كمال صدقي مدير المنتدى
عدد الرسائل : 2399 العمر : 68 البلد : أفورار العمل : متقاعد مُهتم بالدرس الفلسفي تاريخ التسجيل : 20/12/2007
| |
كمال صدقي مدير المنتدى
عدد الرسائل : 2399 العمر : 68 البلد : أفورار العمل : متقاعد مُهتم بالدرس الفلسفي تاريخ التسجيل : 20/12/2007
| موضوع: رد: لماذا لا نفكر فلسفياً ؟ السبت سبتمبر 20, 2014 10:01 pm | |
| النهاية تحوم حولنا ونحن عن علاماتها معرضون لاهون، ولعله كلما كانت العلامات أكثر وضوحاً كان نسياننا لها أكثر عمقاً. لهذا إحدى مهمات الفكر الأساسية، بالنسبة لنا، ليس تذكر الوجود، ومواجهة نسيانه، بل تذكر النهاية ومواجهة نسيانها. فسؤال الوجود ليس بالجذرية الكافية إلا إذا أخذناه من جهة سؤال النهاية، وذلك بتوسيع إحدى أهم البنى الكيانوية للدازاين «الوجود ـ نحو ـ الموت» لتشمل الوجود بحد ذاته «الوجود ـ نحو ـ النهاية». فالمقلق بالفعل ليس الوجود ونسيانه وإنما النهاية والنسيان العميق الذي يحفها. نسيان يمنحنا طمأنينة زائفة، كالتي قد نشعر بها ونحن نقرأ بعض الأعمال الأخيرة لـ سلوتردايك(2)، التي تؤكد على الطابع المابعد ـ تاريخي للعالم الغربي: عالم مابعد بطولي وما بعد جذري؛ عالم التوازنات والوسطية. وتذكر يلقينا في قلب البركان، كالإلقاء الذي نشعر به ونحن نقرأ الكتاب الأخير لـ جيرار «إتمام كلوزڤيتز»: العالم المعاصر عالم أبوكاليبتي، في تصاعد مستمر نحو الجذرية، عالم الكارثة والصراع الأكثر حدةً والبطولات الأكثر وهميةً الأكثر تدميراً. عالم لم نشهد له مثيلاً في جذريته، عالم المحاكاة الأشد عنفاً والتموقعات الأكثر تطرفاً.(3) الفلسفة، كما قال عنها دريدا ذات مرة، تصلح لطمأنة الأطفال، اللهم إذا ساعدتنا على مواجهة ما يثير الخوف. نقصد، إذا كفت عن المشاركة في لعبة النسيان ودفعت السؤال إلى الانخراط في الجوانب المقلقة من حاضرنا. وما العنف إلا أحد تلك الجوانب التي تستحق اهتماماًً مخصوصاً والتي لم يعد من المقبول أن يتجنبها السؤال الفلسفي فـ«السؤال الفلسفي، يقول صفدي، الذي هو بدون سلاح، ولن يمتلك أي سلاح سوى براءة اقحامه، العفوي، يغدو حزيناً ومتحيزاً على العنف مهما كان هوله. إذ لن يعود من المقبول أن يعتذر السؤال الفلسفي عن وجوده كلما أطل وجه العنف. أن يتنحى عنه، ويقصى ذاته من طريقه. أن يتركه يعبر، ثم يطل هو من جحره، ليلتقط آثار مخالب العنف على ضحاياه الصريعة وراءه. لن يكون مقبولا القول المعهود أن وقت العنف ليس وقت الفلسفة، وأن العقل يجب أن يلتجئ إلى جغرافية أخرى منزاحة مسافياً أو زمانياً عن جغرافية العنف، بل يجد السؤال الفلسفي نفسه فجأة متدحرجاً ومندرجاً في طريق العنف ذاته» (مطاع صفدي، نقد الشر المحض I، ص 100). نتسلح بالسؤال الفلسفي لإحداث تغيير ما، إذ «حيثما يتصاعد الخطر، يتصاعد أيضاًً ما ينقذ»/هولدرن، دون أن نطلب من الفلسفة ما يفوق طاقتها فإن «الفلسفة لا يمكن أن يكون لها تأثير مباشر يغير الحالة الراهنة للعالم»، (هيدغر، في الحوار الذي أجرته معه مجلة «شبيغل»، ولتدقيق أكثر يمكن العودة إلى كتاب هيدغر مدخل إلى الميتافيزيقا). مازال بالإمكان بناء عالم أفضل، مازال هناك فسحة للفعل الإنساني. لكن من ذا الذي بإمكانه إنقاذنا؟ سؤال عويص، ربما يفتح لنا قول هيدغر «لا شيء سوى إل_ه يمكن أن ينقذنا» درباً نسلكه للخروج من متاهة السؤال، جسر عبور للمستقبل. في هذا العمل سنهتم بعنف الإنسان اتجاه أخيه الإنسان، من حيث منشأه وعلاجه ـ على أمل الاهتمام بعنف الإنسان اتجاه الطبيعة في أعمال مستقبلية، خصوصاً من جهة علاقة العنف بالدين لنستمر بذلك في النقاش الذي سبق وبدأناه مع سلوتردايك وأسمان. هذه العلاقة سيتم تناولها خلال هذا العمل بالاعتماد على المثن الجيراردي، ويعود هذا الاختيار لسببين رئيسيين: أولا: تساعدنا التحليلات الجيراردية على التخلص من التصورات العقلانية المغلقة، تلك التي تربط ربطاً ميكانيكياً بين العنف والدين، حيث لا ترى في هذا الأخير غير خرفات أزهقت، ومازالت تزهق، أرواح البشر. كم كان العالم سيكون جميلاً بدون دين، هذا ما تقرره بوثوقية تلك التصورات، أما هذا العمل فهو يتساءل كيف هو العالم بدون دين.. ماضياً، حاضراً ومستقبلاً؟ ثانياً: تعميق نقاش المقاربة السلوتردايكية والأسمانية للدين وعلاقته بالعنف. فإذا كان كتاب «حمق الله» لـ سلوتردايك وأعمال أسمان حول التوحيد الموسوي، خصوصاً كتاب «العنف والديانة التوحيدية»(4)، تتجه مباشرة نحو نقد المقاربة الجيراردية، وإقامة علاقة حميمية بين الدين وممارسة العنف، فإنه يمكن بالتأكيد الانطلاق من المقاربة الجيراردية لنقد سلوتردايك وأسمان. عموماً وضع تلك المقاربات وجهاً لوجه يساعدنا على فهم الموضوع بشكل أعمق ويحررنا من النقاشات التبسيطية الاختزالية التي هيمنت على دراسة علاقة العنف بالدين، حيث ينظر للدين إما كأصل كل البلايا، يصدر عنه العنف كما يصدر اللهب عن النار، وبالتالي لا خلاص إلا بالتخلص منه. وإما ينظر إليه على أنه برئ كل البراءة من أي نقطة دم أزهقت. بيد أن الموضوع أعقد بكثير، أعقد من أن يحيط به فكر ثنائي القيمة. إجمالاً نحن لا نعتقد أن الدين لا يصدر عنه سوى الشر، ولا هو منزه كل التنزيه، وهذا ما تبرزه قراءة متأنية ومتزامنة لـ سلوتردايك وأسمان وجيرار، هذا لا ينفي أهمية مفكرين آخرين. تحدد معمارية هذا الموضوع كالتالي: سننطلق من معالجة علاقة الديانات البدائية بالعنف، حيث سنقف عند التضحية باعتبارها عنف موجه نحو التخلص من عنف الجماعة، والدور الذي يلعبه ميكانزم أضحية الفداء داخلها؛ لنخلص أن تلك الديانات هي ديانات عنف موجهة نحو السلام. بعد ذلك سنقف بشيء من التفصيل عند السيكولوجيا المحاكاتية ـ البيذاتية لأهميتها ومركزيتها داخل الفكر الجيراردي، لنبرز ارتباط العنف بالرغبة، على اعتبار أن كل رغبة هي محاكاة لنموذج. وسننتهي بدراسة دور المسيحية في القضاء على العنف، وعلاقتها بالديانات البدائية، في إطار ذلك سنتساءل، بشكل أولي، عن مدى علمية نظرية جيرار ما دامت تتجاهل الإسلام ـ لمن وجد مصطلح تجاهل قوياً يمكن أن يستعمل مصطلح غياب، عموما سنستعمل نسيان ـ. وفي سياق كل ذلك سيتم إبراز كيف أن الدين هو علاج العنف. الدين بما هو تجاوز للعنف I. في الديانات البدائية تعد التضحية (le sacrifice) إحدى الطقوس المميزة للديانات البدائية، والتي نالت حظاً وافراً من اهتمام الأنثروبولوجيين والإثنولوجيين، إذا قبلنا بالتمييز الذي يقيمه ليفي ستراوس. فما دلالة هذا الطقس؟ كيف نفهم التضحية وكيف نؤول حضورها لدى المجتمعات البدائية؟ ما هي وظيفتها وما هو أصلها؟ وبالأخص على ماذا يدل العنف الملازم للتضحية؟ (لتحديد دور العنف داخل التضحية يعتمد جيرار على ميكانزم ـ إوالية ـ الاستبدال). فالعنف التضحوي عنف حُرف عن موضوعه الأصلي ووُجّه نحو موضوع بديل. الأضحية موضوع بديل يسمح بتفريغ طاقة العنف دون الوقوع في إحراجات. بمعنى أعم، تسمح التضحية بالحفاظ على سلامة أشخاص هم الموضوع الأصلي للعنف لكن المساس بهم يضع الجماعة في وضعية حرجة، يقول جيرار «يمكن أن نتصور، مثلا، الذبح الشعائري l’immolation لأضحية حيوانية تُبعد العنف عن بعض الأشخاص الذين نبحث عن حمايتهم، وذلك بتوجيهه نحو كائنات موتها قليل الأهمية أو غير مهم بتاتاً»(5). غير أنه لا ينبغي فهم الاستبدال في دلالة أخلاقية، حيث يمثل الموضوع البديل بريئاً يكفر عن ذنب لم يقترفه، إذ أن المسألة ليست مسألة تكفير وبراءة أو مسؤولية. كما لا ينبغي أخذه باعتباره استبدلاً سيكولوجياً، رغم توافقهما في المنطق. فالاستبدال التضحوي ليس من جنس الصفعة التي يوجهها الأب لابنته بدلاً من توجيهها لمديره؛ حيث العنف نتاج ضعفين: ضعف الأب أمام مديره، وضعف الفتاة أمام أبيها. الاستبدال التضحوي في عمقه فعل سوسيولوجي؛ مسير من طرف المجتمع لصالح المجتمع. فهذا الأخير هو المسؤول عن تحويل العنف عن موضوعه الأصلي نحو موضوع بديل للحفاظ على سلامة وحياة أفراده. من أجل هذا الأضحية هي أضحية اجتماعية تحمي المجتمع وتحافظ عليه «إن العلاقة بين الأضحية الممكنة، يقول جيرار، والأضحية الحالية لا يجب أن تعرف بمصطلحات الذنب (Culpabilité) والبراءة، فليس هناك ما يكفر عنه. المجتمع يبحث عن تحويل عنف يهدد المنتمين إليه نحو أضحية هي، في حدود معينة، قليلة الأهمية»(6)..
…. التتمة في العدد
أسلمة الأسرة المسلمة بين المعقولية واللامعقولية عبدالكريم عنيات مقدمة مخصوصة للإستشكال والإستصعاب: ذهنية التبسيط مظهر من مظاهر الكسل المعرفي، والنزوع إلى الاختزال والتوحيد علامة العياء والإنهاك الإبستمولوجي. لذا، فالفكر المتوثّب والنشط يدل فيما يدل على الشجاعة تجاه الواقع، وعلى روح المحاربة والمعاركة الأنطوقية بما هي موقف إنسان قوي الفكر. يمكن أيضاًً وصف التلذذ بامتلاك «يقينيات» ناجزة بأنه ضرباً من الخمول المنطقي والعلمي. في المقابل فإن حال الفكر المتجدّد دوماً يظهر في أنه لا يرضى بنهاية، كما لا يرضى بإجابة تُؤَقْنم وتُحنط. أوَليس الفكر الفلسفي هو فكر النجازة المستأنفة والمفتوحة دوماً، بما هو من حيث ماهيته عدو الامتلاك الحصري للحقيقة، أليس هو الفكر الذي يُنمذج الإستسئال ويعتبره من الأهمية بمكان، ويرتاب من الأجوبة الصدئة من خلال تحويلها إلى أسئلة، دوماً(1). وهنا يتحوّل الفكر إلى سيال مفهومي دائم الحركة، إنه إلى النهر المجنون أقرب منه للبحيرة الهادئة الراكدة. لكن هذا قد يكون ترويجاً لنمط من التفكير، تمَّ دحضه وتصفيته منذ القدامة الإغريقية على يد أفلاطون وأرسطو ـ من بعده باعتباره خليفته المذهبي. فالفلسفة التي تعتبر الهوية كامنة في التغير والاختلاف، بما هي فلسفة مثَّلها هوميروس الشاعر وهيراقليطس الباكي وپروتاغوراس المتاجر بالحكمة. لقد تمَّ كشف استحالة المنطق الذي يُصير الأشياء دوماً، ويجعل كل شيء في كل شيء. فلا يعقل أن يكون الحار بارداً والجميل قبيحاً..الخ. كما لا يمكن أن يكون الموضوع الواحد حاملاً لمحموليْن متناقضيْن في نفس الوقت ونفس الوضعية، لأن إلغاء الحدود بين الحدود هو ضرب من الجنون المفهومي والمعرفي، كما أنه ضرب من تدمير المعقولية العلمية. يقول أرسطو مفنداً منطق التحوّل من الجهة السلبية، ومؤسساً لمنطق الهوية من الجهة الإيجابية: «من المبادئ التي لا يجب أن تخدعنا فيه الأشياء ـ والأكثر من ذلك ـ هو ضرورة الاعتراف بأن هذا المبدأ هو حقيقة دائمة، وأقصد به أن الشيء الواحد لا يمكن أن يكون في وقت واحد موجود وغير موجود. والأكيد أنه لو تمَّت مسائلة هيراقليطس ذاته، وبالطريقة التي عرضها علينا في التفكير، فمن الأرجح أننا نلزمه على الاعتراف بعظمة لسانه أنه لا يمكن للعبارات المتناقضة أن تكون صادقة بالنسبة لذات الموضوعات [...] فهو من أولئك الذين هدموا الخطاب المعقول بصورة تامة»(2). والحقيقة هي أن كل الفلسفة الإغريقية والفلسفة المتأغرقة من بعدها؛ سواء الرومانية أو المسيحية أو الفلسفة الإسلامية الكلاسيكية، وحتى الحديثة والمعاصرة، كل هذه الفلسفات تعبّر بوجه ما عن النزاع بين مبدأيْ الهوية والصيرورة. وتمظهرات الصيرورة والهوية أوسع بكثير مما نعتقد. فمن ظهورياته نجد: التاريخ والحقيقة، الفن والعقل، الإنفتاح والإنغلاق، الأرض والسماء، الكفر والإلحاد، الإنجازية والنجازة، الحركة والسكون، الحسية والعقلية..الخ. وفي أبحاث سابقة، كنا قد أثبتنا أنه يمكن رفع مبدأيْ الهوية والصيرورة إلى مرتبة «الأنطولوجية العامة»، بحث يمكن تفسير كل مظاهر الحضارة الإنسانية من خلالهما. ونظراً لاعتقادنا بشمولية الصيرورة والهوية وارتقائهما إلى «فلسفة المبادئ»، فإننا عملنا على تطبيق ذلك على مسألة «الأسرة المسلمة»، وقدمنا العنوان أعلاه وهو: «الأسرة المسلمة بين الصيرورة والهوية». ورغبة منا في تناول الموضوع من زاوية مستجدة، وعدم الوقوع في مطب «قول المقول» أو «تحصيل الحاصل» بما هما مغالطات منطقية تقلق العقل. رأينا أن ننهج طريقاً جذرياً في التفكير. لأن التفكير الحر يقتضى طرح أسئلة غير مسؤولة عن نتائجها التي قد تنتج، والحقيقة بما هي مطلب العقل المفكر هي ثمرة الجرأة في اختراق المألوف والمُسيّج. فما جدوى أن نكون أحرار داخل سياج مهما اتسع؟ لذا فنحن نقول: ما أجمل مغامرة فكرية غير معلومة النهاية والمآل، وما أقدس البحث الذي لا يوجه للرجال والأنظمة المغلقة عن التجديد بغية محاباتها والانتفاع منها. ثم ما قيمة فكر ما إن لم يسر على حافة المخاطر على حد قول «صالح هاشم»، أو فكر لم ينبش القضايا المحنطة بفعل الزمن وبفعل تسلّط الفكر. فسلطان الفكر أقوى بكثير مما نعتقد من سلطان الرجال والدول والأنظمة وحتى المال… وتتقوى ضرورة الفكر الحر والمتحرر، عندما يتعلّق الموضوع بمسألة مراجعة الذات ومسائلة الهوية الثقافية. لأن أخطر ما في الثقافة المحلية هو «مجاملة الذات»، لذا فإن «نقد الكوچيتو» هو المسلك الوحيد لتقويته وتحصينه من الهجمات الخارجية. ومن مظاهر الثقافة المحلية يبرز موضوع التربية بما هو موضوع جوهري وأصلي، كما أنه أيضاًً موضوع مظهري، بحيث أن تربيتنا تظهر دونما صعوبة للغير في أبنائنا. وموضوع الأسرة بما هي حيز تربوي؛ مهمتها (التربية وحقيقتها) و(العلاقات التجايلية وسرها)، موضوع ذا شجون، لأنه يلد ويتولد، وبالتالي فمُسألته ضرورة إبستمولوجية إن لم تكن واجب ديني مقدس. فهل هناك شيء بديهي وطبيعي في فعل التربية ما عدا الألفة والعوائد؟ أَوَليست التربية أولى بالإصلاح والتنقيب والخدمة من إصلاح الأراضي الشاسعة بغية الفائض الإنتاجي أو تنقيب الآبار بهدف جمع المال؟ إن رسالة في إصلاح العقل والروح أولى وأهم بكثير من رسالة في إصلاح الأرض والمال في مجتمع توجه عن ضرورة، لا عن اختيار، إلى « اقتصاد المعرفة والروح». إن التربية كتصور اجتماعي، لا يشذ عن المبدأ السابق. فهو قائم بين مبدأين مُشكِّلان المسألة: ـ أولاً الهوية باعتبارها المبدأ الذي يطابق الشيء بذاته، مانحاً إياه الديمومة الثابتة لعلة ظاهرة مد خيط وصل جَيلي. بحيث يتلقى الجيل اللاحق من السابق ثقافة ناجزة مختومة تامة، ليأخذها بدوره مأخذ «حمالة الحدث» إلى اللاحق ثم لاحق اللاحق…الخ، دون كلل أو ملل. ـ ثانياً الصيرورة بما هي فكرة تدل وتستدل على أنه لا شيء ثابت على حاله، وإنما الثابت وحده هو «اللا ـ ثابت» بمعنى المتغير والسائل. وأن تطابق الجيل اللاحق بالسابق ـ سواء القريب أو البعيد أو حتى البعيد جداً ـ تطابقاً تأصيلياً هو وهم الأوهامِ. كل شيء يتزحزح عن أمكنته السابقة، إن إرادياً أو ضرورياً، فالهوية الحقيقية هي الاختلاف، والحق أنه التغيير كلما كان إرادياً ناشئاً عن وعي وتقبل وقبول كان أحسن حدوثاً وأنفع نتاجاً من تغيير مفروض قسراً من الخارجي الأجنبي. ونحن على دراية تامة بمخاطر التغيير القسري الضاغط، ليس فقط على أولادنا بل علينا أيضاًً. الأسرة المسلمة، بما هي أسرة طبيعية قبل أن تكون ثقافية. بمعنى أن ما ينطبق على الأسر بالإجمال ودون تحديد، ينطبق على أسرنا الإسلامية. أما الفارق هو فقط في مضمون الثقافة وكيفية العقيدة ونوع الممارسة. أما الصورة أوالشكل فهو أنثربولوجي بعامة دون مفارقة ومخالفة. لذا فالطبيعة الإنسانية وما تقتضي من قواعد وضرورات طابعة ليست موضوع محادثة أو مجادلة. ومنه فالمشكلات التي يحق لنا طرحها هنا، وهي مُساءلات عامة ومخصوصة في ذات الوقت، مرتبطة بموضوع التربية الجيلية (أو المجايلة)، وما تفرزه من معضلات على مستوى التقليد والحرية أو الهوية والصيرورة، وهي توالياً: ـ أولاً؛ هل من المشروعية العقلية والفردية ـ الإنسية أن يكون الجيل اللاحق نسخة مُطابقة للأجيال السابقة التي عمرت القدامة وأرادت أن تعمر الحداثة وما بعد الحداثة و… الخ؟ أليس مبدأ التوريث التربوي المطلق ضرب من الأنانية الجيلية، بحيث يكون الجيل المؤسس (أي الأول إنْ صح لنا الحديث عن جيل أول خالص ليس قبله أجيال سابقة أخذ منها)، فاعلاً مبدعاً قائداً والأجيال اللاحقة منفعلة تابعة منقادة؟ كيف لنا أن نتطبب من تخمة الماضي المتمثل في طغيان قيم الأسرة السابقة؟ ـ ثانياً؛ لماذا تخضع كل الأسر في نهاية المطاف للتغير المُعنف والقسري إنْ جوانياً أو برانياً، في حين أنها لا ترضى به ـ وعن طواعية ـ كمبدأ تربوي معترف بضرورته وبمنافعه؟ أليس المنفعة كل المنفعة اعتناق مبدأ التغيير والصيرورة التربوية كهوية بيداغوجية أحسن من إخراجه من النافدة قسراص، ليقتلع لنا كل البيت لاحقاً؟ ـ ثالثاً؛ إن أردنا أن نقترض العام علماء نفس الحضارة والتربية، فإننا نستشكل أمراً آخر: لماذا نفهم دائماًً وأبداً، متعلمين ثم معلمين لاحقاً، أن الهوية تتعارض مع التبدل في التربية، مع العلم أن هذا المفهوم في ذاته، أي الهوية، يستبطن التغير والحركة والمخالفة والمغايرة؟ أليس هذا عرض مرض تربوي مفهومي ومن ثمة علة حضارية بالعموم؟ إن هذه الأسئلة، وغيرها التي قد تبرز بروز الضرورة التحليلية. ناتجة عن «قلق صادق» من مسائل حساسة، قد يكون البحث فيها دون خلفيات ذاتوية، سبيلاً ممهداً للخروج من أكثر أزماتنا تجذراً، وهي أزمة «الإنسان» بوصفه صانعاً للحضارة والثروات وأيضاًً النكسات. وسوف نفكر مسألة الأسرة المسلمة من منظور «التدين الماهر» أو «المهارة في التدين»، على اعتبار أن التدين الحالي أصبح عنوان أطروحة عويصة، مضمونها التخلّف والمرض والتمريض (أي نقل العدوى أو الإمراض)، بما هو خطر حضاري يهدد الأرواح قبل الأسوار. إن إصلاح «التدين» في الأسرة المسلمة المعاصرة يصبح العنصر الأول من الرسالة التي تصلح الإنسان والروح والعقل. من أجل العمل على مقاربة هذه الأسئلة، مقاربة جذرية وشجاعة في آن، سنعمل أولاً على تحديد المنهجية والأدوات، ثم المراحل والعناصر تالياً. أما المنهجية التي سنعتمدها في هذا العمل قد تكشف لنا عن المستور، وتوضح لنا المغموم، وتكمل لنا الناقص. فالتنويع المنهجي يقينا ضربات النقد الذي يضع الإصبع على نقطة التمذهب والتحيز متشككاً. لذا سنأخذ بالوسائل التحليلية والتركيبة والمقارنة والنسابة والعقلية والمادية والظاهراتية.. الخ. سيكون منهجناً لامنهجي بالمعنى المتعارف عليه، أي هو منهج غير منتمي للمعايير التقليدية المتزمتة، بل المنهج الذي يأخذ من الكل ما هو منير ومنتج. هنا سنكتب بعدة أيدى من أجل السيطرة على الموضوع من جوانبه المختلفة. فالتعدد المنهجي هو من الفضائل المنهجية، لأن الواحدية الطرائقية تشابه الرؤية الصقلوبية (الكائن ذو العين الواحدة في الميثولوجيا الإغريقية). I. ما التربية؟ ما الصيرورة؟ ما الهوية? 1) ما التربية؟ التربية مفهوم إنساني مخصوص له بامتياز، لأنه مؤسس على الحركة الحلزونية un mouvement en spirale الخلاّقة. في مقابل النزوع التكراري المنزوع الذكاء كلياً (أو جزئياً) عند الحيوان غير العاقل. ونحن نستعمل عبارة الحركة الحلزونية للدلالة بأن التربية عند الإنسان ليست توجه خطي مباشر إلى الأمام، بل هناك ضرب من التكرارية الوظيفية، والعودة للمماثل المقصودة. وهنا يظهر طرفي التقابل في فعل التربية بما هو فعل إنساني، وهما: الهوية بما هي تكرارية الثابت والصيرورة بماهي خطية مستقيمة لا تلتفت إلى الوراء أبداً. أولاً، نعتقد أن فعل التربية صعب التصور في بداياته الأولى. ذلك لأن التربية لا تتم إلا من جيل خضع للتربية مسبقاً، إلى جيل جديد يستقبل تلك التربية. لذا المشكلة التي تتبدى هي: كيف نشأت التربية في أول الأمر، مع العلم أن هناك أجيال أولى في الإنسانية لم تخضع لفعل التربية في الأصل؟ وتلك الاجيال هي ما نسميها الهمجية أو البدائية أو الكانيبالية.. الخ. فالإنسان الطبيعي مفتقر كلية إلى تربية روحية أو أخلاقية، ما عدا تناقل بعض المهارات العملية الحيوية. لذا يمكن التقرير افتراضياً بأن التربية كانت في أولها جسمانية/بيولوجية، حيث يعلِّم الجيل الكبير (الآباء والأمهات البيولوجيين) بعض الحركات الضرورية للحياة، وردود الأفعال الناجحة تجاه الظروف المختلفة. وهكذا تدرجت التعليمات وتراكمت الملاحظات من العلمي النفعي الحيوي إلى السلوكي القيمي والأخلاقي، وأخيراً المعرفي بما هو تناقل خبرات نظرية. وهذا يدل على أن النظرية القديمة حول العصور الذهبية الأولى والسير الإنحداري التي ابتدعها هوزيود الشاعر الإغريقي، وتبناها أفلاطون من بعده في محاورة طيماوس، وأورثها قسراً لكل الديانات التوحيدية بما فيها الفهم الإسلامي، هي نظرية غير منطقية بالمرة، لأن القول بأن الإنسانية كانت في قمة التثقيف والتربية ثم أفل النجم التربوي وانحدر الإنسان والإنسانية معه في ضرب من الجهلية والظلامية بما هما علامات للانحطاط والتلوث الروحي. هذا القول يتناقض مع مسلمة التراكمية التدريجية للتربية. وهذا يدلنا إلى مبدأ أساسي وهو أن الأجيال اللاحقة تكون دوماً أكثر تثقفاً من السابقة، على أساس أنها استوعبت الخبرات القديمة وأضافت ما لها من خبرات. وفي هذا السياق يقول برنار دي شارتر مبرزاً العلاقة التدرجية المتجهة نحو الأعلى والأفضل بين الأجيال: «نحن نشبه الأقزام القابعين على أكتاف العمالقة، إذن فنحن نرى من الأشياء أكثر مما رأوا، ونرى أبعد مما رأوا [...]، ما سبب ذلك؟ ليس هو حدة نظرنا ولا هو طول قامتنا؛ بل لأننا محمولون ومرفوعون فوق قامات العمالقة العالية.»(3). إن هذا المبدأ، وإن كان شاعرياً جميلاً، يبغى البيان والتبيين. إلا أنه يحمل حقيقة تربوية تأسيسية قيِّمة. على اعتبار أنه يصور لنا حقيقة التجايل، من خلال إسقاط الصراع الخفي والظاهر بين الجيل القديم والجديد، ويعطى لكل جيل حقه في الإنجاز والعطاء. فالجيل القديم جيل عملاقي عال لأنه قدم المشعل، أما الجيل الجديد ورغم قصر قامته مقارنة بالقديم، إلا أن بعيد النظر كما وكيفا مما يجعله يشعر بالاعتبار والقيمة والاستقلال. وما شعر به الجيل القديم إيجاباً أو سلباً، سيشعر به أيضاًً الجيل الجديد لأنه سيتحول إلى حلقة في سلسلة لا ندري بداياتها ولا نهاياتها بالتحديد المطلوب. نحن لا نهدف في هذا المقام إلى تحديد واستجماع التعريفات القاموسية والمعجمية للتربية، بل نبغى القبض على العناصر المهمشة والمرذولة في التربية بثقافتنا العربية الإسلامية الحالية. أصبحنا نلفظ اليوم مصطلح التربية بضرب من الآلية والتبسيط والتسطيح، يثير خوف مفهومي حاد. التربية ليست تلقين وتمرير وصناعة أجيال مثلما تصنع الأشياء. والحقيقة أن صناعة الأشياء في زمننا الأُفولي المصبوغ بالانحطاطية تلقَّى الاهتمام أكثر من التربية بما هي مهمة خطيرة. والجانب المغيَّب ـ إن قصداً أو عفوا في فلسفة التربية/العربية الإسلامية ـ هو عنصر المسارية والديمومة. كيف ذلك؟ إن التربية لا تدل إلا على «مسار» Prosususe يستهدف التطوير والتعديل نحو الأحسن؛ قدرة ما مفردة أو عدة قدرات مجتمعة. هذا التطوير يكون ممرحل وفق مراتب مدروسة جداً(4). من أجل التنمية الحعام للكفاءات والمَلَكات الفردية للمتعلّم. لكن هذا التحديد لا يدل أبداً على نجازة ونهائية التعريف، إنما في ثناياه نلحظ أهم مشكلة تربوية تضع الفعل التربوي برمته موضع إستشكال واشتباه. وهي المشكلة التي أثارها كبار فلاسفة الذين تأملوا التربية تأملاً مفتوحاً وخالياً من أي غرض أو أي مذهب تربوي مغلق وناجز، أو ما يسمَّى باللغة الفرنسية éducationnisme بما هو عقيدة ترسم صورة نموذجية أو باراديغمية مثالية للأجيال اللاحقة، ولا تعترف بإمكانية وجود جيل جديد يخترق النموذج ويركب كتف الجيل العملاق بما هو ممثل للجيل الجديد. وتتمثل المشكلة التي أثارها هؤلاء الفلاسفة فيما يلي: هل نعتبر الجيل الجديد (الأطفال ـ التلاميذ ـ المتعلمين) غاية في حد ذاتها أم وسيلة وأداة؟(5) هل الجيل القديم بما هو الجيل الممتلئ ثقافياً، يقوم بتربية الجيل الجديد من أجل مصلحته هو أم من أجل مصلحة الأبناء بما هو ممثلي الجيل الجديد؟ قد تبدو هذه الأسئلة عبثية لا تدل على أي غرض مهم، مثلها كمثل لعبة الوسائل والغايات العبثية في معظم الأحيان. لكن الشيء الذي يحرضنا هنا هو أعمق بكثير. لأن جدل الوسيلة والغاية تدل على «فلسفة التربية الحقّة» التي يتبناها المجتمع. لذا نجد المفكر الإنجليزي راسل (1872/1970) يحدد لنا تلك الفلسفات في توجهين متنافرين قائلاً بأن هناك خلاف بين نوعين من فلسفة التربية عند الإنسان: أ. فلاسفة التربية، الذين يتخذون من التربية وسيلة وأداة لتلقين عقائد محددة معينة بالذات. مما يدل على أن الجيل الجديد يكون مجرد «حمالة الثقافة». ب. فلاسفة أكثر تسامحاً وراسل واحد منهم حسب ما قرر، وهم الذين يرون أن التربية يجب أن تغرس في المتعلم القدرة على الاستقلال في الحكم والإضافة للثقافة مما يجعله ليس حمالاً فقط بل مُغيراً ومعدلاً ومساهماً بصورة ايجابية.(6) سؤالنا بعد عرض ثنائية راسل هو: هل هناك فرق بين أن يكون التلميذ (الصغير على العموم) وسيلة أم غاية؟ الأكيد أن، وبحسب التقسيم السابق، هناك فرق جوهري يفرز نمطين من التربية هما التربية المحافظة والتربية التقدمية éducation progressive. وهي التربية التي روَّج لها جون ديوي الأمريكي وأصبحت النمط شبه الرسمي في العالم الغربي. في مقابل التربية التتريثية التي تنطلق من مبدأ «كمال الجيل القديم»، وبالتالي تحويل مهمة الجيل الجديد إلى عملية حفظ التراث ونقله لا غير. وهذا النمط الأخير هو الذي تمسك به الكثير من أصحاب الأدلجات الإسلامية المعاصرة، منطلقين من مبدأ أنه لا جديد تحت شمس الإسلام، وما علينا إلا استحضار التجربة التربوية القدامية عند الأجداد من أجل فهمها وتطبيقها. وهو التوجه التربوي السلفي على العموم الذي خطته الحركة الوهابية مع مؤسسها الأول محمد بن عبد الوهاب (1703/1791م). لكن في العالم العربي الإسلامي المعاصر نجد الكثير من العقائد التربوية المختلفة إلى حد التناقض، وعلى سبيل التمثيل لا الحصر يمكن الحديث عن التربية القومية، والتربية الإقليمية، والتربية الغربية والتغريبية، والتربية الماركسية الاشتراكية.. الخ. لذا نجد راسل محقا عندما يستشكل مسألة المثل العليا بما هي تعبير عن مبلغ الكمال المتصور، بمعنى أنه إن كنا جميعاً باعتبارنا كائنات مربية ننشد في فعلنا التربوي بلوغ المثل الأعلى للأخلاق الإنسانية الممكنة، فإننا نختلف في رسم هذا المثال الأعلى. ما هو النموذج الأعلى للتربية؟ هل هو الإنسانية كغائية (كانط)؟ هل هو الاستقواء والاستبراء (نيتشه)؟ هل هو الفضيلة السياسية (أرسطو)؟ هل هو العلم اليقين والتصوف (الغزالي)؟ | |
|
كمال صدقي مدير المنتدى
عدد الرسائل : 2399 العمر : 68 البلد : أفورار العمل : متقاعد مُهتم بالدرس الفلسفي تاريخ التسجيل : 20/12/2007
| |
كمال صدقي مدير المنتدى
عدد الرسائل : 2399 العمر : 68 البلد : أفورار العمل : متقاعد مُهتم بالدرس الفلسفي تاريخ التسجيل : 20/12/2007
| |
كمال صدقي مدير المنتدى
عدد الرسائل : 2399 العمر : 68 البلد : أفورار العمل : متقاعد مُهتم بالدرس الفلسفي تاريخ التسجيل : 20/12/2007
| |
كمال صدقي مدير المنتدى
عدد الرسائل : 2399 العمر : 68 البلد : أفورار العمل : متقاعد مُهتم بالدرس الفلسفي تاريخ التسجيل : 20/12/2007
| |
كمال صدقي مدير المنتدى
عدد الرسائل : 2399 العمر : 68 البلد : أفورار العمل : متقاعد مُهتم بالدرس الفلسفي تاريخ التسجيل : 20/12/2007
| |