عنف العالمي، والسلطة الجهنّمية ، للفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي "جان بودريار.
( من المقرر الدراسي لمادة الفلسفة بتونس ضمن إشكالية الخصوصية والكونية)
التمهيد: في الوقت الذي تتزايد فيه الأصوات الداعية إلى احترام حقوق الإنسان الكونية، تنمو في المقابل السلطة التقنية والاقتصادية بروافدها الإعلامية فيحدث توترا بين قطب فكري يدافع عن الحرية والكرامة الإنسانية وآخر بضائعي يدفع سكان العالم قاطبة إلى مماثلة نمطية تذيب الاختلاف والخصوصيات.
النص، يول جان بودريار :" هناك لفظتي " العالمي " Mondial والكوني Universel تشابه خادع. إن الكونية هي كونية حقوق الإنسان والحريات والثقافة والديمقراطية. أما العولمة فهي عولمة التقنيات والسوق والسياحة والإعلام. تبدو العولمة ذات اتجاه لا محيد عنه، في حين أن الكوني في طريقه إلى التلاشي. هذا الكوني الذي تشكّل ضمن قيم حداثية غربية، لا نظير له في أيّ ثقافة أخرى.
كل ثقافة تتعمم تفقد خصوصيتها وتموت. هكذا كان أمر كل الثقافات التي دمّرناها بدمجها بالقوة، وكذلك بثقافتنا في تطلعها إلى الكوني. الفرق أن الثقافات الأخرى ماتت من خصوصيتها، وهو موت طبيعي، في حين أننا نموت من فقدان كل خصوصية، ومن استئصال كل قيمنا، وهو موت عنيف(1).
نعتقد أن المصير المثالي لكل قيمة يكمن في ارتقائها إلى الكوني،دون أن نُقدّر الخطر المميت الذي يؤلفه هذا الترفيع : إنه ليس ترفيعا بقدر ما هو بالأحرى تخفيف إلى درجة الصفر من القيمة. في عصر التنوير، كان التعميم يتم بإسراف، حسب تقدم صاعد،أما اليوم فهو يتم بالغياب، بالهروب إلى الأمام نحو أصغر قاسم مشترك. هكذا الأمر بالنسبة لحقوق الإنسان والديمقراطية والحرية، فاتساعها يتطابق مع أضعف تعريفاتها.
الواقع أن الكوني يهلك في العولمة. وعولمة التبادلات تضع نهاية لكينونة القيم،إنه انتصار الفكر الوحيد على الفكر الكوني. إن ما يتعولم هو السوق أولا،وفرة التبادلات وكل المنتجات، وتفّق المال المستمر.وثقافيا، اختلاط كل العلامات وكل القيم،أي البورنوغرافيا (2). لأن الانتشار العالمي لكل شيء ولأيّ شيء على امتداد الشبكات هو البورنوغرافيا : لا حاجة إلى الإطلاق للفجور الجنسي، ويكفي هذا الجماع التفاعلي. وفي نهاية هذه العولمة، لا يعود ثمة اختلاف بين العالمي والكوني. فالكوني نفسه تعولم، والديمقراطية وحقوق الإنسان تعبُر الحدود كأيّ نتاج عالمي، كالنفط أو رؤوس الأموال.
------------------------------------------------------------------------
1 -
موت عنيف: يرى بودريار أن الحضارة المعاصرة قد ولّدت عدوا من داخلها يتمثل في تشيؤ الإنسان وتنميطه مما أدى إلى ظهور عنف العالمي وهو عنف يعمل على إقامة عالم مُتحرّر من كل نظام طبيعي سواء أكان الجسد أو الجنس أو الولادة أو الموت، وهو أيضا عنف جرثومي يعمل بالعدوى وبرد فعل متسلسل يأخذ مظاهر مزاجية وعصابية ولاعقلانية مقارنة بعصر التنوير.
2-
البورنوغرافيا :تدل على التبادلات المتكررة للجنس والعنف معا بصورة يعمل فيها العنف مع طغيان العالمي في وقت واحد،إنها حالة التلازم العبثي.
--------------------------------------------------------------------
جان بودريار :فيلسوف وعالم اجتماع فرنسي معاصر نال شهادة الدكتوراه عن أطروحة عنوانها " نظام الأشياء" بإشراف المفكر " هنري لوفافر ". عرف بمعاداته للإيديولوجيات سواء منها ذات المنحى الكلياني الاشتراكي أو المنحى الليبرالي نظرا لأنها تمارس تسلطا على الأفراد بما تنتجه من علامات ورموز تشدّ إليها حياة الناس وتجعلهم يعيشون خارج ذواتهم،إذ تأسر دلالات العلامات الناس وتفرض عليهم سلوكهم من الخارج.