هناك جزئية غالبا منا يتم تناسيها لحظة تحليل موقف ديكارت من وجود الغير. وتتمثل في أصل الكوجيتو. هذا الأصل مرتبط بلحظة بناء معرفة بالأشياء من خلال الحواس. وقد اكتشف ديكارت أن الحواس تخدع، ومن ثمة لا يُمكن الثقة فيها. السؤال كيف نبني معارف يقينية وبواسطة أية وسيلة ؟ هنا كانت تجربة الشك المنهجي، بحيث شك ديكارت في كل شيء، ولكنه لا يمكن أن يشك في شيء واحد، وهو أنه يشك. وما دام الشك تفكير، فالذات تفكر من دون أن يطالها الشك كما في الحواس. إذن عملية التفكير الذاتي هي المحدد للذات بشكل يقيني وبديهي. يقول ديكارت :" متى انقطعتُ عن التفكير تماما انقطعتُ عن الوجود بثاتا." والنتيجة ميلاد الكوجيتو :" أنا أفكر أنا موجود.
ومادام الغير جزء من أشياء العالم الخارجي، وما دامت الذات في معرفتها لذاتها لم تحتج إلى وسيط خارجي، فإن وجود الغير عند ديكارت قابل للشك، ومن ثمة لا يُمكن الجزم بأن وجوده واقعي وحقيقي، الحقيقي هو الذات المفكرة بذاتها.النتيجة،إذا كانت الذات المفكرة هي مركز الحقيقة ومنطلقها، وأنها في معرفتها لذاتها اعتمدت على ذاتها ( وبمساعدة الأفكار الفطرية التي أودعها الله في الإنسان. لنتذكر حجة ديكارت في هذا الصدد من خلال مساءلته حول حيازته لمفهوم اللاّمتناهي وهو الكائن المتناهي ؟) ولم تعتمد على وجود غير أي ذات أخرى. ولكن لا ينكر وجود الغير بل ينكر إمكانية يقينيته كوجود خارجي مستقل عن الذات.والذات لا تستطيع إثبات غير ذاتها بشكل يقيني في فعل التفكير.إذن سيرجع ديكارت إلى عقله ويقيس وجود الذات على وجود الغير، ففي نصه الشهير "أنظر من النافذة " أزاح إمكانية وجود الغير واقعيا في لحظة " المشاهدة بالعين المجرد" (= الحواس)والتي يدبّ إليها الشك، الحجة أنني لا أرى أشخاصا بعينهم بل معاطف وقبعات قد تكون غطاء لآلات صناعية ( الشك) ولكنه حين أردة إثبات وجود الغير رجع إلى ما في " ذهنه من أحكام " وليس إلى قرائن مادية.لهذا قال في ذات النص:"..وإذن أنا أدرك بمحض ما في ذهني من قوة الحكم ما كنتُ أحسب أني أراه بعيني"( التأملات. التأمل الثاني). إذن نحن أمام وجود للغير افتراضي، بمعنى منا تتمثله الذات عن طرق الاستبطان العقلي وليس التجربة الحسية عن طريق المشاهدة بالعين.بالمحصلة بقي الكوجيتو سجين ذاته، يرفض الاعتراف بوجود واقعي للغير، وهذا ما سيُسمى بالاستدلال بالمماثلة انطلاقا من مركز الذات المفكر كمصدر للحقيقة، وليس من خلال خروج الذات المفكرة نحو الغير وتلمّس حقيقته فيه كواقع .
قد يكون لهذا الطرح مبررا فلسفيا، ولكن المشكلة بالنسبة للتلاميذ، تظهر لحظة ربط الموقف الديكارتي بالمعيش اليومي. السؤال كيف نقبل بمصداقية هذا الطرح الفلسفي المنسجم مع ذاته من منطلقات يؤمن بها ديكارت، ولكن على المستوى الاجتماعي، كان ديكارت يُخالط الناس، وله مراسلات مع إحدى الأميرات...كما أنه تزوج من خادمته، وأنجب منها طفلة لم تعمّر طويلا . إذن كيف يوفق ديكارت بين فلسفته حول وجود الغير، وبين حياته الواقعية في علاقته مع الناس. هذه من المفارقات المسكوت عنها.