فيلوصوفيا
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


.
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول
اتصل بنا
دور الفيلسوف Contac10
بحـث
 
 

نتائج البحث
 
Rechercher بحث متقدم
المواضيع الأخيرة
» تذكير ديداكتيكي بخصوص الدرس الفلسفي.
دور الفيلسوف Clock10الأحد أبريل 28, 2024 12:47 pm من طرف كمال صدقي

» مُعينات ديداكتيكية رقم 13
دور الفيلسوف Clock10الأحد أبريل 28, 2024 12:45 pm من طرف كمال صدقي

» مُعينات ديداكتيكية رقم 11
دور الفيلسوف Clock10الأحد أبريل 28, 2024 12:44 pm من طرف كمال صدقي

»  العقل الفلسفي والعقل البيداغوجي
دور الفيلسوف Clock10الأحد أبريل 28, 2024 12:42 pm من طرف كمال صدقي

» إلى أيّ مدى يُمكن الحديث عن تعثّر فلسفي على المستوى التعليمي؟
دور الفيلسوف Clock10الأحد أبريل 28, 2024 12:33 pm من طرف كمال صدقي

» الفلسفة لعامّة الناس.. عن القيمة اليومية للفلسفة
دور الفيلسوف Clock10الأحد أبريل 28, 2024 12:32 pm من طرف كمال صدقي

» إشكالات ديداكتيكية
دور الفيلسوف Clock10الأحد أبريل 28, 2024 12:30 pm من طرف كمال صدقي

» كفى من جعل الفلسفة معبدا مقدّسا
دور الفيلسوف Clock10الأحد أبريل 28, 2024 12:28 pm من طرف كمال صدقي

»  ما أسباب تعطيل الاستئناف الفلسفي ؟
دور الفيلسوف Clock10الأحد أبريل 28, 2024 12:27 pm من طرف كمال صدقي

» متى سنبدأ الإستئناف الفلسفي بجدية وحزم ؟
دور الفيلسوف Clock10الأحد أبريل 28, 2024 12:11 pm من طرف كمال صدقي

مواقع صديقة
دور الفيلسوف Philo-10
سحابة الكلمات الدلالية
الطبيعة مفهوم الشخص الفاعلية الحقيقة مجزوءة الغير السياسة الضرورة الحق الطبيعي وجود التاريخ قيمة النظرية الدولة الرغبة الوضع والحرية البشري نصوص الفلسفة الشغل جذاذة العلوم معرفة

 

 دور الفيلسوف

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
كمال صدقي
مدير المنتدى
كمال صدقي


ذكر
عدد الرسائل : 2399
العمر : 68
البلد : أفورار
العمل : متقاعد مُهتم بالدرس الفلسفي
تاريخ التسجيل : 20/12/2007

دور الفيلسوف Empty
مُساهمةموضوع: دور الفيلسوف   دور الفيلسوف Clock10السبت سبتمبر 20, 2014 9:47 pm

 فتحي المسكيني: دور الفيلسوف أن يصاحب الآلام الكبرى، لا أن يشرّع لها
أسئلة الهوية والحرية.. والزمان !
"علينا أن نقبل بوجود الفلسفة باعتبارها شريكًا تاريخيًّا وروحيًّا كبيرًا لثقافة العقل في مجتمعاتنا"، هكذا يؤكد المفكر التونسي فتحي المسكيني، لأنه "متى صار شبابنا يتفلسف من دون أيّ خجل أخلاقي أو عقدي، فإنّ هذا سيساهم في النهوض بفكرة الإنسان في ضمائرنا.. فالفلسفة يمكن أن تخلق جيلاً جديدًا من الأحرار، وهذا يتطلّب تمارين مريرة ومؤلمة ومزعجة في تدبير الذاكرة، وفي تدبير الهوية. وذلك يعني استعدادًا راسخًا للانتماء الحرّ إلى مصادر أنفسنا، من دون المرور بوصاية أحد".
 
الدكتور فتحي المسكيني
لا يفتأ المفكر التونسي فتحي المسكيني أن يوجِّه سهام نقد قلمه اللاذع نحو الهوية التي صنعتها الدولة القومية الحديثة، منخرطًا في رحلة عميقة لا يكل صاحبها عن التأمل والتساؤل والبحث عن تلك الذات المتجردة من الرواسب الهووية الموروثة المتراكمة!.
أستاذ الفلسفة بجامعة تونس يقرر بوضوح قاطع كما في كتابه (الكوجيطو المجروح.. أسئلة الهوية في الفلسفة المعاصرة) أن الهوية “اختراع ثقافي خطير، طورته كل الثقافات وبخاصة تلك التي لم تعد تمتلك كنزًا خلفيًّا أو مخزونًا احتياطيًّا لنفسها غير حراسة الانتماء بواسطة الذاكرة الممنوعة من التفكير”. ينادي ويدعو دائمًا إلى أن تكون (الحرية أولاً) “حرية الذات، وحقها الحيوي الكوني في الانتماء الجذري للنوع الإنساني، بعيدًا عن أسئلة الهوية المسبقة التي تلاحقها وتكبلها، وتشكلها كما تشاء”. ولذلك حيا في مقدمة كتابه (الهوية والحرية .. نحو أنوار جديدة) ذلك الشاب الطلائعي الذي قال يومًا ما:”نعم.. الحرية قبل الهوية”.
يقول فتحي المسكيني عنه نفسه بأنه “جزء من جيل حاول أن يغيّر قبلة الفلسفة في تونس” وجد نفسه منذ العام 1991 مدفوعًا إلى قراءة هيدغر، ثم الاشتغال عليه في رسالة دكتوراه كان موضوعها يرتكز على طريقة هيدغر في اعتماد مسألة الزمان أفقًا تأويليًّا لطرح مسألة المعقولية في التقليد الغربي.
صدرت له مؤلفات فلسفية، كـ: (فلسفة النوابت)، و(الهوية، والزمان)، و (نقد العقل التأويلي)، وأخيرًا صدر له كتاب عن الثورات العربية في (سيرة غير ذاتية)، كما صدرت له عدة ترجمات فلسفية من أبرزها، (الكينونة والزمان) للفيلسوف الألماني “مارتن هيدغر”، الذي فاز أخيرًا بجائزة الشيخ زايد للكتاب عن فرع الترجمة، كما صدرت له عن دار جداول أيضاً، الترجمة العربية الأولى لكتاب الفيلسوف “إيمانويل كانط” (الدين في حدود العقل).
مجلة (المجلة) حاورت فتحي المسكيني، وساءلته عن أهم أفكاره ورؤاه، عن الثورات العربية وتداعياتها، وعن الذات والهوية، ومهمة الفلسفة وأسئلتها، وعن العلاقة بالماضي والتراث، فكان هذا الحوار…
تونس .. دستور جديد، ومرحلة جديدة
بعد مخاض عسير أقر المجلس الوطني التأسيسي الدستور الجديد لتونس، هل يمكننا القول بأن الثورة قد عادت إلى مسارها الصحيح؟
قبل الحكم على مسار الثورة علينا بادئ ذي بدء أن نبتهج بمساحة الأمل التي تمّ بناؤها في أفق شعبنا الجديد. نحن بنينا مساحة أمل أو منطقة رجاء، على الرغم من أنّه لا أحد يمتلك ضمانات مسبقة عمّا يمكن أن تسفر عنه.
طبعًا، كلّما أقدم شعبٌ على كتابة دستور لذاته الجديدة فهو خبر سارّ. إنّه بذلك قد أعطى شكلاً لصيروته، وخرج من مرحلة الغموض الخطيرة، حيث يمكن لأيّ كاتب سيّئ أن يفرض علينا قصّة لم يعشها أحد، ورغم ذلك نحن مطالبون بالانتماء إليها بلا رجعة.
ولكن علينا أن نسأل عندئذ: هل كان للثورة “مسارها الصحيح” المتفق عليه من قبل؟ – لا يبدو لي أنّنا عدنا إلى أيّ منهاج مُعدّ سلفا للثورة. ما وقع وقع.. ونحن أمام ما سمّاه هيدغر ذات مرة ّ “واقعة” الكينونة الخاصة بنا. نحن لا نوجد كما نريد، بل “نقع” أي نحدث وفقًا لشروط تاريخية لا نختارها وربما هي التي اختارتنا بقطع النظر عن كل شواغلنا الهووية الرسمية أو المستقرة. – إلاّ أنّه يمكننا المجازفة، وهي هنا مجازفة مأمولة- بأن نقول: إنّ كتابة دستور جديد في أفق أيّ شعب من الشعوب العربية الحالية هو حدث روحي متميّز جدّا، مع أنّه لا أحد يمتلك طبيعة النتائج السياسية أو حتى الأخلاقية التي ستنجرّ عن ذلك. نعم، كتبنا دستورًا جديدًا، ولكن ما علاقة ذلك بالثورة؟ “من” ثاروا ربّما لم يصلهم نبأ الدستور بعد. أو هو لم يشغلهم إلاّ عرضًا. وبعبارة قلقة: إنّ الذين كتبوا الدستور هم “النخبة” التي لم تشارك في الثورة، لكنّها وجدت نفسها ملزمة أو محكومًا عليها (أخلاقيًّا) بأن تحاول ترجمة فكرة الثورة التي حرّكت الشعوب سنة 2010 -2011 إلى واقع دستوري أو “شرعي” مناسب أو منصف أو لائق بالشهداء من أجلها. ولكن هل أنّ ذلك كاف لإعادة الثورة إلى “مسارها الصحيح” ؟ ثمّة أمل في دولة مدنية ديمقراطية تمّ تحويله إلى خطاب دستوري، والآن علينا أن ننتظر تحويله إلى واقع مواطنة ونموذج عيش وسيرة يومية للحرية.
وعلينا أن نذكّر بأنّ الشباب لم يثر من أجل نصّ أو أثر أدبي، يبدو أنّه سيّئ التحرير. وهو يتساءل الآن: “من” كتب الدستور ؟ هل تمّت استشارة الفلاسفة والشعراء والفنانين؟ وعلى كل حال الثورة لا يمكن أن تُختَزل في كتابة دستور كأنّنا بلد بدائي لم يعرف من قبل ما معنى مدوّنة قانونية.
كيف ترى ملامح المرحلة القادمة لتونس بعد إقرار الدستور؟
في الواقع، لا تغيّر الشعوب من ملامحها باليسر الذي يتصوّره “المؤرّخون”، نعني كل الذين تعوّدوا تحويل الوجود التاريخي إلى خبر أو إلى أحداث يمكن سردها. وعلى كلّ، نحن لا نملك اليوم صيغة جاهزة عن “المرحلة القادمة” سواء لتونس أو للبلدان العربية الأخرى. ثمّة توجّس متبادل بين الشعوب وحكّامها، من أن يكون الحديث عن الدستور “حديث خرافة يا أمّ عمرو” كما قال المعري ذات قصيد. نحن نعلم منذ مدة أنّ كتابة دستور “جديد” أو “جيد” لم يكن أبدًا مشكلاً حاسمًا في وجود أو تسيير الدولة الحديثة لدينا. ثمّة مسافة مزعجة ولكن عميقة بين دستور جيّد ودولة جيّدة، نعني بين تصوّر الحكم وعمليّة الحكم. والحاكم العربي ظلّ إلى حدّ الآن، سواء بالثورة أو بغيرها، بالانتخاب أو بالتوريث، بالتداول “السلمي” على السلطة أو بالانقلاب، ظلّ حاكمًا هوويًّا. نعني حاكمًا أداتيًّا وجاهزًا من حيث ذهنية الحكم ومنطقه، قبل أيّ تعاقد دستوري أو قانوني مع الشعوب الذي يحكمه. ولذلك فإنّ حدث “إقرار الدستور” على جلالته وخطورته هو لا يفتح على أيّ تونس جديدة، بل فقط على وعود سياسية لا أحد يملك ضمانة كافية لتحقيقها. وأفضل ما يجدر بنا هو أن نعمل على تطوير مفهوم جديد للمستقبل، لا يمرّ بالضرورة بأحلام الحاكم الهووي حولنا أو حول سلطته علينا. ربما لأوّل مرة نحن نشعر بأنّ الدولة الحديثة مشروع هشّ ومؤقّت في أفقنا. وعلينا أن نتوقّف قليلاً عند الأخطار غير المسبوقة التي يمكن أن تطرأ عليها في أي لحظة. ومن ثمّ فإنّ المرحلة القادمة لن تكون من طبيعة هووية، أي أنّها لن تنفّذ أيّ برنامج عقدي أو مذهبي أو طائفي جاهز. بل فقط، من طبيعة حيويّة، أي مرحلة تدريب المواطن على السكن الكريم في وطنه حتى يكفّ عن الشعور بأنّ الموت في بلد الهجرة أخفّ حملاً على النفس من الحياة في بلاده. لا يمكننا أن ننتظر من دول المستقبل غير أشكال محتملة من الحياة، لا غير.
عهد الفرديات والشخصيات الكبرى (الملهمة، القائدة، المسدّدة،…) قد ولّى. ولا ينبغي أن نسمح لأحد بأن يرى المستقبل بدلاً عنّا.

أجواء احتفالية في المجلس الوطني التأسيسي بعد المصادقة على الدستور التونسي الجديد
ثمّة مسافة مزعجة ولكن عميقة بين دستور جيّد ودولة جيّدة
هل تتفق بأن حركة النهضة قد استوعبت درس مصر فعلاً.. هل سيدوم هذا الاستيعاب طويلاً؟
وما هو “درس مصر”؟ نعم، هناك إرادة قوية لتصحيح مسار الثورة وإعادتها إلى الجماهير التي قامت بها أو حلمت بها. ولكن إلى أيّ مدى يجوز لنا أن نعوّل على الجيوش كي تساعد الشعوب على استعادة حق الناس في الحياة أو حقهم في الحرية ؟ – كانت ثورة مدنيّة رائعة، على غرار الثورة التونسية. قام بها غاضبون، شباب عاطل أو معطّل عن العمل، متعلّم ولكن بلا أفق نجاح شخصي، علاوة على ضغوط عولمة ثقافية، تفتح الأبواب باستمرار أمام تدمير البنى المعيارية التقليدية للذات والجسد والهوية والجندر والجنس وطرق المواطنة وسير الحياة الخاصة،… ثمّ صعد الإسلاميون إلى سدّة الحكم، وعادوا فجأة إلى الواجهة بواسطة انتخابات الهوية، التي لا تملك من الوجاهة المدنية للفوز بآمال المواطن الحديث لدينا سوى وعود الجماعة ورهبة العدد. طبعًا، كان فوزًا حقيقيًّا، نعني نجح في استغلال آليات النجاعة السياسية الحديثة، في خليط مثير بين الدعوة الدينية والدعاية الحديثة. ولكنّ الشعوب شعرت في شطر كبير منها، أنّها خُدعت، وأنّ ما كانت تنتظره من الثورة قد لبس لبوسًا آخر. طبعًا، ربما أخطأ الإسلاميون في الشروع الفوري في أسلمة المجتمع، وعندما وجدوا أنفسهم أمام امتحان الحكم، لم يتخلّوا عن التقنيات الدعوية التي تربّوا عليها، بما في ذلك تقنية أخونة الموت، واستعماله كأداة ضغط قصوى على المنافسين السياسيين. لكنّ لبّ المشكل -في تقديري- ليس الدين أو الاستعمال العمومي للدين، عند الوصول إلى السلطة. بل أخطر من ذلك هو تصوّر الدولة. هل الدولة هي غاية في حدّ ذاتها، نعني شكل الحياة المناسب للشعوب أم هي مجرّد جهاز دنيوي في خدمة دعوة ميتا -تاريخية وميتا- أخلاقية، على الشعوب أن تستجيب إليها، وإلاّ اتّهمت بالخروج عن مطلب الهوية، وتعريض شرط الانتماء إلى التلف التاريخي، وفي آخر المطاف المروق عن الدين والسقوط في أحابيل الإلحاد السياسي الحديث.
لكن بشكل أكثر تحديداً.. ماهو الفرق الذي تراه بين حركة النهضة التونسية، وجماعة الإخوان المصرية؟
ربّما يكمن الفرق بين حركة النهضة التونسية وجماعة الإخوان المصرية في هذا الفاصل الرفيع بين “الحركة” السياسية و”الجماعة” الدينية. يبدو أنّ الإسلاميين في تونس نشطاء حركيون تتلمذوا في الأغلب الأعمّ، بشكل صريح أحيانًا، وعلى أنحاء خجولة أحيانًا أخرى، على المدرسة السياسية التونسية بكلّ أطوارها الثرية: من حركة إصلاح وعلماء زيتونيين ومثقّفين علمانيين، وحكم بورقيبي، وتجارب اليسار وحركة طلابية وأساتذة علوم وإنسانيات من طراز “غربي” رفيع،.. وبهذه المواصفات التاريخية هم مختلفون عن “الإخوان”، وإن كان الشبه الدعوي الإسلاموي قد يسهّل نقدهم السياسي والتخلص الأخلاقي منهم كشركاء في مرحلتي ما قبل الثورة (مقاومة الدكتاتورية)، أو ما بعد الثورة (الدسترة الجديدة للدولة المدنية وتجربة الحكم ما بعد الدكتاتوري). وهكذا إذا كان ثمّة درس مصري في هذا الوقت (ما بعد تجربة الحكم) فهو فهم النهضويين بأنّهم أقرب إلى الليبراليين منهم إلى أيّ حزب ديني جهادي. وبالتالي عليهم أن يعيدوا النظر في طريقة الحكم والانتقال من طور التحوّز على آلة الحكم إلى طور المشاركة فيه بدون خسائر تاريخية. هل سيدوم هذا الموقف؟ – نعم. هم ليس لهم أيّ خيار آخر، إذا ما أرادوا أن يكون لهم مستقبل سياسي في تونس.
المشكل مع الإسلاميين في كل مكان هو كونهم يبحثون عن “مستقبل” في بلدانهم. والحال أنّ هذه الهشاشة التاريخية لا تسمح لهم بتأسيس أيّ شيء طويل الأمد. والعكس هو ما ينبغي القيام به: أن يبحثوا عن مستقبل لبلدانهم بكل ما يمكن استلهامه من تجارب الإسلام العريقة. عندئذ يؤسسون.
الحرية أم الهوية؟ !
قلت في كتابك “الهوية والحرية” بأن الحرية قيمة خطرة جدًا إذا لم تتحول إلى فن للمشترك، برأيك بعد ثلاث سنوات من مرحلة الربيع العربي، هل فشل الثائرون أو “بعض المنتصرين” في استثمار لحظة وقيمة الحرية؟
لا يبدو لي أنّ “الثائرين” قد فشلوا، بل العكس هو الذي وقع: إنّ النخب السياسية هي التي فشلت في استيعاب ما وقع من “ثورة”، وعلينا أن نقول إنّهم لم يكونوا جاهزين لواقعة الثورة، بل فاجأتهم كما فاجأت الحاكم الهووي، الذي كان يغطّ في السبات الدكتاتوري الطويل الأمد. فمن قام بالثورة لم يكن في الغالب مسيّسًا، نعني محترفًا. بل كان جزءًا من كثرة من الذوات الحرة التي تجرّأت على أن تذهب إلى أبعد من الخطّ الهووي للدولة الدكتاتورية: خطّ الفقر، خطّ السكوت، خطّ التعبير، خطّ العقل، خطّ التغيير،.. وما دفع الشباب الثائر إلى التمرّد على خطّ الحكم السائد لم يكن دافعًا سياسيًّا بالضرورة، نعني هو لم يثر استجابة لدعوة دينية أو نداء حزبي، بل ثار بدوافع حيوية: إنّ شكل الحياة تحت الحاكم الدكتاتوري صار أمرًا لا يُطاق، وينبغي التمرّد عليه. الحرية قيمة حيوية، لا علاقة لها بالضرورة بأيّ حسّ هووي، مهما كان نبيلاً.
ولذلك، نعم، هناك ارتباك في استثمار لحظة الحرية، فهي لحظة وجديّة غير مسبوقة، شعر بها الناس على حين غرة، بعد أن رأوا أنّ أبناءهم من الشباب الحرّ، النضر، المستبشر بذاته الجديدة، الحديثة، الخاصة، الشخصية جدّا،…قد نزل إلى الشوارع وتجرّأ على شتم الحاكم أو السخرية منه، أو مطالبته بالرحيل. ثمّة براءة فظيعة، براءة وجودية، رافقت تجربة الذات إبّان الثورة. براءة الشبان الذين ينادون بإسقاط النظام دون أي تصوّر واضح لمعنى سقوط الدولة، أو كتابة دستور جديد، أو تغيير فنّ الحكم. وإذا كان ثمّة “فشل” فهو ليس فشل الثائرين، فعلينا الاعتراف بأنّ الثائرين قد انتصروا. إنّ قيمة الحرية قد صارت جزءًا من التاريخ الحديث للمواطنة لدينا. ولذلك فإنّ الذين فشلوا هم أعضاء النخب السياسية التي ادّعت الأبوّة على الثورة، وحوّلتها إلى مهرجان خطابي للأحزاب أو للحكومات الإجرائية المحايدة جدًّا. ومن سخرية الأقدار أنّ الشعوب التي ثارت صارت تطالب بتشكيل حكومات “مستقلة” و”محايدة” لتحقيق أهداف الثورة. ولكن تطالب ذلك ممّن؟- بالضبط، من نخب سياسية شعرت الشعوب أنّها منشغلة بأهداف أخرى للثورة، غير الأهداف التي نادى بها الشباب الثائر، من دون أن يكون جزءًا من أيّ جهاز ثوري سابق.
نحن لم نتمرّن على التفكير معًا إلاّ منذ وقت قريب. وإذا كان درس الثورة ينحصر في أنّنا بدأنا نعرف بعضنا لأوّل مرة، بعد انقشاع سحابة الدولة الدكتاتورية، فهذا يُعدّ هديّة أخلاقية رائعة من الشباب الذي تمرّد.
حييت شهداء الثورات العربية قائلاً :”لشهداء الكرامة الذين قالوا يوماً ما: نعم الحرية قبل الهوية”، هل قالوا الحرية أولاً بالفعل، أم أنهم فقط أجلوا سؤال الهوية؟
إنّ الثائر الذي قال : “نعم الحرية قبل الهوية”، لا يضرب إحداهما بالأخرى، أو يثبت الأولى كي يبطل الثانية، بل فقط هو يعدّل وتر الحياة في قلبه. إذْ تراهن الدول غالبًا على إقناع المحكومين بأنّ ثمّة شيئًا متعاليًا على حيواتهم الخاصة أو الحاضرة أو الدنيوية، وأنّ هذا التعالي هو مصدر كل شرعية عميقة لتبرير وجودهم في ظل الدولة. فهم ليس لهم من “هوية” ينتمون إليها أن يحتموا بدلالتها إلاّ بقدر ما يطيعون الحاكم باسم شيء يتعالى على وجودهم تعاليًا نهائيًّا وكلّيًّا. كانت الدولة القومية تستمدّ شرعيتها من أن “لا شيء يعلو على صوت المعركة”.
مع من ؟- مع عدوّ خارجي، لا نهائيّ، لا مجال لأيّ تصالح تواصلي معه. ولذلك كانت دولة هووية بامتياز. لا هوية لأيّ محكوم، أي لا مواطنة لأيّ مواطن، إلاّ باسم منطق الدولة التي تحكمه وفي حدود تقديمها لنفسها. لقد بدا الشخص الفردي المعاصر في أفقنا وصفة باهتة من مجرّد “مواطن” دولة ما (بكل ما يعنيه ذلك من التزامات عقدية وقومية وقانونية)، ولم يصبح بعدُ في أيّ مكان، ولا حتى ثورات “الربيع العربي”، ذاتًا، أي فردًا حرًّا قادرًا على المواطنة النشطة. “الحرية قبل الهوية” تعني الشخص قبل المواطن، أو الذات قبل المحكوم.
أخطأ الإسلاميون في الشروع الفوري في أسلمة المجتمع، وعندما وجدوا أنفسهم أمام امتحان الحكم، لم يتخلّوا عن التقنيات الدعوية التي تربّوا عليها، بما في ذلك تقنية أخونة الموت
طبعًا، يظنّ البعض أنّ مجرّد تغيير التسمية من معجم “الرعيّة” إلى معجم “المواطنة” هو خطوة عملاقة لتغيير ذهنية الحكم في البلاد العربية، لكنّ خيبة الأمل من ذلك كبيرة: فمن جرّب الخضوع (وليس الطاعة) للحكم الدكتاتوري سوف يكتشف من دون جهد يُذكر أنّ الدولة “الحديثة” لا تفرّق كثيرًا بين المعاجم السلطوية، ومن ثمّ أنّ تبرير الحكم ليس جزءًا من منطق الحكم. وعليه فإنّ طبيعة الحكم لا تتغيّر بمجرّد تغيير الخطاب.
يمكن أن نقترح الفصل بين معارك الحرية ومعارك الهوية. ولكنّ هذا الفصل لا يغيّر من خطورة المشهد الذي يخلّفه الشهداء؛ أي الذين تقتلهم آلة الدولة بدون أيّ عداوة شخصية معهم سوى أنّهم يضعون وجود الدولة الحديثة موضع تهديد جذري. على الدولة نفسها أن تقتنع بأنّ التدخّل في هوية الناس لأسباب سياسية ليس عملية مضمونة العواقب دائمًا. إذ يمكن أن يحدث تصادم بين هوية المحكوم وبين هوية الحاكم. ولذلك فمن يثور ضدّ الحاكم الهووي، الذي يستمدّ شرعية حكمه من فرض هوية جاهزة على المحكومين، هو لا يثور ضدّ فكرة الهوية بإطلاق، بل ضدّ نمط سائد ومهيمن وقاهر من “التهويّ” أو من “تهوية” الناس في قالب هووي معدّ سلفًا من طرف أجهزة الدولة. ولا يهمّ إن كانت تلك الدولة دينية أو مدنية أو عسكرية. كلّ ما يُفرض على حرية الناس في اختيار شكل الحياة القابلة للحياة بأنفسهم هو هووي، أي قائم على استعمال أداتي وخارجي وقسري لحياتهم الخاصة باعتبارها مجرّد جهاز عمومي للدولة. ولا ضرّ إن سمّيت ذلك عقيدة أو قومية أو شخصية تاريخية أو شعبًا أو حزبًا أو قبيلة أو عائلة حاكمة أو مجلسًا عسكريًّا…ولذلك حين يقول أحدهم :”الحرية قبل الهوية” هو لا يؤجّل سؤال الهوية بل يريد إعادة طرحه على نحو مغاير. إنّه يريد رأسًا أن يصبح مسئولاً عن نفسه، عن طريقة تذوّته بين الذوات الحرة، التي تؤثّث العالم المعيش المعاصر. نعم، إنّ الحرية هي “أوّلاً بالفعل”، وليس مجازًا. لكنّ ذلك ليس ضدّ الهوية بالضرورة. بل يمكن أن يكون، على العكس ممّا نتوقع، شرطًا أخلاقيًّا وروحيًّا فذًّا لاختراع الانتماء والدخول في تملّك حيّ لمصادر أنفسنا العميقة.
في ذات السؤال، ربما ناقشت هذه القضية كثيرًا في كتاباتك، لكن كيف يمكن أن أرفع شعار الحرية مجردًا مفصولاً من “هوية ما” ، ألا ترى بأن ذلك سيقود إلى أمرين إما شعار هلامي لفظي لا معنى له، أو مجرد أداة لحشد سياسي يكمن الشيطان في تفاصيلها التي ستعلن لاحقًا؟
لا وجود لحرية بلا هوية. لكنّ ما نسمّيه “هوية” يمكن أن يكون مدعاة لخلط كبير أو ريبة لا شفاء منها. الهوية كلمة جدُّ نبيلة، استعملها المترجمون العرب القدامى في مقابل كلمة “الكينونة” عند اليونان. “هو” أي “موجود”. ولا حرية لكائن لا وجود له. وابن عربي يطلق الهوية على “الحقيقة في عالم الغيب”. لكنّ ما ينبغي أن نحتفظ به من معنى أيّ هوية هو كونها هي “ذاتها” وليست شيئًا “آخر”. وبالتالي هي مختلفة عن مجرّد “الأنانة” أي عن مجرد “قولنا أنا” حسب تعبير ابن عربي. من يقول أنا لا يقول بالضرورة شيئًا عن هويته. بل فقد هو يزعم أنّه يملك نفسه أو يختص بها. وهناك معركة كبيرة ينبغي أن يخوضها من أجل الانتماء الأصيل إلى ذات نفسه. الهوية إذن معركة خاصة، شخصية وعميقة، وليست أرشيفًا للتوريث، قد تعمد جهة ما إلى فرضه على الناس وممارسة سلطة شرعية باسمه عليهم. وهنا نقرّ بأنّنا لا نتحرّر إلاّ داخل وفي ضوء تراث هووي عميق هو الذي يشكّل ما سمّاه الفيلسوف الكندي المعاصر -تشارلز تايلور- “مصادر النفس”. بل كل لحظة أو قيمة حرية هي تُقاس بمدى تجذّرها داخل جملة معقودة من مصادر الذات.
 
مظاهرة لحزب التحرير السلفي بتونس
“التطرف الديني” ليس مفصولاً عن طبيعة العلاقة الحديثة التي تبنيها الدولة مع الأفراد
لكنّ ذلك لا يشرّع لأيّ سيطرة هووية على أحد. بل ثمّة مفارقة هنا: إذ كيف يصبح ما يعتبره أيّ فرد هويته العميقة أو الخاصة، كيف يصبح وسيلة هووية لإخضاع ذاته إلى مرجعية أو سلطة هووية خارجة عنه؟ هذا هو الخلط الهووي الأخطر الذي تستثره الأجهزة الهووية بعامة (أكانت دولة أو جماعة أو مؤسسة أو طائفة أو قبيلة أو حزبًا أو جيشًا،…) لتحويل وجود الأفراد إلى أعداد سياسية أو قانونية قابلة للاستهلاك الإجرائي للحكم.
نعم، يمكن أن تكون الحرية “شعارًا لفظيًّا هلاميًّا بلا معنى”. ولكن في فم الذين لم يستكملوا بعدُ أيّ تحويل ذاتي لهويتهم. علينا أن نفرّق بين هوية جاهزة موروثة ورسمية، وبين هوية ناجمة عن عمل عميق على الذات لتطويرها. وبالتالي نحن لن نتحرّر أبدًا ما دمنا نعوّل على هويات جاهزة لأنفسنا، ولم نشارك في أيّ لحظة في تشكيل وتيرتها. كذلك، يمكن للحرية أن تكون “مجرد أداة لحشد سياسي يكمن الشيطان في تفاصيلها التي ستعلن لاحقا “. ولكن في يد الذين لم يثوروا أصلاً من أجل حريتهم، بل استولوا على واقعة الحرية وسرقوها من قلوب أصحابها، وحوّلوها سريعًا إلى أداة هووية تحت الطلب. وهو ما قامت به الحركات الإسلاموية إزاء الثورات العربية الراهنة.
قلت بأن العلمانيين يستخدمون الحرية ضد الهوية، والسلفيين يستخدمون الهوية ضد الحرية، في ظل وضع مريب مسؤولة عنه “الدولة الحديثة” .. إذًا ما الموقف الذي تتخذه في هذه المعادلة المتداخلة ما بين شرائح المجتمع والدولة؟
ليس ثمّة وصفة جاهزة للحكم بين الحرية والهوية. وعلينا أن نكفّ عن التفكير الماهوي الذي لا يطمئن إلاّ إلى إمّيات قطعية مريحة. “إمّا” كذا و”إمّا” كذا. ومواصلة النقاش على أساس الفرقة الناجية والحجة الدامغة والرأي اليقين…هي جزء لا يتجزّأ من معجم الاستبداد الذي لا يفكّر إلاّ بناءً على مفهومات الصفوية والولاء المطلق، والزعامة الراشدة، وتهم التخوين والعمالة والمؤامرة… إنّ التفكير في هذه المسائل الشائكة هو أقرب إلى تفاوض عسير مع المستحيل، حتى يصبح الفهم المشترك ممكنًا ومستساغًا ومطلوبًا لذاته. قلنا إنّ قيمة الحرية لا معنى لها إذا هي لم تنجح في التحوّل إلى فنّ للمشترك. هذا هو بيت القصيد: نحن لا نشعر أنّ الفرقاء الهوويين والعلمانيين مستعدّون كفاية لتبادل الحرية، أو لتبادل الهوية بناءً على آليات اعتراف ديمقراطية. على الجميع أن يقتنع، وهذا بحدّ ذاته صعب، ويتطلب دربة أو مراجعة أخلاقية خاصة، أنّه “لا أحد”، أنّه “فلان” حديث، وليس ممثّلاً شرعيًّا ووحيدًا لجهاز انتماء متعال ولا نهائي. وبالتالي أنّ الحقيقة هي مجرّد ادعاء صلاحية من حق أيّ طرف أن يرفعه، ولكن ليس من حقه أن يحتكره على أحد. ذلك يعني أنّ الدين مثلاً ملكًا للإسلاميين، كما أنّ الحداثة ليست حكرًا على العلمانيين. وسبب التداخل هو نمط الدولة الحديثة نفسها، وليس خطأ أي طرف على حدة. فمن الخطأ أو الغرور أن يقدّم الطرفان العلماني والإسلامي نفسيهما وكأنّهما اللاعبان الأساسيان أو الوحيدان على ركح النقاش الحاد حول الحرية والهوية. فهما يغفلان أمرًا حاسمًا ألا وهو أنّ الذي يدير النقاش ويتحكّم فيه ويغذّيه ويستثمره هو منطق الدولة الحديثة، وليس الدين أو العلمانية.
إذن أنت تلقي باللائمة والمسؤولية على “طبيعة” الدولة الحديثة؟
نعم، المشكل هو طبيعة العلاقة بين المجتمع والدولة. وليست الثورات الراهنة غير إعادة ترتيب واسعة النطاق لحريات المجتمع المدني بإزاء الدولة. وبالتالي فإنّ بروز التوجّسات الهووية هو نتيجة، وليس سببًا للثورة. لقد تمّ ضرب من الاستفزاز الهووي لقيمة الحرية من أجل الحدّ من الخسائر التاريخية التي ستنتج عن الثورة، حين تتعدّى إسقاط الأنظمة إلى خلق نماذج جديدة للعيش في أفق ذواتنا المعاصرة.
وعلى كلّ ليس هناك موقف جاهز إزاء المستقبل. نحن نعمل منذ مدة على ضرب من اللاّمسمّى. ونحن إلى حدّ الآن لسانٌ سيّئ حول أنفسنا.
هناك ارتباك في استثمار لحظة الحرية، فهي لحظة وجديّة غير مسبوقة، شعر بها الناس على حين غرة.. فثمّة براءة فظيعة، براءة وجودية، رافقت تجربة الذات إبّان الثورة
بعد الثورة، أخذ الإسلاميون ينصبون قِدرَ الهوية في كل مكان، وطفقوا يستخدمون الذخيرة الهووية للجموع الفقيرة ضدّ من؟ – ضدّ “العلمانيين” ومن هم هؤلاء ؟ – إنّه الزميل في الجامعة، أو في العمل، أو في الاختصاص، وفي بعض الأحيان صديق العمر أو الأخ أو الأخت أو الأم أو الأب.. من المسئول عن هذا الانفلات الهووي في فضاءات هشّة ومؤقّتة جدّا من النقاش العمومي حول ما “وقع” ولا أحد يملك وصفة سعيدة عنه؟ كيف أصبحنا نفرّق بين ذواتنا الحديثة المتصدّعة أصلاً، بهذا اليسر المريب؟ وكيف يا ترى نقيس المسافة بين هويتين؟ هل يمكن أن نقيس مساحة العزلة داخل نفس الهوية؟ لقد تحوّل التفاوض على الهوية إلى برنامج أخلاقي للذات. وهذا عارض على هشاشة وجودنا المعاصر. فهل العلاقة الشخصية مثلاً علاقة هووية أم لا؟ أين يقف الشخص وأين تبدأ الهوية ؟ لقد نصبوا حدودًا هووية بين أجساد لم يفرّق بينها السجن ولا رصاص الشوارع الدكتاتورية، ثمّ من يحقّ له أن يراقب صيرورة الهوية لدينا؟ وإلى أيّ حدّ يمكننا التعامل مع أنفسنا بوصفنا كائنات مصنّفة بلا رجعة؟ وهذا الشذوذ الهووي أخطر ما فيه هو أنّه سريعًا ما يقنع الهوية بأن تعيش من جروحها، وفجأة تتحوّل مهمّة الحياة الحرّة إلى نافلة حديثة.
ثمّة تبادل هووي يقع في كل المجتمعات التي بلغت شوطًا محمودًا من الصحّة الروحية. ولقد نجح الإسلام الكلاسيكي في بناء هوية غير عرقية وغير إقصائية، لكنّ ما نفعله بواسطة الإسلام السياسي المتشدّد يمكن أن يجرّدنا آخر الأمر من ذلك المكسب التاريخي الكوني البعيد اليوم. ومشكل الهوية يبدو أنّه لا ينحصر لدينا في نزاع الاعتراف، كما هو الحال مع الهويات الإثنية أو الثقافية الغربية، بل في نزاع محموم على السلطة.
يؤكد العديد من العلمانيين العرب أن الديمقراطية إذا لم تقم على أسس ليبرالية فإنها سوف تناقض نفسها، وتؤدي إلى نتائج ديكتاتورية، وثيوقراطية، أولاً ما رأيك في هذه النظرية (أن الديمقراطية يجب أن تمارس وفق القيم الليبرالية الحديثة)، ثم من ناحية أخرى ألا ترى بأن “العلماني” هنا قد استعان بـ”هوية” ليحجم بها إطار “الحرية”، عكس ما ذكرت!
ما يقوله العلمانيون هو جزء من معركة الحرية، وليس كل المعركة. ويندر أن تجد بيننا اليوم من هو مستعدّ لمتابعة فكرة الثورة أو فكرة الحرية إلى حدّ اعتناق فلسفة الجندر مثلاً، والدفاع عن زواج المثليين أو تغيير الجنس، الخ. وعلاوة على ذلك ينبغي التمييز بين العلمانية والليبرالية. ومنذ عهد قريب نشر “تايلور” كتابًا ضخمًا تحت عنوان مثير هو “عصر علماني”. حيث يميّز بين ثلاثة معان من العلمانية: (1) معنى أن تكون الفضاءات العمومية “مفرغة من الله” أو من الدين؛ و(2) فصل الكنيسة والدولة؛ و(3) أن نعيش في عصر علماني يفرض شروطًا أو ظروفًا جديدة للإيمان. هذه المعاني الثلاثة ربما تشير إلى أجيال مختلفة من فكرة الديمقراطية. لكنّها بالتأكيد لا تفرض علينا أن نقيمها حصرًا على أسس ليبرالية. ثمّ إنّه ينبغي التفريق بين الليبرالية الكلاسيكية (لوك، مل)، وبين النقاشات الجديدة (الجماعوية والجمهورانية) مع الليبرالية.
القصد هو أنّ “أسس اللبرالية الحديثة” هي عبارة عامة، ويمكن أن تؤدّي إلى تخصيصات متباينة. وفي تقديرنا أنّ الحلّ العلماني ليس بالضرورة ليبراليًّا. بقي أن نشير إلى أنّ لبّ المشكل ليس في تأسيس أو عدم تأسيس الديمقراطية على اللبرالية الحديثة، بل في قيمة الديمقراطية نفسها. ما نحتاجه هو تعميق البحث والنقاش حول قيم الديمقراطية، وليس حول قيم اللبرالية. وهناك تقاليد مختلفة تمامًا في الدفاع عن فكرة الديمقراطية، ليس اللبرالية غير واحدة منها. وما نجاحها في الغرب الحديث غير حادثة سياسية ومعيارية محلّية، خاصة بتقاليد في الحكم وفي رؤية العالم ومفاهيم المجتمع ومعاني الإنسان، قد لا تتوفّر في ثقافات أخرى.
 
كتاب “الهوية والحرية” للمسكيني
لا وجود لحرية بلا هوية. لكنّ ما نسمّيه “هوية” يمكن أن يكون مدعاة لخلط كبير لا شفاء منه
نعم، كل من يريد فرض اللبرالية على مجتمعات غير غربية هو يفرض جهازًا هوويًّا على ذوات تنتمي إلى مصادر معيارية للنفس، مختلفة. ومن ثمّ هو يصادر الحرية التاريخية لشعوب برمّتها، حريتها في أن تتذوّت على النحو الخاص بها، وحريتها في أن تختار نموذج العيش الذي يلائمها، ومن خلاله هي تشكّل هوياتها الحية. – لكنّ هذا ليس حكرًا على “العلماني” وحده. فجميع الفرقاء دون استثناء هم يبحثون عن أدواتهم الفكرية أو الدعوية في أيّ تراث يقع تحت أيديهم. ومن ثمّ فإنّ السلفيّ أو الإسلامي هو أيضًا، على قدم المساواة، يسعى إلى فرض التصوّر السلفي أو الإسلامي للشورى باعتباره نموذجًا جيّدًا للحكم الصالح. وهذا لا يخلو بدوره من عنف تأويلي ورمزي على المشاركين الآخرين، “المحدثين” أو “العلمانيين”، في دائرة النقاش حول مستقبل الدولة لدينا.
وقد ذكرت دومًا أنّ “الهوية” ليس لها مضمون واحد، بل إنّ الهوويين يمكن أن يكونوا شيوعيين أو ليبراليين أو حداثويين، نعني أنّ الدفاع عن جهاز هووي جاهز، هو موقف لا ينحصر في جهة الإسلاميين أو السلفيين. لكنّ حرص السلفي أو الإسلامي على اعتبار الدفاع عن الهوية (العربية الإسلامية) شرط أيّ تصالح مع الدولة الحديثة هو الذي دعاني إلى معاملته كممثّل قويّ للنموذج الهووي. لكنّني لا أعتبره الممثّل الوحيد لخطاب الهوية.
ومع ذلك فالنزاع أو التصادم الفكري بين النموذجين، العلماني والسلفي، ليس -ولا يجب أن يكون- تهمة لأحد.
تتضمن غالب كتاباتك هجاءً عنيفًا للهوية التي صنعتها الدولة الحديثة، نتيجة لجهاز الهوية الذي ينتج (أوراق الهوية، وصورة الهوية والبصمة، ويحدد اللغة والدين والقبيلة)… ألا يعد هذا طرحًا مثاليًّا، كيف نتصور أن تقوم دولة أو كيان حديث دون هذه المحددات، التي هي في الأخير نتاج تراكمات المجتمع الذي وصل إلى الحكم فصيل منه؟
من يكتفي بإخبارنا بالحقيقة هو لا يفكّر. ففي واقع الأمر ليس ثمّة حقائق جاهزة عن أنفسنا أو عن العالم، الخ. ولذلك أفضل ما ندّعيه هو التفكير الذي يستمدّ من التدرّب على توسيع حدود العقل لدينا وجاهته. وهي دومًا وجاهة مؤقتة. بقي أن ننبّه إلى أنّ التفكير ليس هجاءً لأحد، وخاصة هو لا يمكن أن يكون هجاءً للهوية بما هي كذلك، بل هو تفاوض عسير مع إمكانيات هوية مغلقة أو مهجورة أو ممنوعة أو مسكوت عنها. ولذلك علينا أن نميّز بين دفاع دعاة الأصالة عن الهوية (العروبة، الإسلام، البربرية، السنّة، الشيعة،..) وبين المفهوم الحديث، الإجرائي والإداري، للهوية، الذي هو من صنع الدولة القومية الحديثة. وهو جزء من ترسانتها القانونية (إلى جانب السيادة والشرعية والحدود والإقليم واللغة، الخ.). قد يستفيد الجميع، الإسلاميون والعلمانيون، من الخلط بين الهوية (الثقافية، الدينية،..) والهوية (القانونية، الإدارية، القومية،..). لكنّ النتيجة هي في آخر المطاف وخيمة. وأحد أسباب تحوّل الثورة إلى حدث تاريخي لقيط في أفقنا راهنًا، هو مثل هذا الخلط.
ما يجدر بالفيلسوف أن يقترحه هو تمرين الناس على هوية إنسانية حقًّا، كونية أو قادرة على الكونية، ومن ثمّ يتيسّر عندئذ تمرين الدولة القومية نفسها (سواء كانت دينية أو علمانية) على الاعتراف بدائرة حقوق في الهوية لا يمكن لأيّ جهاز سلطوي أن يحتكرها أو يراقبها سلفًا. ما صنعته الدولة الحديثة هو هوية مصطنعة، إجرائية وإدارية كي تمارس سلطة بيوسياسية منتظمة وناجعة على أجساد طيّعة مؤهّلة للخضوع والاستعمال العمومي للمجتمع كشبكة حيوية من تقنيات الرقابة وأشكال التذوّت، كما شرح ذلك “فوكو” بطرافة شرسة. ومن ثمّ علينا تنزيل الثورات العربية الراهنة في سياق مقاومة منطق الدولة الحديثة، المعولمة، أكثر منه في سياق الصراع المحلّي بين العلمانيين والسلفيين.
تؤكد كثيرًا بأن “ثمة حق حيوي كوني من شأن كل بشري معاصر أن يتمتع به، ألا وهو الانتماء الجذري إلى النوع الإنساني..” أليس النوع الإنساني هو بطبيعته عبارة عن مجموعة من الهويات المتعددة التي تحددها عوامل الجغرافيا والزمان، والإرث، والبيئة، والمجموع…إلخ، بحيث يصبح من المستحيل الحصول على ذلك “الإنسان المجرد”.. ما رأيك؟
علينا أن نميّز بين “النوع الإنساني” وبين “الإنسان المجرد”. نحن ننتمي إلى حظيرة النوع البشري باعتباره دائرة معنوية تجمع بين البشر الأحياء (والموتى)، بواسطة رباط رمزي أو روحي أو أخلاقي أو عقلي أو مدني،… يبدو أنّ البشر لم يبلغوا إلى الاتفاق حول وجاهته أو دلالته إلاّ بشكل متأخّر جدًّا. فكرة “الإنسانية” ربما لم تظهر في صفائها المفهومي إلاّ في أواخر القرن الثامن عشر. أمّا معنى “الإنسان المجرد” أو “الكلي” أو “العام” فهي معنى يوناني، وقد تمّ ضبطه منذ سؤال سقراط “ما هو؟”. هذا يعني أنّ النوع الإنساني ليس مجرد “مجموعة من الهويات المتعددة”. بل هو دائرة هوية أوسع أفقًا وأخطر دلالة على وجودنا التاريخي على الأرض. والأمر لا يتعلق بوجود أو عدم وجود “إنسان مجرد” بل بمعنى الانتماء إلى هوية أوسع نطاقًا من الهوية القومية أو الثقافية لأيّ شعب. عنوان المشكل هنا هو المعنى القرآني للـ”تعارف” بين الأمم. نحن “تعارفيون” أكثر ممّا نعتقد. وبالتالي هناك حقّ كوني في التعارف لا يمكن أن نسمح لأحد بدوسه أو إبطاله.
ما يجدر بالفيلسوف أن يقترحه هو تمرين الناس على هوية إنسانية حقًّا، كونية أو قادرة على الكونية، ومن ثمّ يتيسّر عندئذ تمرين الدولة القومية نفسها
النوع البشري طفل ميتافيزيقي لا يحق لأحد أن يكذب عليه متعمدًا. ولو باسم الآلهة. لكن لا حدّ للتعالي الإنساني: كل من يريد أن يذهب فيما أبعد من الحيوان الذي فيه، في جسمه وفي عقله، له ذلك. مع العلم بأنّ ذلك مهمّة غير مأمونة العواقب.
تساءلت مرة فقلت: “إلى أي حد يمكن للفيلسوف أن يفكر في الذات بلا هوية، متى تقترح علينا الفلسفة المعاصرة ذاتًا بلا رواسب هووية لا شفاء منها” .. هذه الذات المجردة ألا تصبح بهذا التجريد مجرد جسم/ كائن حي، وجوده كوجود الكائنات الحية الأخرى؟
كان هذا الكلام نقاشًا مع إشكالية الفلسفة الغربية الحديثة: فهي من جهة، ما فتئت تؤكّد، منذ ديكارت، أنّ الأنا المفكّر هو درجة من الانتماء إلى أنفسنا هي من الصفاء واليقين والاستقلال والإثبات لنفسها، بحيث يمكن أن نؤسّس عليها شروط إمكان الحقيقة حول ظواهر العالم من حولنا. ولكن في المقابل، منذ “هيغل”، انخرطت الفلسفة الغربية فجأة في بناء سرديات كبرى حول “هوية” هذا الأنا وتاريخه الروحي وأطوار وعيه بذاته والتشكّلات اللغوية التي تكلّمها،…الخ. وبالتالي فوجئنا بنوع من “الخيانة” للمشروع الديكارتي الذي كان رائدًا في بلورة تصوّر كوني للأنا القادر على السيطرة على الطبيعة من حوله بواسطة عقله التقني فحسب. لكنّ القرون التالية من تاريخ الحداثة قد شهد تراجعًا مريعًا عن تلك النزعة الكونية في الأنا المحض للإنسان بما هو إنسان، وتحوّل إلى برنامج فينومينولوجي للهوية الغربية التي لم تدّخر جهدًا في ترجمة انتصارها الميتافيزيقي على المفهومات قبل الحديثة للإنسان، إلى برنامج لاستعمار العالم والعمل على “أوربة” أو “غربنة” الوعي البشري قاطبة، وذلك تحت حماية فلسفية شديدة (هيغل، مل، فيبر،…).
ولذلك ثمة فرق بين “ذات بلا هوية”(نعني ذاتًا قادرة على التحكّم في هواجسها الهووية) وبين “الذات المجردة التي تصبح بهذا التجريد مجرد جسم/ كائن حي، وجوده كوجود الكائنات الحية الأخرى”. لكنّه فرق سعيد: نحن فعلاً نريد أن نقترح معنى حيويًّا للهوية. فالحياة ليست أقلّ انفعالات الكائن أو الجسم. بل بالعكس، نحن قلّما نكون أجسامنا، وبالتالي قلّما نكون أحياءً بالمعنى الراقي للكلمة. فمجرد امتلاك جسم مادي، عضوي، حي، لا يعني أنّنا نعيش حياتنا بالشكل الذي يجعلها حياة قابلة للعيش، كما تقول فيلسوفة الجندر الأمريكية، “جوديث بتلر”.
فلسفة الثورات العربية
قلت في معرض الإشادة بالثورات العربية، بأننا نشهد في العالم العربي أول تفكك داخلي لمفهوم “القائد” في مخيالنا السياسي، وسقوط مفهوم “النخبة”، و”الزعيم”. ألا ترى أن غياب هذه العناصر كانت أحد أهم العوامل لتفكك جهود الثائرين وضياعها وتناحرها، ومن ثم فسح المجال مرة أخرى لعودة كبيرة لفكرة “الزعيم” في ظل ترحيب متعطش لها من قبل الجماهير، كما يحدث في مصر الآن، ما رأيك؟
ما قلناه عن تفكّك فكرة “القائد” أو “الزعيم” يتعلق خصيصًا بالقائد أو الزعيم “الهووي”. نعني الذي يأتي ليطبّق برنامجًا جاهزًا للحرية أو للعقيدة أو للانتماء، الخ. ما وقع هو أنّنا دخلنا العصر ما بعد الإيديولوجي، و”النخبة” الإيديولوجية لم يعد لها أيّ مكان. ربمّا سيعوّضها لبعض الوقت نوع من المثقف ما بعد الإيديولوجي. لكنّ المؤكّد هو أنّ فكرة “القيادة” أو “الزعامة” قد تغيّرت. مع الثورة، نحن دخلنا فجأة في ما بعد تاريخ الدولة العربية التي نعرفها منذ الاستقلال. وفجأة تحوّل الفضاء العمومي للتفكير إلى معمل لصنع الممكنات، ولكن أيضا “للاّ-ممكنات”. علينا أن نقرّ بأنّ الثورة ليست شركة أو دبلومًا. بل هي حالة ذهنية أو حالة حرية. ولذلك فإنّ تعثّر الثورات العربية في مصر أو في تونس ليس راجعًا سببه إلى غياب القيادات أو الزعامات أو النخب التقليدية المناسبة. بل سببه هو الفراغ السياسي الذي ينجم عن العصر ما بعد الإيديولوجي. في غياب خطاب هووي (إيديولوجيا رمسية جاهزة) تصبح الدولة لعبة من الحريات التي لا تملك برنامجًا محدّدًا أو موحّدًا لنفسها. دخلنا في علاقة طيفية مع أنفسنا الجديدة: أنواع عديدة من المستقبل أخذت كلّها تعمل في وقت واحد.
أمّا “فسح المجال مرة أخرى لعودة كبيرة لفكرة “الزعيم” في ظل ترحيب متعطش لها من قبل الجماهير”، فهذه ترجمة لما وقع في مصر في لغة ما قبل الثورة. نحن نفترض أنّ المشكل ليس غياب القائد، ومن ثمّ فإنّ ترحيب الجماهير بترشّح “قائد” الجيش ومطالبته بالعمل على “إنقاذ” الثورة من الإخوان “المضادين للثورة”، هو موقف يمكن قراءته بطريقة أخرى تمامًا. ما يطالب به الجمهور ليس العودة إلى القيادة الهووية للزعيم التاريخي، الملهم، الخ. وإلى المخيال السياسي للزعامة المصاحب لها، بل فقط حماية الثورة الحماية المؤقتة المناسبة التي تؤمّن الانتقال الديمقراطي المتعثّر. وقد أيقن المصريون -على خلاف التونسيين- أنّ الجيش أو المؤسسة العسكرية يمكن أن تتدخّل مباشرة في حسم النزاع. ولذلك فالجماهير تبحث عن مساعدة عسكرية في ظلّ جوّ حربي فرضته الحركات المتطرفة على المجتمع المدني. مساعدة بدون أيّ اعتناق إيديولوجي. ولكن يحق لنا أن نسأل في المقابل: هل هذا الاختيار مأمون العواقب؟ ألا يوفّر ذلك فرصة سانحة لعودة الحاكم الهووي تحت غطاء المنقذ؟ ما نرجوه هو شيء آخر: ينبغي تنشيط كلّ تقاليد “التدبير” التي عرفتها الإنسانية وتدبير العالم وكأنّه المنزل الأخير للإنسان. وما يسمّى راهنا “الحكم الصالح” أو “الحكم الرشيد” أو “الحوكمة” هو استعادة محتشمة، تحت غطاء نقد التصوّر القانوني للدولة الحديثة، لمعنى “التدبير” الذي فكّر به القدماء: التصرّف المناسب المقتصد المحتسب للثروة أو الموارد باعتبارها أمانة ما بعد شخصية للشخص “مسئول”، الذي لم يعد يحقّ له أن يعتبر نفسه “حاكمًا” أو “قائدًا” لأحد. نحن ننتقل من مقولة “الحاكم” إلى مفهوم “المسئول”. وإن كان ذلك يتمّ ببطء لاهوتي محبط.
بعد أن تحدث الكثيرون بأن حقبة الربيع العربي قد انتهت، دعني أوجه لك سؤالاً سبق وأن تساءلت به أنت في إحدى مقالاتك: كيف تحوّلت الثورة إلى نقاش لا نهائي عن الشرعية؟ وكيف انقلبت آمال الحرية إلى مجموعة فظيعة من المجادلات.. والحروب؟
بعد فوز الإسلاميين في الانتخابات في مصر وتونس، تشكّل مشهد جديد للحكم: أناس بنوا وجاهة هويتهم السياسية على نقد الدولة الحديثة والتصادم العنيف معها، وصلوا أخيرًا إلى الحكم بطريقة شرعية. ولكنّ المجتمع المدني الذي احتفى بالثورة وجد نفسه مرغمًا على تسليم السلطة الشرعية إلى طبقة سياسية لها برنامج سياسي لا علاقة له بأهداف الثورة كما تشكّلت في أذهان الشباب العاطل الذي قام بها. ومن ثورة كرامة تحوّلت فجأة إلى ثورة هوية. يبدو لي أنّ الثورة قد وقعت في لحظة وهن ما بعد إيديولوجي جاءت الحركات الإسلامية واستغلّته وحوّلته إلى انتصار عقدي ودعوي لطرف كان حذرًا جدّا من الثورة بمعناها الحديث. لكنّ من ينجح في استغلال الفراغ ما بعد الإيديولوجي لا يعني أنّه يمتلك برنامجًا مناسبًا للحرية.
 
أنصار مرسي في مصر يرفعون شعار “رابعة العدوية”
الإسلاميون سرقوا الحرية من قلوب أصحابها وحولوها سريعاً إلى أداة هووية
إلاّ أنّ ذلك النقاش الطويل حول الشرعية لم يكن خطأً أو تحريفًا للمسار، بل فقط كشف عن عمق الفجوة التي تفصل بين هويتنا الثقافية التي تتجذر في تجربة الإسلام الكلاسيكي وبين هوية الدولة الحديثة. وعلى كل تحتاج الحرية ما بعد الدينية وما بعد العلمانية إلى جدل حقيقي مع نفسها، حتى نتأكّد من أنّ ما وقع لم يكن مزحة تاريخية على الشعوب.
المطلوب هو طرح مسائل “الشرعية” على مستويات أخرى، وبطرق أكثر تركيبًا. فمن يتمّ انتخابه من قبل الناخبين في وقت دون آخر هو ليس قائدًا أو ملهمًا أو شرعيًّا بإطلاق. بل هو فقط مترشّح استجاب لانفعالات الناس في مرحلة معيّنة. وهذه الانفعالات مؤقتة وهشّة ويمكن بناؤها أو هدمها. ولذلك فالشرعية دور عمومي وليس ملكية خاصة لطرف دون آخر. ثمّة فرق مميت بين “الشرعية” (الانتخابية) و”المشروعية” (الأخلاقية) و”الشرع” (الديني). والإسلاميون يميلون إلى الخلط بين هذه المعاجم. لكن الطرح العلماني هو بدوره لا يخلو من خلط بين “الشرعي” (القانوني) و”المشروع” (المبرّر أخلاقيًّا حسب الجماعة الروحية العميقة التي تخترق مشاعر المواطنين في شكل ذاكرة أو هوية أو انتماء أو قيم…).
هل تبدلت مواقفك من الثورات العربية بعد أن رأيت مآلاتها الآن وقد انتهت إلى احتراب داخلي، في سوريا، ومصر، وليبيا، واليمن..؟
لا. الشعوب لا تندم. ونحن لا نفعل سوى أن نرافق قيمة الحرية في أفقها. وأيّ دور آخر هو بمثابة اعتداء عليها. ومع ذلك علينا أن نميّز بين حاجة الشعوب إلى “الثورات” حتى تستعيد توازنها التاريخي بين الهوية والحرية، وبين “مآلاتها” الحربية الراهنة. إذ من يخوض الحرب في هذه البلدان؟ إنّ “هوية” الثائر قد تشوّشت بشكل فظيع. وصرنا لا نفرّق بين “الشعب” و بين “الفصائل المقاتلة”، ضدّ الدولة الحديثة. لكنّ تدمير الدولة لن يؤدي إلاّ إلى خراب الهوية والحرية معًا. ولذلك فمن يفكّر في دلالة الثورة ويصاحب تعرّجاتها المفهومية، هو لا يدافع بأيّ حال من الأحوال عن “الاحتراب الداخلي” في البلاد العربية. أشار “كانط” مرة إلى أنّ الحرب يمكن أن تكون “جليلة” حين تقوم بشكلها المناسب. وليس مناسبًا للحرب مثل أن تدافع عن قيمة الحرية في وعي شعب ما. هل تندم الحرية ؟ طبعًا، لا يمكن للفكر أن يدافع عن الشرّ ؟ على كل حال، لم نبلغ بعد هذا المستوى من البراءة ما بعد الأخلاقية. لكنّ إرهاب الحقيقة ليس أقلّ قتلاً من إرهاب الخطأ. ويبدو لي أنّ الشعوب لا تخطئ. إنّها فقط تدافع عن أوهامها. ولذلك كلّ من يواصل الحديث عن العدالة يخادعنا. طمأنة الأطفال البشرية أفضل.
في الغرب، وصل الشخص البشري إلى العيش داخل أجساد عابرة للأجناس. أمّا لدينا فنحن ما نزال نستكثر على الشعوب أن تطوّر أرواحًا عابرة للأديان. والحال أنّ الجندرة الدينية أخطر وأشدّ فتكًا من أيّ جندرة أخرى.
ما تفسيرك لانبعاث التطرف الديني من جديد في العالم العربي، مصحوبًا بتأييد شعبي كبير، هل فشلت الدولة الحديثة في تأسيس قيم الحداثة، وذهبت جهودها سدى منذ دولة محمد علي باشا وحتى اليوم؟
هذا سؤال رشيق، كنت أنتظره. نعم، إنّ جزءًا كبيرًا من المشكل يرجع إلى دور الدولة ومفهومها. نحن لم نتوفّق إلى حدّ الآن في بلورة مفهوم مناسب للدولة لدينا. هناك حكم، ولكن ليس هناك دولة. ولذلك فإنّ “التطرف الديني” ليس مفصولاً عن طبيعة العلاقة الحديثة التي تبنيها الدولة مع الأفراد. وعلينا أن نكفّ عن معاملة التطرف وكأنّه عاصفة متأتية من قلب القرون الوسطى. إنّ التطرّف جزء من ماهية الحداثة نفسها. نعني بالحداثة إرادة إخضاع الكائن بواسطة العقل التقني باعتباره مجرد شيء لا يملك أيّ معنى خارج الاستعمال الأداتي له. ولو ترجمنا هذا في نظرية السيادة أو السلطة أو القانون، الخ. كما تستعملها الدولة الحديثة لفهمنا أنّ أيّ نوع من “العنف” الحديث (والتطرف شك
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://philo.forumarabia.com
 
دور الفيلسوف
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
فيلوصوفيا :: دراسات فلسفية :: مقالات فلسفية-
انتقل الى: