. ُمدرّسة ومُدرّس مادة الفلسفة، الهوية والإصلاح
من المفارقات الناتجة عن الحديث عن هوية مدرسي مادة الفلسفة، كون المُخوّل له تقييم هذه الهوية هو ذاته مدرس الفلسفة.سؤالي ، ما مدى موضوعية وصدقية تشخيص وتقييم وإصدار أحكام من ذات المعنِي بإشكال تجربة مدرس ومدرسة مادة الفلسفة؟ والحالة هذه مَنْ له السلطة التقييمية كي يتحدث عن تجربة مدرسي مادة الفلسفة ؟ لو تعلق الأمر بجهة من خارج فضاء تدريس الفلسفة...لكان الأمر مفهوما ومطلوبا، ولكن أن يتحدث مدرسوا الفلسفة أنفسهم عن هويتهم كمدرسين، فهذا يضعنا أمام عدد من العقبات التي من شأنها أن تُشوّش على الرهان من طرح إشكالية هوية مدرسي مادة الفلسفة.مثلا قد يضع مدرس الفلسفة أو المؤطر التربوي أو المكوّن بمراكز التكوين نفسه خارج ما هو بصدد أشكلته وتشخيصه ونقده أو الإطراء عليه،وكأنه غير معني بما يتحدث عنه من منطق التخارج وليس التداخل، هذا الأخير قد يسمح بنقد ذاتي عكس الأول الذي يتعالى على تجربته الذاتية من خلال تقييم الآخرين وكأنه غير معني بما هو بصدد تقييمه ، أوكأنه من الفرقة الناجية، أو كأنه، بمنطق أفلاطون، أيقونة جوهرية هي التي تنتقي نُسخها الجيدة، كي تتحقق الوحدة والتطابق عبر تخليص النسخة من شوائب " الدنس" الآرضي، كي تُقبَل في عالم " ما فوق قبة السماء".بالمحصلة قد يزعم البعض امتلاك حقيقة هوية مدرسة ومدرس الفلسفة، لكن من دون أن يدخل ذاته كمدرس ضمن تصنيف أو توصيف مَنْ هو مدرس الفلسفة، .لكن في حالة ارتياد تجربة التداخل من خلال النقد الذاتي يُمكن أن يكون حديث مدرس مادة الفلسفة عن تجربته وعن هويته ،حديثا يتضمن حدّا أدنى شروط المصداقية،وهذا ما سأقوم به كمدرس لمادة الفلسفة،وسيظهر لنا لاحقا كيف أن نقد بعض مظاهر وسلوكيات مدرسي الفلسفة أو إبراز تميّزاتها..لا يعني بالضرورة أن منتقدها لا يُمارس بعضا منها، أو أن ما يُعتبر عيوبا هو مُنزّه عنها، لذلك وجب تجاوز حديث " الواعظ"، إذا تم فهم الوعظ باعتباره " النُّصْح وَالتَّذْكِير بِمَا يُقَوِّمُ الْأَخْلاقَ وَالأَعْمَالَ ِبناء على تجربة نَمُوذَجِية، فكرا وسلوكا!!!!".
من هذا المنطلق، سأتحدث عن إشكال الهوية والإصلاح من خلال تجربتي الوجودية مع الدرس الفلسفي داخل المؤسسة،وخارجها في الفضاء العمومي.وهذا سيطرح إشكالية الخُصوصي والعُمومي، في تجربة مدرس ومدرسة الفلسفة. وهذه التجربة في الفضائين، تجاذبا وتنابذا، كما سنرى لاحقا،هي التي تحدد وتُبيّن هوية مدرسة ومدرس الفلسفة.
أفهم الهوية في سياق الموضوع، وهي ليست بالمعنى الفلسفي المتداول بين الفلاسفة،أولا، كونها الجرأة في تنزيل القيم الفلسفية ، فكرا وسلوكا، في علاقة الشخص مع ذاته، ثم في علاقته مع الغير، كانوا أشخاصا أو كائنات من الطبيعة (الآخر).وتأخذ الهوية هنا طابع التميّز والفرادة وبالتالي فهي هوية متعددة بنعدد تجارب المدرسين والمدرسات، وأيضا هوية مفتوحة على كل الاحتمالات التي تروم الفلسفة تجسيدها على أرض الواقع مع احترام الروح الفلسفية كما سنبيّن لاحقا، وإلاّ ما الغاية من تدريس مادة الفلسفة ،أليست طريقة خاصة في التفكير كما قال هيغل، وموقفا مُلتزما ومسؤولا تجاه مختلف تجليات الحياة كما يرى دعاة الفلسفة التطبيقية؟ومن ثمة لا تخرج الهوية عن إطار المؤسسة وأطرها المرجعية والتي حوّلت الفلسفة إلى مادة دِراسية بشروط ورهانات واضعي البرامج والمناهج .وثانيا كون الهوية في السياق ذاته، تجربة وجودية من المطلوب أن تكون حاضرة في الفصل وفي الفضاء العمومي،إذ لا معنى لممارسة العقلانية والتسامح.. في المؤسسة وممارسة نقيضها في الفضاء العمومي.( وهذا يطرح إشكالية هوية مدرسي الفلسفة مع هويات مكتسبة أخرى تتغذى من السياسي والديني والآخلاقي...)باختصار ليس من المقبول مناقضة القيم الفلسفية وما ترومه الأطر المرجعية على علاّتها، في الحياة اليومية، وهذا يطرح إشكالية مدى تحويل القيم الفلسفية إلى شبه "عقيدة مدنية" يتم من خلالها محاسبة مدرس ومدرسة الفلسفة، في الفصل وفي الفضاء العمومي، من قبيل الحلال والحرام لدى الديانات السماوية، وهو ذات الأمر بالنسبة لمدرس مادة التربية الإسلامية،كأن يكون تاركا الصلاة وسكّير وزاني ولا يصوم رمضان..).كما ليس مقبولا من مدرسي الفلسفة أن ينشروا قيم التسامح والتعدد والنقد والعقلنة والحداثة، لكن في الفضاء العمومي يُناقضون ما كانوا يُلقنوننه لتلامذتهم، ولدينا أمثلة كثيرة في هذا المجال،وفي واقع الحياة اليومية بحيث يظهر مدى التناقض والغرابة بين ما يتم تبليغه في الفصل، وبين ما يُنشر من مواقف وسلوكات تصل إلى حدّ التساؤل هل هذا مدرس أو مدرسة فلسفة، وسأعطي بعض الأمثلة على ذلك.الأمر الذي يصل إلى حدّ تخوين مدرس ومدرسة الفلسفة من قبل زملاء من مدرسي الفلسفة أنفسهم،وأتساءل عن معايير تجريد صفة مدرس الفلسفة من ممارسي تدريس الفلسفة؟ وهي من وجود شروط قبلية تمنح صفة تدريس مادة الفلسفة ؟ أحد مدرسي الفلسفة بجهة آسفي طرح السؤال التالي: هل يُمكن للمتخصص في السياسية أن يُدرّس مادة الفلسفة؟ وكثير من المتخصصين في مواد غير الفلسفة أسندت لهم مهام تدريس مادة الفلسفة وخاصة اللغة العربية والتربية الإسلامية. ومن المفارقات المسكوت عنها بالرغم من تداولها في أحاديث خاصة ، سواء بين مدرسي الفلسفة أو بين المراقبين التربويين، هو تصنيف هوية وكفاءة مدرس الفلسفة حسب الأفضلية وفق تخصص مدرس الفلسفة، بحيث يتم التنقيص من كفاءة المدرسين المتخصصين في علم الاجتماع وعلم النفس، وتخصيص المتخصص في الفلسفة العامة مكانة أشرف وأقدر وأكفأ من المتخصصين في علم الاجتماع وعلم النفس. وقد عاينتُ هذا التمييز " التفضيلي" بخلفية تنقيصية من أحد المراقبين التربويين الذي تمّ تكليفه بالقيام بمهمة الإشراف على الكفاءة، بحيث كان مُقتنعا بصعوبة تدريس المتخصصين في علم الاجتماع وعلم النفس لمادة الفلسفة، وبالتالي تُنزع عنهم هوية أو حقيقة مدرس الفلسفة، في الوقت الذي يتم فيه قبول والتسامح مع متخصص في اللغة العربية أو التربية الإسلامية الذين يتم سدّ الخصص باللجوء إليهما. بل أكثر من ذلك، يتم الصراع بين مدرسي الفلسفة أنفسهم لحظة تصفية الحسابات باللجوء إلى القدح في المتخصصين في شعب العلوم الإنسانية والتشكيك في قدراتهم الفلسفية، وقد يصل الأمر إلى آباء وأمهات التلاميذ، الذين يتدخلون عبر جمعيتهم في إسناد تدريس مادة الفلسفة في الثانية بكالوريا لمدرس متخصص في الفلسفة وليس في إحدى مسالك العلوم الإنسانية!!!! سؤالي، هل هذا التصنيف الشبيه بتصنيف أفلاطون " الناس معادن" له علاقة بهوية مدرس الفلسفة، علما أن الحديث عن الهوية يبدأ من خلال ممارسة مهنته في المؤسسة كمدرس لمادة الفلسفة، وقد نختلف ، كما بيّنا سابقا، حول مدى انسجام الروح الفلسفية مع ممارسة مدرس الفلسفة في الفضاء العمومي.
وأخيرا، يستمد مدرس مادة الفلسفة هويته من خلال انتمائه لما يُصطلح عليه " المجتمع الفلسفي"، وإلا سيكون مجرد موظف يُمارس مهنة كباقي المهن، ويُطبّق التعليمات ميكانيكيا، ولا يحمل أيّ همّ فلسفي اجتهادي وإبداعي، بحيث لا يحضر الندوات الفلسفية ولا يشتري المراجع والمصادر الفلسفية، ولا يقوم بتحيين معارفه الفلسفية والبيداغوجية....يعتمد حرفيا على الكتاب المدرسي وحاليا كتاب التلميذ وكفى المؤمنين شرّ القتال.وفور خروجه من الفصل لم تعد تربطه بالفلسفة أيّ رابط، ويتفرّغ لمشاغله اليومية الخاصة بعيدا عن هموم مادة الفلسفة، وحتى التحضير للدرس الفلسفي أو تصحيح الفروض الكتابية يتم بنفس نمطية وميكانيكية عملية التدريس.
هناك مفارقة أخرى قد نختلف في تقييمها. عدد من مدرسي الفلسفة تتفارق تجربتهم الإبداعية في الفلسفة مع واقع تدريسهم الفصلي، بحيث يُشاع أن عددا من مدرسي الفلسفة الذين برزوا في الساحة الثقافية من خلال كتابات بحثية في مختلف المنابر..هم ليسوا بالقدر من الكفاءة الفلسفية في فصولهم الدراسية!!! والبعض من هذه الفئة تُمارسة السرقة الأدبية والسطو على مقالات لزملاء لم ينشروها، وعدد من ما يُنشر لمدرسي الفلسفة هو نتيجة عملية سرقة لمجهودات أصدقائهم في التدريس..ولدينا نماذج وأسماء معروفة في ساحة التأليف الفلسفي. وهذ طبعا يطرح جانبا من قضية هوية مدرس ومدرسة الفلسفة، وبالتالي التفكير في كيفية إصلاح مثل هذه الأعطاب.