة لمحاربة تحول الفلسفة إلى رأسمال معرفي يُستثمر بالنسبة للمتعلم والمدرس في الربح المادي والرمزي، لتتم التضحية بالفلسفة ومُقايضتها بمنطق الربح والخسارة في الامتحان الوطني إلى درجة تباهي بعض المدرسين بالنقط" العالية" التي حصّل عليها تلامذتهم وإرجاع الفضل لمدرسهم بالتبعية!!! ولا أحد يسأل عن المستوى الفكري من خلال تبلور حاستي النقد والأشكلة والقدرة على إخضاع الأشياء العادية للدراسة والفحص" كما قال شوبنهاور.
كيف وبأية وسائل يُمكن تعميم الفلسفة في الفضاء العمومي وما المقصود بالفضاء العمومي؟