فيلوصوفيا
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


.
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول
اتصل بنا
لماذا لا نفكر فلسفياً ؟ Contac10
بحـث
 
 

نتائج البحث
 
Rechercher بحث متقدم
المواضيع الأخيرة
» تذكير ديداكتيكي بخصوص الدرس الفلسفي.
لماذا لا نفكر فلسفياً ؟ Clock10الأحد أبريل 28, 2024 12:47 pm من طرف كمال صدقي

» مُعينات ديداكتيكية رقم 13
لماذا لا نفكر فلسفياً ؟ Clock10الأحد أبريل 28, 2024 12:45 pm من طرف كمال صدقي

» مُعينات ديداكتيكية رقم 11
لماذا لا نفكر فلسفياً ؟ Clock10الأحد أبريل 28, 2024 12:44 pm من طرف كمال صدقي

»  العقل الفلسفي والعقل البيداغوجي
لماذا لا نفكر فلسفياً ؟ Clock10الأحد أبريل 28, 2024 12:42 pm من طرف كمال صدقي

» إلى أيّ مدى يُمكن الحديث عن تعثّر فلسفي على المستوى التعليمي؟
لماذا لا نفكر فلسفياً ؟ Clock10الأحد أبريل 28, 2024 12:33 pm من طرف كمال صدقي

» الفلسفة لعامّة الناس.. عن القيمة اليومية للفلسفة
لماذا لا نفكر فلسفياً ؟ Clock10الأحد أبريل 28, 2024 12:32 pm من طرف كمال صدقي

» إشكالات ديداكتيكية
لماذا لا نفكر فلسفياً ؟ Clock10الأحد أبريل 28, 2024 12:30 pm من طرف كمال صدقي

» كفى من جعل الفلسفة معبدا مقدّسا
لماذا لا نفكر فلسفياً ؟ Clock10الأحد أبريل 28, 2024 12:28 pm من طرف كمال صدقي

»  ما أسباب تعطيل الاستئناف الفلسفي ؟
لماذا لا نفكر فلسفياً ؟ Clock10الأحد أبريل 28, 2024 12:27 pm من طرف كمال صدقي

» متى سنبدأ الإستئناف الفلسفي بجدية وحزم ؟
لماذا لا نفكر فلسفياً ؟ Clock10الأحد أبريل 28, 2024 12:11 pm من طرف كمال صدقي

مواقع صديقة
لماذا لا نفكر فلسفياً ؟ Philo-10
سحابة الكلمات الدلالية
التاريخ الفاعلية الشغل العلوم الغير النظرية مفهوم السياسة والحرية الحق جذاذة البشري قيمة الرغبة وجود الطبيعة الفلسفة الحقيقة الشخص معرفة الضرورة الطبيعي مجزوءة نصوص الوضع الدولة

 

 لماذا لا نفكر فلسفياً ؟

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
كمال صدقي
مدير المنتدى
كمال صدقي


ذكر
عدد الرسائل : 2399
العمر : 68
البلد : أفورار
العمل : متقاعد مُهتم بالدرس الفلسفي
تاريخ التسجيل : 20/12/2007

لماذا لا نفكر فلسفياً ؟ Empty
مُساهمةموضوع: لماذا لا نفكر فلسفياً ؟   لماذا لا نفكر فلسفياً ؟ Clock10السبت سبتمبر 20, 2014 9:52 pm


لماذا لا نفكر فلسفياً ؟
نحو استراتيجية جيو ـ فلسفية
مطاع صفدي
إنسان الفرد ضد (الـ) إنسان
ربما كان من الأسهل في التمعين الحداثوي ألا نسأل أبداً سؤالنا التقليدي: ما هو الفرد، بل كيف يكون فرد. ومع ذلك فالسؤال الثاني هذا قد يفر من الأنطولوجيا إلى الإتيكا، وربما لا يمر بالفرد حقاً، بل بأشباح مشبحة عنه، ومصنفة في مراتب ومقولات. الفرد يطلع وجهاً أمامي. ومع ذلك ما أصعب أن أتفكره. لعل هذه الصعوبة هي التي طبعت تاريخ التفكر الفلسفي بالانزياح بعيداً عن الأفراد، عن الأجزاء، وأحياناً عن العالم أجمع. والتفكر الحداثوي يدعي أنه يولد وهو يقرع أبواب هذا العالم، التي أغلقها في وجهه، تاريخ التفكر ذاته، منذ أن قال (ابن رشد) إنه لا علم إلا بالكليات، مختصراً بذلك كل المنهجية الأرسطية. وهكذا يبقى تفكر الفرد أشبه بصدفة لقاء مع فرد خارج أل التعريف التي تلتصق بملفوظته كلما اضطررنا إلى جعله موضوعاً لتأمل نظري معين.
مرحلة العلوم الإنسانية حاولت أن تطرح حلولاً تعددية ـ وإن كانت في النهاية حلاً وحيداً ـ لهذا الإحراج الفلسفي القديم. فهي أنكرت الفرد بطريقة جديدة عندما اعتبرته نتاجاً نسبياً لظروف تاريخية أنتروبولوجية تجمع بين التغير المتواصل وشبه الثبات. فالتاريخ كتحقيب قدم لنا الفرد القبلي والفرد الإقطاعي والفرد البرجوازي، وصولاً إلى الفرد التقني أو السبراني. والأنتروبولوجيا عرضت لنا نمذجات بحسب ألوانه وعروقه متخفية وراء أنظمة ثقافية واجتماعية معينة. فالعلوم الإنسانية وفي مقدمتها التاريخ والأنتروبولوجيا بفروعهما غير المحددة، قدمت لنا الفرد ليس من خلال مقولة الإنسان الفلسفي القديم، ولكن من خلال الأطر التي تتراوح ثباتاً أو تغيراً بقدر ما تقترح طبائع أو نمذجات من جهة، أو ظروفا وحقباً من جهة أخرى.
لا نريد أن نتوقف عند واحد من جملة هذه العلوم الإنسانية، فإنها غدت نوعاً من أركيولوجيا قد تقرأ لإثارة التلذذ بالقديم ومتعة المنقضي، أكثر منه لإنارة المشكل الراهن. لكننا ينبغي أن نقدر كل هذه الأركيولوجيا لأنها في واقع الأمر كان عليها أن تصطدم بعقبة كأداء، لو أنها خطر لها المجيء إلى الفرد بطريق الفرد وحده. عقبة تلك كالاستحالة، خصوصاً إذا خضعنا إلى الدرس الأول في كل منطق، المتعلق بأساس عمارة الكلي والجزئي. فلم يكن يخطر للفكر أن يتفكر خارج آلته الأساسية المسماة بالمنطق. فحيثما لا يمكن لهذه الآلة أن تعمل ينسحب الموضوع ويغيب. ما لا نعقله بوسائل المنطق يخرج عن الكينونة. هكذا، فالطريقة الوحيدة التي اخترعها المنطق دائماًً للتخلص من الفردي كانت في اعتباره: الجزئي. ورغم وضوح الفارق ـ المنطقي جداً ـ بين عبارتي الفرد والجزئي، فقد اختيرت الثانية لتحتل حيزها الخاص، وحيز العبارة الأولى في آن. وكل ما نفعله الآن هو إعادة نبش وانتشال الفردي من تحت كل تلك الأنقاض، التي تحول إليها عبر منعطفات الثقافة الإنسانية سواء منها الموصوفة بالغربية أو العربية أو غيرها. لكأن الثقافي نفسه يمارس صيغة هروب متنوع أمام الفردي. بالمقابل يدرك الفردي أن الثقافي هو آخر ما تبقى له كإطار مقبول لعرض لوحاته من خلاله. ومع ذلك هنالك حالة الفرد الخام الذي يستهتر بحاجته إلى المدد من الثقافي، ويقبل بتعجيز
اسمه عن أن يكون له عرض، إلا عرضه الخاص، كوجه وإطار منه وله.
عندما نتوجه إلى هذا الفرد الخام، ما هي اللغة التي نكلمه بواسطتها. لقد اخترعت اللغة اسم العلم، لكنها لم تستطع أن تقدم للفرد ثمة معرفة عنه أكثر من أيقونة الاسم المصنف علماً. بالمقابل، فإن الفكر الذي أعجزه طلب الفرد المباشر، اخترع مقاربة الفرد عبر أيقونة (الواحد). لكنه رفع هذه الأيقونة من النص وأعطاها مرتبة عالية ومتعالية. فالواحد إما أن يكون إل_هاً أو لا يكون أبداً. هذا الإقصاء الحاسم لم تمارسه العقائد الميثولوجية والدينية فحسب، بل علقت العلوم الإنسانية الحديثة كذلك بين مخالبه، ولم تستطع أن تفر منه بالرغم من ثراء الأفاهيم الرمزية التي اكتشفتها ونسجت منها أهم كشوف نصوصها المؤسسة للحداثة. لقد تم اختراع الإنسان للفرار من الفرد. وكان ثمة تواطؤ استبدالي في اللاوعي البياني، واللساني بشكل عام، مفاده أن تداول الإنسان يعني الفرد في آن معاً. ولو حاولنا تصور المدى المعرفي الذي شغلته لفظة الإنسان، الإنسانية، وكل المشتقات النحوية منهما، فإننا قد ندرك فداحة الاضطهاد – المعرفي كذلك ـ الذي خضعت له لفظة الفرد، لدرجة إقصائها تقريباً من مجمل التداول اللساني، في جميع اللغات المتمدينة. هذا إلى جانب تلك الموجات المتعاقبة في تيار واحد من الميتافيزيقا الفردوية المرتبطة بالنزعات النفعية والانتهازية والذرائعية الحديثة – أو التداولية بحسب المصطلح اللساني. فذلك التيار الذي يتعاطى مع الفرد قد جرى تصنيفه أخلاقياً في مرتبة مضادة دائماًً للمفهوم التبجيلي المعطى للإنسان. فالفرد هو التوأم للإنسان. لكنه التوأم المقصي، مركز العيب. حتى يمكننا أن نقف متسائلين: إن كان الفرد ليس إنساناً حقاً. وبالعكس، فإن المعهود التخاطبي إن أراد الاعتراف بثمة فرد، قال: هذا إنسان. هناك حالة ما يمكن تسميتها فرداً بصورة مؤقتة، شرط المسارعة إلى جرها نحو كينونة أخرى، تمنحها استقراراً بعد تيه شديد، وتجسيداً مقبولاً بعد عري ممجوج من النظر والذوق معاً. إذ إن تعرية إنسان من إنسانيته، ورده إلى مجرد فرد، تشبه تعرية الجسد من أي لباس مدني ورده إلى الحالة البرية. إذاً أحد التوأمين في أيقونة: فرد/إنسان ينبغي إقصاؤه لصالح الآخر. فليس لهما وجود معوي. بدلاً من أن يكون أحدهما لا يقوم بقيام أو بدون قيام الآخر، فإن المعهود التخاطبي يقدم كل أشكال الحجب والتمويه لكي تغدو العلوم الإنسانية ذات موضوع واحد يدور دائماًً حول الإنسان مقطوعاً عن توأمه الطبيعاني ـ الحيواني ـ البري ـ السديمي، هذا الذي اسمه الفرد.
أن يكون الفرد هو فرده، فذلك مشهد لا يطيقه نظر؛ وذلك حكم ينوء به علم الدلالة بكل ثرائه. وليس الأمر على مثل هذه الصعوبة والشدة، إلا لأن كل العلوم، وحتى علم العلوم ـ أي الدلالة ـ تلعب لعبة الإرجاعات. فهي حتى تكون لها مهنة وحرفة تبرر كل جهدها، محتاجة إلى أن تقلب حركة التيار؛ فتدعي التراجع إلى الخلف، من المصب إلى المنبع. لكنها تعوم في تنويعات المصب وتفرعاته. ذلك أن بلوغ المنبع وهي مغامرة مستحيلة ـ قد تنهي لعبة الإرجاعات عند نقطة البدء. فالينبوع مطمور دائماًً تحت خضم أمواجه وزبده. لكن الفرد مع ذلك ليس ينبوعاً ولا حتى مصباً. والاستعارة المورفولوجية هذه تبعده عن مقالعه الأصلية. فقد يجد له خيالَ ظلٍّ في حَصْوةٍ بين الحَصَى، في قاع التيار أو على ضفافه، أو بعيداً جداً عن واديه كله، في تضاريس جبال وسهول تغطي الأرض.
المعهود التخاطبي قد يريد الإيحاء أنه عندما يقنعنا مرآوياً وعبر آلية الترداد اللفظي، أن الإنسان هو فكرة وحالة وقيمة، وأن الفرد يغدو إنساناً عندما يلتحق بالفكرة، أو يتلبَّس الحالةَ، أو يُبَنْين القيمة؛ عندما يفعل ذلك فإنه يعتقد أنه يشيد عمارة شامخة صالحة لسكنى الجميع فيها.
وبالتالي، حتى ندرس الفرد لا بد من أن يدخل التاريخ أولاً، ويبني المجتمعات، ويكون هذا الاسم السحري الكبير الذي ننتمي إليه جميعاً، وهو الثقافة. فماذا يعني الفرد حقاً دون كل هذا التراث. إنه مجرد حيوان. وهنا نواجه التعريف اليوناني الشهير الذي قال إن الإنسان حيوان ناطق. لولا نطقه هذا لَـمَا عرف نفسه، قبل أن يعرفه الآخرون ـ ومن هم هؤلاء الآخرون. فلزوم النطق للإنسان، هو لزوم الوعي الذي صار الموضوع الأصعب والأخصب للفكر، والمثالي منه بخاصة، حتى دخل تحت معطف الأدلجة؛ فشهدنا الثقافة تنافساً بالتعريفات فيما بينها، لهدف تناسي المعرفة به، وطمس حضوره تحت ضجيج الأوصاف التي تتراكم فوق ظهره بعلمه أو بدون علمه. فالتعريف في حد ذاته، وقبل أن يكون تعريفاً لشيء من الأشياء، يتضمن مصادرة على المطلوب، على الشيء الذي يدعي أنه يعرفه؛ وهو هذا الإدعاء نفسه الذي يغدو مصدرَ تساؤلات وإحالات لا تنتهي. كما لو قلنا إن الأوصاف تتنافس على الموصوف، في حين أن الموصوف يأتي قبل الصفات ويبقى بعدها. وقد لا يأتي أبداً.
باختصار، إن العلوم الإنسانية لو سمَّت نفسها علومَ الفرد لما اهتم بها أحد. فهي علوم قيمة أكثر منها علوم وقائع. فما أن يدنو الفرد من أي مفهوم حتى يجد المفهوم نفسه مطالباً بإعطاء تبريره. وحدَه الفرد يتمتع بهذه الخاصية وهي أن ماديته بالذات هي تبريره. لكن كيف يمكن تسمية هذه المادية تبريراً، إن لم تشرع في التخلي عن جسامتها تلك والدخول في هالة الحضور. ماديةُ الفرد تقدم جسامته. حتى يصير هذا الجسدَ، لا بد أن يبرز أولاً فرداً. فالجسامة ليست هي الجسد، كما أن الجسد ليس هو الفرد. وحتى لا نقول إن الجسد هو دليل وجود الفرد أو حامله أو موضوعه، فإنه ينبغي التخلص من هذه الثنائية بين ما هو مشخص وما ليس كذلك. لكن هذا الانزياح المتبادل بين جانبي الثنائية ـ حتى لا نقول بين حديها ـ هو الذي يضع الفرد ضمن مسافة الإنسان وخارجها في آن معاً. فالانتقال بينهما ليس معطى مباشراً، ولا هو بالمعرفي المحسوم، بالرغم من كل جهود الثقافة، واللغونات المحيطة بأيقونة الإنسان، والنافرة والهاربة من ذلك الفرد. هذه الإحاطة تنمّ عن طلب مُلحٍّ لجلب التبرير. غير أن المعرفي هو الذي يتصدَّى للتبريري. فإن يحتج بالإنسان، لطمس الفرد: هذا ما يكشف أن السياسة كانت علم التبرير وليس فن التحرير. والتبريري عدو قديم وشرس ضد المعرفي. لأن التبريري يصطنع كل عدَّة المعرفي، ويتقنّع بكل ترميزاته، ثم يباشر بدقة ووعي في خداع المعرفي عن نفسه. ذلك أن المعرفي لا يمكن أن يقدم بضاعته دون أن يشفعها بأساليب الإقناع. وهنا يقع التدخل المريب للتبريري، فهو بارع في استنباط الحجج وجعلها دامغة، حتى يُدخِل في روع المعرفي أنه يلتقي حقاً بِنَسَقه العضوي الذي يجعله كذلك، أي يجعله معرفياً. وعندئذ، لا بد له أن يصل إلى تلك المرتبية من التطابق مع ذاته، أي أن المعرفي يبلغ ذلك الحد من (شدة) بيانه الخاص، بحيث يتحقق من اقتناعه، بدعواه الخاصة في كونه هو هذا المعرفي. لكن تدخّلُ التبريري هو الذي يفسد انتظام هذا التشكيل، إذ يطرح نفسه بديلاً عن الاقتناع. لأن التبريري لا يهمه الموضوع الذي يشتغل على تبريره في حد ذاته، إن كان خطأ أو صحيحاً، لكنه منشغل فقط بخلق حالة اقتناع ما.
بالرغم من بداهة العلاقة بين التبريري والاقتناعي، إذ يبدو بوضوح أن هناك ترتيباً ضرورياً يفترض استباق الحد الأول، والتحاق الحد الثاني، إلا أن المعرفي هو الذي يكشف عن هشاشة هذه العلاقة، ما إن يدل على غيابه هو ذاته من كلا الحدين. ليس معنى هذا أن أحدهما يولد الآخر، إلا عندما معاً يولدان المعرفي أو على الأقل يجهزان حيزاً لاستقباله. غير أن المشكلة هي أن المعرفي ليس حداً ثالثاً أو زائداً على كل من التبريري والاقتناعي؛ ليس تركيباً أعلى منهما أو لهما. بل كل بداهته المباشرة تبرز في محايثته الأنطولوجية وحدها، دون سند من أي منهما. ذلك ما يعنيه القول إن المعرفي إنما يأتي ونظامه (الأنطولوجي) معه. فالبرهان مهما كان بارعاً لا يعوض فراغ الموضوع. يتضح هذا اللبس فيما يفعله فكر (الإنسان) بالفرد. فالإنسانويون ذوو النوايا الطيبة، كان في ظنهم أنهم يقدمون جنات عدن للفرد بواسطة تبريرات لا نهاية لها في مراتع المفاهيم والقيم والمدارات الفكروية. وإنك حتى تقبل زيداً لا بد أن تستحضر معه قبيلته بكاملها. حين يدخل علينا زيد تحت خيمتنا نسأله أولاً من أبوك، لا من أنت! فالتجريد ليس حالة حضارية عليا فقط، بل لعلها تأتي في أولى درجات الجماعات المترحلة. وليس اكتشاف الجزئي هو المقياس الأعلى، بل هو مصادفة الفردي. فكل طرق الجماعات والكليات والعموميات قد تؤدي إلى الجزئي، في حين ليس هناك سوى طريق واحد للقاء الفردي، هو هذا اللقاء بالذات، مصادفته حيثما نبحث أو لا نبحث عنه أو عن سواه.
طرافة المعرفي هي أنه صاحب قرار استئنائي، وربما شاذ كذلك، لأنه عازم على التفكر خارج الكل والأجزاء. إنه يجرب مغامرة العثور على ذلك الشيء الذي ليس هو الجزء ولا الكل، ولا ينطبق عليه أي منهما؛ هل هذا لأن المعرفي يريد أن يكون خارج لعبة العنف التي يجرجرها التبريري وراءه أينما حل في أي اسم ليحشره في قضية. كالتعريف الأرسطي للإنسان بكونه هذا الحيوان الناطق، فقد أطلق الإنسان خارج الحيوان، خارج جميع أفراد الحيوان، ولم يعثر له على فرده بعد إلا في هذا الاسم: الإنسان. وباعتبار أن هذا الاسم ليس موجوداً بعد، فقد جعله أرسطو هدفاً، وبذلك زرعت بذرة الإيديولوجيا؛ فلم يعد يمكن لأحد أن يوجد قبل هدفه. وهل هناك أَجَلُّ من أن يكون هدفُ الإنسان هو العقل؛ لكن الاعتراض ليس في توزيع الأدوار على هذه المسميات، بل في الترتيب المعماري بينها فحسب. فلقد جعل هذا العقل وحيداً منذ بداية اختراعه، معلقاً هكذا في فراغ شاسع فوق رؤوس كل الذين ولدوا وسوف يولدون من المفاهيم والأشخاص،
على هذه البسيطة الكروية، تحت خانته.
.
والتبريريون، يفرحون لهذا التعليق ويسمونه مستقبلاً، ويرسمون حركة المواليد على هذه الأرض ويسمونها تطوراً؛ هذا الحشد: كل أموات العالم قبلنا عاشوا وماتوا من أجل أن نولد نحن ونعيش ليولد ويعيش من بعدنا. فالقبيلة الإنسانية مستمرة. زاحفة من عمق الأزل إلى صميم الأبد. والإيديولوجيا ليست منظومة أفكار تبريرية تحمل هدفاً. لكنها قد يتم استيعابها في لفظ واحد، كالإنسان الذي صار نواة الإيديولوجيا، وكل إيديولوجيا حملت صفة الإنسانية، أو الإنسانوية بالأحرى. كأن الإنسان مفهوم إيديولوجي، يغيّر منه الأفراد باستمرار ثم يقعون في حبائله، حتى عندما يعلنون وراثته كسيد على العالم بعد تنحية سيده الكنسي، وحتى عندما يعلنون عن وفاته الثانية من أجل ولادة إنسان بدون أل التعريف. فهذا الكائن الآخر الذي تبشر به «الحداثة البعدية» لا يلبث أن يغدو تبريرياً، وبالتالي ينزاح المعرفي تدريجياً من حيزه. فما يزال من شبه المستحيل، كما يبدو، التفكّرُ بالفرد دون إلحاقه بثمة إنسان ما، ويتمثل حد الاستحالة في عكس هذه الآية: أو ليس يمكن التفكر بـ الـ ـ إنسان دون أن يلحق به ثمة إنسان. إن أيقونة نزع الوهم la desillition بينت بسرعة أن هناك دائماًً جوفاً يختبئ فيه المسكوتُ عنه. لكن المتخيل الاجتماعي ليس هو المتخيل الميتافزيقي. فما يحدث على مستوى ترميز الأول ليس من الضروري أن يعكس أو يضاد الترميز الثاني. والنقلة بين الحيوانية في القاع الأسفل، إلى الإنسانية في المراتب الأسمى، لا يمكن تصنيفُها انقطاعاً أو اتصالاً. فلا بد هنا من القلب الثالث الذي لم يتحدث عنه ماركس عندما طالب بجعل التاريخ يمشي على قدميه بدلًا من رأسه ـ كما عند هيغل؛ وهو أن يمشي على أربع. أليس هذا ما عناه كوجيف عندما رأى «نهاية التاريخ» في هذا التطابق بين الأعلى والأدنى، بين المطلق والنسبي، في عودة إلى الحالة الحيوانية التي تدشن بلوغ صولات السلبية أقصاها واستنفاذ وسائطها بين المفهوم والخطاب(1).
نعود في نهاية المطاف إلى هذا الإنسان الذي عرفه أرسطو مرة بأنه حيوان ناطق وقد راح يتحد مع طبيعانيته ولكن دون توسط هذا النطق بالذات، وتاريخه الدرامي الحافل. فهل كان النطق أو العقل ـ تلك الإضافة على الطبيعانية، أي الحيوانية الأصلية ـ قد وضع حداً لهذه الحيوانية، على طريقة الأفاعيل السالبة للجدل الهيغلي، ثم حاول أن يستردها عبر تاريخ من التناقض الجدلي بين الطبيعة الطابعة والطبيعة المطبوعة، هذين المصطلحين العريقين في مسيرة نظرية المعرفة.
هكذا نلقى أنفسنا، وقد بدأنا الحديث عن الفرد، لننتقل إلى الإنسان، ونصل إلى العقل والتاريخ أخيراً. ولكن قد يمكن القول إن الفرد يظل كامناً دائماًً وراء كل مفهوم، وإنه راصد مرصود وراء كل منعطف أو قطيعة معرفية. وأنه مضطر أبداً أن يتخفَّى تحت أسماء العلم، ليبقي على اسمه الخاص. لكن المسألة ليست في إقامة بَدَنٍ فقط للفرد، بل في الاعتراف بهوية لا تنطبق إلا على جسد حاملها الخاص. إذا كان ذلك هو الرهان الأخير للسؤال الفلسفي، فربما كان هو كذلك بالنسبة للمرحلة النهائية التي ستقوم بها الحضارة، يومْ يجري الاهتمامُ حقاً بكيفية الانتقال العسير من شعار «حقوق الإنسان»، إلى وجوه الأفراد. هذا الانتقال هو الذي سوف يبرهن وحده فيما إذا كان كل تاريخ التجريد الذي سبقه يمكن أن يثمر في النهاية ولادة صحية وسليمة لشيء اسمه الكائن. أي عندما يغدو الكائن موجوداً بكينونته وليس مبرراً بكينونته. فإن عكس التبرير، أي ارتجاعه إلى ما يحاول أن يبرره، يُبطل حكم القيمة، وينخرط في تقرير وقائع. وتحدي العقل هو ألا يكون عقل فرد فحسب، بل أن يعقل فردَه بما يجعله شافاً عند نفسه. ويعني هذا الشرط الأنطولوجي ـ إن كان للأنطولوجيا تدخل في هذا السياق ـ هو أن ينتهي العقل من ممارسة ذاته كجهاز تبرير، مكتشفاً، في كل آنٍ، فوارقَ المغايرة بين الكينوني والتبريري.
يدخل الفرد بين الكينوني والتبريري ليعلن الحد بينهما، أو ليعلن نفسه هو الحد بينهما. في حيّز التبرير تتراكم المسوِّغات التي تدعي تعليل الكائن الذي تزيد في خفائه، لتحل هي مكانه. والفرد يلحظ أنه لا يخترق هذه المتراكمات فحسب، بل عليه أن يحرقها، ويجعلها رماداً. لكنه من نوع ذلك الرماد الواعد الذي عاشت عليه شعلة الحداثة الجديدة. إذ ليس المهم هو الإعلام عن موت الإل_ه، بل التمعين في رماده كما فعل جورج باتاي، بحيث يمكن للحد أن ينبجس دائماًً، كما لو أن موت الإل_ه هو حادث قتل مستمر ينبغي معاينته وتمعينه لكي ينبجس هذا الحد ويحدث الاختراق. ولقد رمز موت الإل_ه، أو قتله المستمر، في أدبيات الحداثة البعدية، إلى كل تلك الثروة الفاحشة من الأفاهيم التي ستتزوَّد وَمَضاتٍ حيةٍ دائماًً من محايثة الحدّ، باعتباره دنيوّية مغامرةٍ محفوفة بالخطر، معلقة في مطلق الفراغ، لكنها دنيوية لم تطلق الميتافيزيقا بل جرتها إلى صميم تشكيلها ـ الذي لا ينتهي من التشكل ـ كحد من حدودها الأكثر إثارة للغواية والشغف.
الدنيوية خارج التحقيب
يستطيع الفرد أن يرى إلى نفسه أنه هذا الكائن الذي تولد مع حدّه ومنه دنيوية مهمومة دائماًً بإعادة تمثيل قتل الإل_ه، كما لو أنها تولد من أبوته المقتولة في كل لحظة. فالفرد قد يعي أنه إنما ينحدر من سلالة التبريرات كلها، لكنه بالمقابل قد يدعي أنه هو الحد الأخير الذي تقف عنده السلالة. وقد يتمكن من قلب السلالة إلى مجرد سلسلة. والسلسلة مؤلفة من حلقات لا ينحدر بعضها من بعض، بل هي تتعالق فيما بينها أو تتراصف وتتناضد، أو تنفرط وتتفرق. وقد يكون الخطاب الفردي هو ذلك الخطاب العضوي للفلسفة، الذي تقوم قاعدته في البحث عن قاعدته، كما يتمعن ليوتار(2) حول دلالة «الخطاب الفلسفي» في زمن عجز التعبير. ونحن نقول هنا بالأحرى: عجز الصياغة. وكما لاحظ ذلك فوكو في فجر كتابته، في عبارة احتفالية كالتالي: «ها نحن نلقى أنفسنا في غمرة نعمة كانت غير منظورة منذ وقت بعيد: فما عادت كينونة اللغة لتظهر بالنسبة لنفسها إلا في اختفاء الذات»(3). لكن انبثاق كينونة اللغة بالنسبة لذاتها أسس عصر الشفافية، وفي هذا الوقت النادر بالذات يجري مداهمة الشفافية بالمرآوية، وتهزيز مشهدياتها، وزعزعة تشكيلها قبل أن تتم بنينته. فإذا كان كمال التاريخ، أو نهايته، بحسب الهيغلية المعاصرة، إنما يتحقق في تطابق المفهوم مع خطاباته على أرض الواقع، يعني عندما يغدو اللغوي معادلاً لدلالته، ويصير الترميز حقيقة ذاته، فإنه الكائن اللغوي الذي يحين أوانه أخيراً هو الذي يتلقى المؤامرة الكبرى على كيانه هذا. إذ أصبح يمكن التحدث في سياق المايحدث الراهن عن فجيعة التاريخ بتبديد أعظم آماله، أكبر إمكانياته: وتلك هي المؤامرة الكليانية التي، لشدة فداحتها وإطلاقيتها، يمكن وصفها بالمؤامرة الميتافيزيقية الكبرى. ولعلها كذلك؛ إذ ما هي المؤامرة الميتافيزيقية الكبرى إن لم تكن مواجهة الشر المحض، مع التعجيز في تسمية هذه المواجهة والتعجيز في تسمية ما تواجهه، في آن.
حين شرع الفكر في التفلت من عتمات الذاتوية، راح يحطم، واحدة بعد أخرى، حلزونيات الأدلجة؛ ويصير فكراً خارجانياً، يتحسس الحدود في المساحات اللانهائية، يتلمسها يتقرّاها، يخترقها، ويفاجئ ذاته بمنعطفاتها، وسدودها، ملء خارطة متداخلة غاصّة بكائنات العالم وأشيائه. حيطان البيت تخفي/تضع داخله، في الخارج. ودفعة واحدة يلقى الفرد فرده على مسافة متساوية من الذات والموضوع معاً. يصفي قصة إحراجه المزمن: المثالية أو الوضعية. يتحاور مع القطبين دون أن يدع أحدهما يقتنص حيزه. أهمَ ما يزوّده به تاريخ الأنتروبولوجيا الفلسفية هو هذه النتيجة الأخيرة، هذه الأيقونة الطريفة الشائقة التي تعلن انقضاء أسطورة القطيعات لصالح أسطورة مستحدثة ولكنها مغرية، وهي المجاورة أو المواقعية: حيثما ينتصب فرد، تقع حادثة، فينبجس عنصر قابل ليدخل مع نظرائه في إبداع تشكيل ما. لذلك عندما وقع التصاق الفلسفة مع الشعر لدى الجيل النيتشوي ـ الهيدغري وسلالته الفرنسية بخاصة، فقد كان ذلك إشارة تاريخية لاستنفاذ الفلسفة الأكاديمية أغراضَها التجريدية، وحاجتها حقاً إلى ما هو سواها، إلى الشعر نفسه، من أجل إعادة التفكر بما لا يمكن للتجريد أن يعطيه، بل أن يمسحه من الوجود. تلك هي ولادة المختلف. وقد ظهر المختلف أولاً مصنوعاً من لحم وعظم، له كيان، ووجه، ولسان يتكلم. فالفلسفة أرادت أخيراً أن تماشي الحياة، لا أن تعلو فوقها، فلم تر أمامها سوى عالم يموج بالبشر، وكل منهم يقص قصة مباينة. وهكذا يستعيد الخطاب الفلسفي دراميتَه التي افتقدها منذ أن أضلّه أبولون عن غريمه ديونزيوس وسحبه إلى طبقة ← الفكر، بدل أن يظل راقصاً تائهاً بين الأفكار.
التصاق الفلسفي بـ ـ الشعري، على طريقة باديو، هو فشل أيقونة: الفلسفي الشعري، دون حرف الجر والمعية (الباء) بينهما(4). كما أن التصاق الإنسانية بالفرد يحقق قانون العدد. كالغابة السوداء التي تحجب تحت ظلالها الرمادية حقول أزهار من اللون والضوء ورسائل الروائح الصامتة، المندسة المنبثة. مشكلة الفرد أنك لا تعرفه حتى تلتقيه. هو وحده من بين كل أفكار التاريخ الرائعة، يكون الفكرة التي تتأبى على الفهم والتحليل والتركيب، لأنه يشغلك أصلاً بالنظر إليه، واكتشاف وجهه، وسماع صوته وكلامه. إنه حد الحي. وتعريف الحياة يبدأ من نقطته. وما أن يتجاوز هذه النقطة حتى يمسي كل سرد مطالبا أولاً باستحضار ما كان قد نَسيه؛ كل بيان علمي، رياضي، فلسفي، مضطر أن يعود قصاً. وكل قص يفترض راوياً ومستمعاً. هذا هو اكتشاف غاليله الثالث، في العصر الراهن. فالأرض تدور حول الشمس وليس العكس (غاليله). والعقل يدور حول الأرض (كانط)، والفرد يدور حول الأرض والشمس والعقل جميعاً، لأنها إنما تدور حول الفرد واقعاً. وبعيداً عن قصة من يدور حول من، فإن مولد فرد غير معني بالمركز والدائرة، بالنص والهامش، تلقى مشروعها العملي ما أن بدئ في تفكيك الهندسة وبعثرة عدتها من الخطوط والزوايا والأشكال والأحجام ملء الفراغ الذي حاولت حصره وحصاره. صار الفرد من جديد مترحلاً. حيثما تقف قدماه يتضلَّع حيز، ينبني تشكيل، ويشرع في إعادة رسم الجهات الأربع.
لقد كتبت العلوم الإنسانية، وتحت وطأة الماركسيات ومضاداتها، عن كل الظروف [البسيكولوجيا السوسيولوجيا، الأنتروبولوجيا، الإتنولوجيا... إلخ] التي تصنع، تنتج، تخلق، تكون، تحدد، تصوغ ماذا؟ الفرد؛ فكل هذه الأفعال تنزل صواعق على رأس هذا الفرد الذي لم يولد بعد، وتحتفل بما قبل ولادته؛ لكنها نسيت جميعها أن تسمعنا صياح صدمة الميلاد لطفل ينزل من بطن أمه. بناء على ما تقدم، فإن الحداثوي/المعرفي له ادعاء آخر. وهو أنه لا يمكن إقامة الحد إلا عندما يتم اكتشافُ المحدود وهو منخرط في خطيئة الوجود. ذلك هو تعجيزُ الفلسفي الجديد. إنه يريد أن يلد ولادةَ اللؤلؤة التي تتكوّن في رحم الصَدَفة في أعماق المحيط. وبدون هذا الشرط يغدو كل اللؤلؤ صناعياً، يابانياً. وتلك هي لحظة انعتاق الفلسفي، يكون فرد نصه، فرد نفسه. ذاك هو تعجيزه، وليس معجزته. إذ لا بد للفلسفي أخيراً من أن يكون ممتنعاً على كل ما يغايره، سوى ذات نفسه. فتأتي فردية النص، ويكون هذا النص فلسفياً في آن معاً. فالفلسفي لا يتكلم بالعام، لكنه يأتي بالكائن. وإذا لم يفعل ذلك فإنه ينزاح إلى منطقة التبريري ليستعير منه ما يغطي خواءه. فماذا يفيد الفلسفي حقاً إن كان ربح العالم وخسر فرده؛ تلك هي مهمة التعجيز التي يضطلع بها من يريد تقديم وجهه فحسب فوق حطام المرايا: أن تكون هناك عيون حقيقية وتشهد ما تشهده على أنه هو ما يقدم نفسه، وليس هو ما يتراءى فحسب. مثلما كان على هولدرلن أن يسلك كما لو كانت الآلهة قد ماتت أو غابت إلى الأبد، فلا استمداد لعون اللُّغْزيّ إلا من هذا الغياب بالذات(5)؛ كذلك فإن على الفرد أن يتحرك كما لو أنه فقد العون، من هذا الإل_ه الآخر: الإنسان (بالحرف الكبير) الذي باسمه ثم صنع الإيديولوجيات الكبرى. سيشكو الفرد إذن من يُتْم مضاعف، من موت آلهة الأولمب، وموت خلفائهم على الأرض، من الإنسان والإنسان…
لم تكن الإنسانويات تسأل: أين الفرد، لم تكن تبحث عنه. لها سؤال آخر: كيف يتم صنع فرد. حتى هذا السؤال الثاني فقد كان مسبوقاً بالمثال الذي تقترحه الإنسانويات عن الفرد، لكي تشرع في تأمين الشروط التي تسمح بإنتاجه، بحسب هذا المثال السابق على وجود الفرد عينه. ولذلك ضيّقت مقدماً من ساحات ظهوره. وحصرته في سياق المشروع الثقافي الغربي نفسه. جعلته حالةً خاصة من الذاتوية المطلقة. فيكون صنيعةً لها أو مُتَّكأً اجتماعياً، أو قاعدة فيزيولوجية حيوية. فمن المسلمات الضمنية في خطاب المشروع الثقافي الغربي أن الفرد كائن اقتصر إنتاجه على هذا المشروع وحده. فقد أعطى المشروعُ نفسه حقَّ الحصر في صناعة الأفراد والفردويات. فهي ثمرة لإحدى أعلى وأرقى صناعة في سياق عقيدة التقدم، وأكثرها سرية ومحافظة على أمنها بصورة مطلقة. ومؤسسة الحفاظ على الأمن الخاص بصناعة الفرد قد سبقت مؤسسة الأمن النووي، وربما كانت لها أساساً أنطولوجياًَ. فقد احتاجت هذه السرّيةُ وساعةَ التاريخ الميتي ـ الديني ـ الأيديولوجي، لتغطية نشاطاتها (المشبوهة) وتعمية مسمياتها المرجعية، وتحويل الأنظار والعقول عن ألاعيبها المنطقية ـ اللغوية ـ التقنية. كان المحظور دائماًً هو ألا يضبط الفرد ملتصقاً بجسده أبداً، ولكن مُغلَّفاً بتوليفة المصنع الذي فبركه، وممهوراً بخاتم أصحابه الذين يمتلكون وحدهم سر تركيبته التقنوية، يلقون به إلى مؤسسات الإعلام المباشر وغير المباشر لترويجه وتسويقه. هناك إذن فردويات متكاثرة تحاول حجب تعدديات الفردية الخام. ما أن تعلن فردوية ما عن نفسها حتى تتحول إلى مصنع يفبرك أفرادَ وصْفته الخاصة. ثم تغدو الوصفة لا نهائية مقدسة. لا يمكن أن تنجو من هذا المصير/الفخ. حتى الحداثة البعدية التي تحتضن أقنوماً يرفض أن يتشكل ويرمز له فحسب بإشارة فرد. كل هذا الحذر الفلسفي الذي يُبديه خطابُ الحداثة تجاه فكرة فرد بدون الفكرة، وقوام كيان بدون قوام، ومشروع ذاتٍ شفافة لقشرة بين فراغ الداخل وفراغ الخارج، كل هذه الحساسية المفرطة لا تنجي من مصائد تتوالى على الطريق؛ تجهض تدشيناً لفرد آخر، يولد من حطام الفردوية والاجتماعوية.
التبرير يريد أن يعطي الفرد أكثر أو أقل من حجمه، حسبما يكون الهدف تعظيماً أو خفضاً. باعتبار أن التبرير يدعي سداً لنقص في الموضوع المبرر، أو تصحيحاً لخطأ ما في تصوره، أو قصوراً في مفهومه. وعبارة التبرير في العربية مفعمة بالشك، وهي تتدخل بين الدال ومدلوله، لتدعي تصويباً ما في العلاقة بينهما. فلا يُطلب التبريرُ إلا عندما يبدي الدالُّ شيئاً من العجز في تحقيق مهمته الأصلية، أي حينما لا يكون دالاً تماماًً. والتبرير يدخل على موضوعه بصرف النظر عن نظامه المعرفي بالذات. كأن التبريري يلغي الدلالي، أو يعيق مشهديته من حيث إنه يدعي إبرازها. وتلك هي حال الفرد عندما نتعامل معه من خلال المفهوم. ذلك أن للمفهوم رزانةً تخفي اضطراب الفرد وتخفيه في آن. فهو يشعر أنه طير صغير عالق في شبكة تتخطاه دائماًً. ومع ذلك فالفكر عندما يفكّر الفردَ لا بد له من التعامل معه بواسطة أدواته التقليدية، من مقولات ومفاهيم ومناهج في التحليل والتركيب وسواها. بمعنى أن الفكر ما أن يتقارب من الفرد حتى يحيله موضوعاً عاماً. بالمقابل من حق الفرد أن يشعر أنه سلفاً مستثنى من كل الأقوال التي ستنسج حوله. هل ثمة نجاة من هذا الدوار؟
…… التتمة في العدد

المنظور الديني عند «مرسيا إلياد»

زهير الخويلدي
استهلال
«الإنسان في المجتمعات الغابرة قد بلغ الوعي بالذات في عالم مفتوح وثري من جهة الدلالة. وبقي معرفة إن كانت هذه الإنفتاحات هي أدوات للإنكسار، أو على العكس من ذلك تمثل الامكانية الوحيدة لبلوغ الحقيقة الواقعية للعالم».(1)
من المعلوم أن الباحث الروماني مرسيا إلياد (1907ـ1986) متخصص في تاريخ المعتقدات والأديان والأساطير وأنه تناول الظاهرة الدينية بالتحليل المنهجي لمختلف أبعاد التجربة الإنسانية الباطنية وما يكمن داخل بنية الوعي البشري من صراع دائم بين المقدس والدنيوي وتحدي البشر للآلهة وانقسام في الوجدان بين الانتماء إلى المستوى الطبيعي والدنيوي المرئي ومن تعلق بالبعد الأخروي وتوق نحو ماهو روحي.
من البديهي أيضاًًً أن النجاح الذي لقيته تحليلات إلياد تعود إلى قدرته على التوثيق والتعامل بانفتاح مع تجارب متباعدة ومرجعيات مختلفة وثقافات متنوعة تضم اليوناني والروماني والهندي والأوروبي وترجع بالخصوص إلى تمكنه من متابعة الظهورات الإل_هية المتتالية عبر التاريخ وتجليات المقدس في المحسوس وإلى وقوفه عند نقطة مهمة حول المقدس وهي دراسة الظواهر الدينية من وجهة نظر تاريخية وفينومينولوجية والكشف عن تجلي حقيقة روحية متعالية وفكرة غيبية مختلفة تماماًًً عن العالم المرئي في أشياء ملموسة وعناصر حسية تمثل جزء من الحياة الدنيوية وتشكل عنصراً من عالمنا الجلي والطبيعي.
لقد وَجَدَ إلياد نفسه في إحراج شديد وجُوبِهَ عمله العلمي بتشكيك كبير، ومردّ ذلك محاولته التقريب بين مباحث تاريخ الأديان والمعتقدات والأساطير والفلسفة الرمزية والمقاربة الفينومينولوجية والدراسات النفسية والمباحث الأنثربولوجية وقيامه بمجموعة من الدراسات العلمية المقارنة بين السرديات والأساطير والرموز الثقافية والمعتقدات والأديان.
لقد حاول مؤرخ الأديان الشهير تتبع مسالك الإنسان الديني Homo religiosus أينما وجده واستخراج ما في الوجود الديني من تقليديات وأساطير وأوهام ومعتقدات، والوقوف على المعاني العميقة، والتعرّف على ما في التجارب الدينية من صلاحية ومنفعة وتذوق جمال الروحانيات، وإدراك ما في النصوص الدينية من رمزية وحنين إلى الكمال وتعطش إلى معانقة المطلق. بيد أن تفريقه بين الدين والتدين وبين الله والمقدس Sacré وتحركه في سياق اختفاء الأديان والقول بموت الإل_ه والمناداة بعَلْمَنَة جذرية للظاهرة الدينية وتطرقه إلى المدنس Profane وانتصاره للدنيوي على حساب القداسة، واعتباره أن الاعتقاد أحد أنماط الكائن في العالم، وقد أحدث عدة مشاكل وصعوبات منهجية وثقافية.
في سبيل تخطي هذه الإحراجات والاعتراضات حاول إلياد تأسيس نموذج جديد من الخبرة الدينية معتبراً التدين البنية العميقة للوعي ودفعاً التناقضات بين المتضادات إلى التلاقي، وناظرا إلى العَلْمَنة الدنيوية بوصفها تغير داخل الظاهرة الدينية وإلى الدنيوي بوصفه تعبيراً عن المقدس. كما أن الخطة المنهجية التي اختار اتباعها، ترتكز على تحليل أنماط الخبرة الدينية وفق رؤية نفسية عميقة قصد إدراك الخصائص النوعية والمحتوى من طرف المؤرخ الديني وبدل دراسة فكرتيْ الله والدين، واستخلاص الجانب العقلي والنظري منهما كما يفعل رجل اللاهوت.
ماهو طريف وإشكالي في العمل الفكري لـ إلياد، وما يمثل موطن الأصالة والجدة في مشروعه، هو قوله ببطلان جميع المفاهيم والرموز والطقوس الوثنية وحرصه على إحياء وعي ديني جديد يستند إلى التدين الفردي وينبذ التضاد بين المقدس والدنيوي ويرفض أن تكون العَلْمنة هي تجريد العالم من قدسية بل التعامل مع الدنيوي بوصفه تجلّي وتعبير عن البنية التكوينية للمقدس وكذلك تخليه عن جعل الدين يشطر الواقع الاجتماعي إلى مؤمنين وملحدين. لكن إلى أي حد يمكن ان يكون الدنوي مقدساً؟ وهل يمكن القيام بعَلْمنة جذرية للتجربة الدينية؟ وإلى أي مدى يجوز تصور وجود خالي من الآلهة؟ وكيف تكون العَلْمنة هي تدشين لنموذج جديد من التّدين؟ وما معنى لاهوت معاصر يبشر بموت الله واختفاء الأديان؟ ألا تنتظر الفلسفة المعاصرة عودة الديني ومجىء الآلهة؟ ألم تودع البشرية فكرة الإل_ه المجرد التي نجدها عند العلماء والفلاسفة وهاهي الآن بصدد استقبال معنى الله الحي الذي نجده عند المؤمنين البسطاء؟ لكن كيف نلج العالم العقلي عند الإنسان الديني؟ ما الفرق بين المقدس والدنيوي؟ وماهو المعيار الذي يجب الرجوع إليه للتمييز بين الإنسان الديني والإنسان اللاّديني؟ هل يتعلق الأمر بالانتماء الثقافي والتاريخي والرؤية الفكرية أم بالإيمان العقائدي وتطبيق الشعائر والممارسة الطقوسية؟ ما المقصود بالمنظور الديني؟ وكيف يؤدي الاعتراف بوجد الآلهة في الحياة إلى البَرْهَنة على القداسة والتجلي للبشر من خلال الكلام والوحي والرسالة؟ وماهي المناهج العقلية التي يستعملها البشر لتفسير وتأويل وفهم مقاصد الوحي؟ وماهي رمزية المكان والزمان؟ وإلى ماذا تشير رموز مثل الدائرة والأبدية والشجرة والنجوم والصدفة والبيضة والسماء والبحر والشمس والمطر والرياح والموت والأحجار والجبال والنار والنبات والغابة؟ وماهي مختلف الأبعاد التي تتكون منها الأساطير؟ وألا توجد أنطولوجيا ثاوية في الأساطير؟ وكيف ترتبط الأساطير بالأصول والينابيع والبدايات وطقوس التشكل والخلق والتجدد والانبعاث والنظرة الكونية للعالم؟ ولماذا تتناول الأساطير مسائل التاريخ والعظمة والانحطاط والذاكرة والنسيان والرؤية الإسكاتولوجية؟
ما هو في ميزان الفكر الفلسفي لا يتمثل في انجاز تاريخ للمعتقدات والتصورات الدينية وإنما بلورة فينومينولوجيا المقدس تجعل من الحياة الدنيوية والوجود المنفتح على العالم من ركائز التجربة الدينية. حقيق بنا عندئذ أن نعالج هذه الاستفسارات والتساؤلات التي طرحها إلياد من خلال اللّحظات الحجاجية التالية:
1ـ رمزية الأساطير والصور والمعتقدات.
2ـ جدلية المقدس والدنيوي/المدنس.
3ـ الإنسان الديني والإنسان اللاّديني.
فماذا يترتب عن عَلْمنة المسلك الديني؟ وماهي العناصر التكوينية للأساطير والطقوس والشعائر؟
I. الأساطير والرموز والمعتقدات
«ليست الصور والرموز والأساطير اختلاقات غير مسؤولية من النفس بل تجيب على ضرورة وتؤدي وظيفة التعرية للأحوال الأكثر تكتما من الكينونة»(2).
لقد اقتصرت دراسة الأساطير في العصور الحديثة على المنظور الحسي وارتباطها بالحضارات والمجتمعات الغابرة وإشارتها إلى التعامل النفعي مع الزمن وما يقتضي ذلك من حديث عن الخرافة والتخييل والأوهام والتقاليد المقدسة والسحر والأديان. لكن الجديد مع إلياد هو التعامل مع الأساطير بكونها التاريخ الحي والنموذج المقدس والحقل الدلالي الذي يجسد فيه شعب معين ثقافته وقيمه ورؤيته للكون.
من المعلوم أن الفلسفة منذ بواكيرها الأولى مع الاغريق قد حاولت إفراغ الميتوس من دلالتها الدينية والميتافيزيقية وصيانة اللّوغوس من الخرافات والأوهام المنتشرة والأكاذيب الرائجة عبر التاريخ والتحقق من عدم مطابقة الأساطير للواقع الطبيعي وبالتي اعتبارها من الأمور التي وجودها ممتنع ولو بالعرض.
اذ عدنا إلى المعنى الإتيمولوجي لكلمة mythe نعثر على مجموعة من الألفاظ المجاورة مثل mythique وmythologie ونجد الأصل الاشتقاقي الإغريقي muthos وفي اللسان الفرنسي نتوقف عند كلمات مثل fable وrécit fabuleux وتفيد تمثلات خيالية لتاريخ الآلهة، وتعنى الأسطورة كل ماهو غير موجود وما لا يقتضي قوله التعليل بالأسباب وتمثل مرحلة من مراحل الحوار الباطني بين الذات ونفسها؛ وتعني حكاية خرافية تسردها الآلهة أو الأبطال عن قدومهم إلى العالم وتعطي تفسيراً واقعياً لمعجزاتهم وخوارقهم يكون كافياً لترضية فكرهم البري pensée primitive، وعند أفلاطون تشير الأسطورة إلى تعبير وهمي عن أكثر الوقائع غموضاً وأشد لحظات الفكر عسراً. أما الوعي الأسطوري conscience mythique فهو لا يندهش من أي شيء ويعطي تبريرا للحاضر بإرجاعه إلى دعائم أنطولوجية(3). في هذا المقام يمكن الاشارة إلى الأرواحية Animisme وهي الاعتقاد بأن لكل كائن من أنواع الكائنات روحاً يدبر أمره وتقوم به صورته، والأرواح لتلك الكائنات كالمعاني للألفاظ(4).
في هذا الصدد سعى إلياد إلى الاهتمام بالأسطورة ليس بوصفها وهماً بل كتعبير عن ذهنية اجتماعية وحقبة تاريخية وتجربة حية تنقل من خلالها الجماعة تصورها للعالم وتمنح نماذج للسلوك البشري وتجعل الوجود يمتلك قيمة ودلالة وانطلق أيضاًً من بناها ووظائفها لكي يفهم بأكثر عمق مقولات الفعل البشري.
صحيح أن مجمل الأساطير والاعتقادات تتحرك ضمن النموذج القديم من الوجود وتنطوي على خرافات وهمية وأشكال خيالية وممارسات توصف بالهمجية والتوحش والجهل والعنف والانحلال مثل تقديم القرابين البشرية وأكل لحم البشر وقطف الرؤوس والتنكيل واستعباد الناس والاستيلاء على الثروات.
بيد أن الأساطير من جهة أخرى تزخر حسب إلياد بالكثير من العبر والمواعظ والقواعد التوجيهية والأعراف والنواهي والأوامر وتتضمن القصص والمسرودات والحكايات تصورات حول نهاية عالم وميلاد آخر. والحق أن الكائن البشري ظل في مرحلة التوحش والبداوة يفسر الظواهر الطبيعية من خلال الاعتماد على الخرافة ويبرر تصرفات البشر وطرق عيشهم وأشكالهم التعبيرية بواسطة تصور أسطوري. بيد أن تحقيق الإنعتاق السياسي والتمدن الاجتماعي والتقدم الاقتصادي قد سمح للبشر بالتخلي عن هذه الأشكال وحسم المعركة مع الفكر الأسطوري والتعويل على الفكر العقلاني والاحتكام على التجربة لإدراك قوانين الكون.
الأطروحة التي يدافع عليها إلياد تتمثل في الدور الهام الذي قامت به الأساطير في تاريخ الشعوب وإبقاء الأديان وفيما بعد الميتافيزيقا والعلوم الكثير من الفرضيات المسبقة الأسطورية والتصورات الاحيائية والاعتماد عليها في تشييد نظرتها الكوسمولوجية للكون والأنثربولوجية للإنسان. وقد ترتب عن هكذا أطروحة تفنيد الحكم المسبق لدى المذهب الوضعي Positivisme الذي اعتقد أن أشكال السحر والأسطورة والدين والفلسفة المثالية قد تم نسخها وإبطال تعلق الإنسان بها عن طريق العلم والتقنية. وهذه نظرة إختزالية، وجهد بسيط، وسوء فهم لمثل هذه الظواهر الثقافية المشبعة بالغموض والرمزية. غني عن البيان أن تناول بعض المواضيع مثل الزمان المقدس والمكان المقدس في الأساطير والمعتقدات هو مبحث يندرج ضمن تاريخ الأديان وكذلك يعتبر أحد المشكلات التي تتوجه نحوها الفينومينولوجيا والهرمينوطيقا. وبالتالي «لقد كان قصدنا ينصب على مساعدة القارئ ليتبصر ليس الدلالة العميقة لوجود ديني من نموذج قديم وتقليدي فحسب وإنما أيضاًً معرفة قيمته بصفته قراراً إنسانياً، وللتحقق من جماله ونبله…»(5). في الواقع الأسطورة تروى حدثاً بدئياً وتحكي قصة خلق وتعيد تشكيل تاريخاً مقدساً وتكشف عن أسرار متعلقة بالأصل وعمل الآلهة في إحداث وضع كوني غير معهود وإعلان ميلاد حياة بشرية. تتعلق الأساطير بالحب والتضحية والوفاء وبالحرب والمغامرة والموت والشجاعة والتحدي وتكشف عن البطولة والتمزق والهشاشة والتناقض والعبث والقلق التي يعاني منها الكائن البشري قبالة عسر الوجود.
«تعبر هذه الرمزيات عن مواقف دينية بدئية لكنها قابلة لتعديل قيمها للاغتناء بمعانٍ جديدة، والاندراج في أنظمة من الفكر تتمفصل بإطراد»(6)، لعل الجانب المفيد في الأساطير هو ذلك الذي تكشف فيه عن إطلاقية القدسي وفعالية الآلهة الخلاقة وعظمة آثارهم وتسجد على أحسن وجه تفجر القدسي في العالم في صورة درامية وحبكات معقدة. عندئذ تبدو صورة الإنسان في الأساطير على أنه كائن يقلد مبادرات الآلهة ووظائفها ويكرر أفعالها العظيمة. على هذا النحو «إن تفجر المقدس في العالم، وهو ما تحكيه السطورة، هو الذي يؤسس للعالم حقاً. وانما كل أسطورة تسرد كيف جاءت حقيقة معينة إلى فضاء الوجود، سواء أكانت كلية، كالكون، أو جزئية …»(7). فمع من يتناقض المقدس؟ هل مع الدنيووي أم مع المدنس؟ وأين يمكن أن نضع مفهوم الحرام الاسلامي؟
II. جدلية المقدس والمدنس والدنيوي:
«المقدس هو تجلي شيء مختلف تماماًًً، أي حقيقة لا تنتسب إلى عالمنا في أشياء تشكل جزءاً لا يتجزأ من عالمنا الطبيعي الدنيوي»(Cool.
يتعامل إلياد مع حقله البحثي لا كرجل لاهوتي، وإنما كمؤرخ ديني وينأى بنفسه عن الخوض في مسائل وجود الله وجوهر الدين وطبيعة الوحي، ويقوم بتحليل أبعاد التجربة الدينية ويحاول أن ينفذ إلى الرؤية الأخروية التي تتضمنها وأن يعيش التجربة الحية لتجلي الله في الحياة الدنيوية والتاريخ الأرضي وأن يستخلص الجانب العقلي من الدين، وذلك من خلال فهم الجانب اللاّعقلي ومعرفة خصائصه النوعية. لكن كيف يمكن للعقل الفنومينولوجي أن يكتشف بدقة أبعاد وجود الحقل الديني القائم في مركز الحضارة؟
يكشف إلياد عن مفارقة تخص العلاقة بين الدين والعلم ويرى أن الإنسان قطف عدة فوائد ومزايا حينما قام بتجريد العلم من القدسية ولكنه سقط في الإفقار وجفاف منابع الحياة لما قابل بين القدسي والدنيوي وعَلْمَن الحقل الديني بشكل جذري ورهن اللاهوت المعاصر ضمن دائرة مفرغة رسمتها نظرية موت الإل_ه. ولذلك نراه يقول ببطلان كل الشعائر والعبادات والطقوس التي تتضمنها الأديان ويبشر بوعي دنيوي محض. لعلّ التطورات التي حدثت في المنظور الديني هي التي أفضت إلى خلقت تجربة دينية تصهر التناقضات وتستوعب التعدد والكثرة في نوع من الوحدة الديناميكية وتُلقي بالمقدس في المجال الخاص وتركز على الوظيفة الأخلاقية والتربوية للبشرية وتفضي الدنيوية على المقدس وتعتبر التدين البنية النهائية للوعي.
«إن اختفاء الأديان لا ينطوي أبداً على اختفاء التّدين، وإن عَلْمنة قيمة دينية لا يشكل غير ظاهرة دينية تكشف في نهاية المطاف، عن قانون التغير العالمي الذي يطرأ على القيم الإنسانية»(9).
لقد تعود الإنسان على التعامل مع المقدس بوصفه السر الغامض الذي يسحر والجليل الهائل الذي يثير الروعة والعنصر الإل_هي الذي يبعث على الخشية والتقدير وذلك لكونه المختلف بشكل جذري ولكون الكائن البشري يشعر بضعفه وعجزه وتناهيه أمام عظمته. بناء على ذلك يدرج الناس ظاهرة القدسي في خانة الحياة الروحية ويصنفونها ضمن دائرة اللاّمعقول والكلي ويجعلونها متضادة مع الدنيوي بحيث تعجز اللغة على التعبير والإخبار عنها، فتتوسل خبرات تتجاوز القدرات وتلجىء إلى التلميح والرمز والإشارة. «إن الأمر يتعلق بحقائق مقدسة لأن المقدس هو الحقيقي بامتياز. لا شيء من دائرة الدنيوي يشترك في الوجود، لأنه لم يؤسس أنطولوجياً بالأسطورة، وليس له نموذج مثالي»(10).
أول دلالات المقدس حسب إلياد هو التجلي والظهور والتعبير عن الإل_هي في التاريخ وفي الزمن وبواسطة الأشياء المادية والظواهر المحسوسة والمتعينة مثل الأجسام. غير أن العقل الغربي لا يقبل بسهولة تجلي القدسي من خلال ظهور الإل_هي في شيء مادي، وآيته في ذلك هو التناقض بين العنصرين الروحي والمادي وبين الطهرية والدناسة والأزلي والمتغير، وكذلك التحوّل الذي يطرأ على القدسي حينما يتجلّى في المحسوس وكأنه يفقد حقيقته الغيبية المتعالية والمحجوبة ويمتلك حقيقة ظاهرة وملموسة ومباشرة. كما أن الشيء الذي يختاره المقدس للتجلي عبره والظهور فيه يرتقي من شيئيته الدنيوية وطبيعته العادية وقناعته بالفناء والتلاشي إلى مصاف القدسية الكونية ويمتلك حقيقة فوق طبيعية ويمتلك فائض في القدرة والديمومة والفعالية وتوقه إلى الخلود والتشبع بالكينونة. والحق أن «تجلي المقدس يؤسس العالم أنطولوجياً»(11).
لقد تملّك الحداثة اعتقاد بأنها اكتشفت العالم الدنيوي حينما تمكن العقل البشري من رسم الحدود بين نمطين من الكينونة في العالم ومن الخبرة الإنسانية وهما: المقدس والدنيوي، وتصورت أنها تمكنت بهذا الاكتشاف من ازاحة القداسة عن طريق العَلْمنة والإب
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://philo.forumarabia.com
كمال صدقي
مدير المنتدى
كمال صدقي


ذكر
عدد الرسائل : 2399
العمر : 68
البلد : أفورار
العمل : متقاعد مُهتم بالدرس الفلسفي
تاريخ التسجيل : 20/12/2007

لماذا لا نفكر فلسفياً ؟ Empty
مُساهمةموضوع: رد: لماذا لا نفكر فلسفياً ؟   لماذا لا نفكر فلسفياً ؟ Clock10السبت سبتمبر 20, 2014 10:01 pm

النهاية تحوم حولنا ونحن عن علاماتها معرضون لاهون، ولعله كلما كانت العلامات أكثر وضوحاً كان نسياننا لها أكثر عمقاً. لهذا إحدى مهمات الفكر الأساسية، بالنسبة لنا، ليس تذكر الوجود، ومواجهة نسيانه، بل تذكر النهاية ومواجهة نسيانها. فسؤال الوجود ليس بالجذرية الكافية إلا إذا أخذناه من جهة سؤال النهاية، وذلك بتوسيع إحدى أهم البنى الكيانوية للدازاين «الوجود ـ نحو ـ الموت» لتشمل الوجود بحد ذاته «الوجود ـ نحو ـ النهاية». فالمقلق بالفعل ليس الوجود ونسيانه وإنما النهاية والنسيان العميق الذي يحفها. نسيان يمنحنا طمأنينة زائفة، كالتي قد نشعر بها ونحن نقرأ بعض الأعمال الأخيرة لـ سلوتردايك(2)، التي تؤكد على الطابع المابعد ـ تاريخي للعالم الغربي: عالم مابعد بطولي وما بعد جذري؛ عالم التوازنات والوسطية. وتذكر يلقينا في قلب البركان، كالإلقاء الذي نشعر به ونحن نقرأ الكتاب الأخير لـ جيرار «إتمام كلوزڤيتز»: العالم المعاصر عالم أبوكاليبتي، في تصاعد مستمر نحو الجذرية، عالم الكارثة والصراع الأكثر حدةً والبطولات الأكثر وهميةً الأكثر تدميراً. عالم لم نشهد له مثيلاً في جذريته، عالم المحاكاة الأشد عنفاً والتموقعات الأكثر تطرفاً.(3)
الفلسفة، كما قال عنها دريدا ذات مرة، تصلح لطمأنة الأطفال، اللهم إذا ساعدتنا على مواجهة ما يثير الخوف. نقصد، إذا كفت عن المشاركة في لعبة النسيان ودفعت السؤال إلى الانخراط في الجوانب المقلقة من حاضرنا. وما العنف إلا أحد تلك الجوانب التي تستحق اهتماماًً مخصوصاً والتي لم يعد من المقبول أن يتجنبها السؤال الفلسفي فـ«السؤال الفلسفي، يقول صفدي، الذي هو بدون سلاح، ولن يمتلك أي سلاح سوى براءة اقحامه، العفوي، يغدو حزيناً ومتحيزاً على العنف مهما كان هوله. إذ لن يعود من المقبول أن يعتذر السؤال الفلسفي عن وجوده كلما أطل وجه العنف. أن يتنحى عنه، ويقصى ذاته من طريقه. أن يتركه يعبر، ثم يطل هو من جحره، ليلتقط آثار مخالب العنف على ضحاياه الصريعة وراءه. لن يكون مقبولا القول المعهود أن وقت العنف ليس وقت الفلسفة، وأن العقل يجب أن يلتجئ إلى جغرافية أخرى منزاحة مسافياً أو زمانياً عن جغرافية العنف، بل يجد السؤال الفلسفي نفسه فجأة متدحرجاً ومندرجاً في طريق العنف ذاته» (مطاع صفدي، نقد الشر المحض I، ص 100).
نتسلح بالسؤال الفلسفي لإحداث تغيير ما، إذ «حيثما يتصاعد الخطر، يتصاعد أيضاًً ما ينقذ»/هولدرن، دون أن نطلب من الفلسفة ما يفوق طاقتها فإن «الفلسفة لا يمكن أن يكون لها تأثير مباشر يغير الحالة الراهنة للعالم»، (هيدغر، في الحوار الذي أجرته معه مجلة «شبيغل»، ولتدقيق أكثر يمكن العودة إلى كتاب هيدغر مدخل إلى الميتافيزيقا). مازال بالإمكان بناء عالم أفضل، مازال هناك فسحة للفعل الإنساني. لكن من ذا الذي بإمكانه إنقاذنا؟ سؤال عويص، ربما يفتح لنا قول هيدغر «لا شيء سوى إل_ه يمكن أن ينقذنا» درباً نسلكه للخروج من متاهة السؤال، جسر عبور للمستقبل.
في هذا العمل سنهتم بعنف الإنسان اتجاه أخيه الإنسان، من حيث منشأه وعلاجه ـ على أمل الاهتمام بعنف الإنسان اتجاه الطبيعة في أعمال مستقبلية، خصوصاً من جهة علاقة العنف بالدين لنستمر بذلك في النقاش الذي سبق وبدأناه مع سلوتردايك وأسمان. هذه العلاقة سيتم تناولها خلال هذا العمل بالاعتماد على المثن الجيراردي، ويعود هذا الاختيار لسببين رئيسيين:
أولا: تساعدنا التحليلات الجيراردية على التخلص من التصورات العقلانية المغلقة، تلك التي تربط ربطاً ميكانيكياً بين العنف والدين، حيث لا ترى في هذا الأخير غير خرفات أزهقت، ومازالت تزهق، أرواح البشر. كم كان العالم سيكون جميلاً بدون دين، هذا ما تقرره بوثوقية تلك التصورات، أما هذا العمل فهو يتساءل كيف هو العالم بدون دين.. ماضياً، حاضراً ومستقبلاً؟
ثانياً: تعميق نقاش المقاربة السلوتردايكية والأسمانية للدين وعلاقته بالعنف. فإذا كان كتاب «حمق الله» لـ سلوتردايك وأعمال أسمان حول التوحيد الموسوي، خصوصاً كتاب «العنف والديانة التوحيدية»(4)، تتجه مباشرة نحو نقد المقاربة الجيراردية، وإقامة علاقة حميمية بين الدين وممارسة العنف، فإنه يمكن بالتأكيد الانطلاق من المقاربة الجيراردية لنقد سلوتردايك وأسمان. عموماً وضع تلك المقاربات وجهاً لوجه يساعدنا على فهم الموضوع بشكل أعمق ويحررنا من النقاشات التبسيطية الاختزالية التي هيمنت على دراسة علاقة العنف بالدين، حيث ينظر للدين إما كأصل كل البلايا، يصدر عنه العنف كما يصدر اللهب عن النار، وبالتالي لا خلاص إلا بالتخلص منه. وإما ينظر إليه على أنه برئ كل البراءة من أي نقطة دم أزهقت. بيد أن الموضوع أعقد بكثير، أعقد من أن يحيط به فكر ثنائي القيمة. إجمالاً نحن لا نعتقد أن الدين لا يصدر عنه سوى الشر، ولا هو منزه كل التنزيه، وهذا ما تبرزه قراءة متأنية ومتزامنة لـ سلوتردايك وأسمان وجيرار، هذا لا ينفي أهمية مفكرين آخرين.
تحدد معمارية هذا الموضوع كالتالي: سننطلق من معالجة علاقة الديانات البدائية بالعنف، حيث سنقف عند التضحية باعتبارها عنف موجه نحو التخلص من عنف الجماعة، والدور الذي يلعبه ميكانزم أضحية الفداء داخلها؛ لنخلص أن تلك الديانات هي ديانات عنف موجهة نحو السلام. بعد ذلك سنقف بشيء من التفصيل عند السيكولوجيا المحاكاتية ـ البيذاتية لأهميتها ومركزيتها داخل الفكر الجيراردي، لنبرز ارتباط العنف بالرغبة، على اعتبار أن كل رغبة هي محاكاة لنموذج. وسننتهي بدراسة دور المسيحية في القضاء على العنف، وعلاقتها بالديانات البدائية، في إطار ذلك سنتساءل، بشكل أولي، عن مدى علمية نظرية جيرار ما دامت تتجاهل الإسلام ـ لمن وجد مصطلح تجاهل قوياً يمكن أن يستعمل مصطلح غياب، عموما سنستعمل نسيان ـ. وفي سياق كل ذلك سيتم إبراز كيف أن الدين هو علاج العنف.
الدين بما هو تجاوز للعنف
I. في الديانات البدائية
تعد التضحية (le sacrifice) إحدى الطقوس المميزة للديانات البدائية، والتي نالت حظاً وافراً من اهتمام الأنثروبولوجيين والإثنولوجيين، إذا قبلنا بالتمييز الذي يقيمه ليفي ستراوس. فما دلالة هذا الطقس؟ كيف نفهم التضحية وكيف نؤول حضورها لدى المجتمعات البدائية؟ ما هي وظيفتها وما هو أصلها؟ وبالأخص على ماذا يدل العنف الملازم للتضحية؟ (لتحديد دور العنف داخل التضحية يعتمد جيرار على ميكانزم ـ إوالية ـ الاستبدال). فالعنف التضحوي عنف حُرف عن موضوعه الأصلي ووُجّه نحو موضوع بديل. الأضحية موضوع بديل يسمح بتفريغ طاقة العنف دون الوقوع في إحراجات. بمعنى أعم، تسمح التضحية بالحفاظ على سلامة أشخاص هم الموضوع الأصلي للعنف لكن المساس بهم يضع الجماعة في وضعية حرجة، يقول جيرار «يمكن أن نتصور، مثلا، الذبح الشعائري l’immolation لأضحية حيوانية تُبعد العنف عن بعض الأشخاص الذين نبحث عن حمايتهم، وذلك بتوجيهه نحو كائنات موتها قليل الأهمية أو غير مهم بتاتاً»(5).
غير أنه لا ينبغي فهم الاستبدال في دلالة أخلاقية، حيث يمثل الموضوع البديل بريئاً يكفر عن ذنب لم يقترفه، إذ أن المسألة ليست مسألة تكفير وبراءة أو مسؤولية. كما لا ينبغي أخذه باعتباره استبدلاً سيكولوجياً، رغم توافقهما في المنطق. فالاستبدال التضحوي ليس من جنس الصفعة التي يوجهها الأب لابنته بدلاً من توجيهها لمديره؛ حيث العنف نتاج ضعفين: ضعف الأب أمام مديره، وضعف الفتاة أمام أبيها. الاستبدال التضحوي في عمقه فعل سوسيولوجي؛ مسير من طرف المجتمع لصالح المجتمع. فهذا الأخير هو المسؤول عن تحويل العنف عن موضوعه الأصلي نحو موضوع بديل للحفاظ على سلامة وحياة أفراده. من أجل هذا الأضحية هي أضحية اجتماعية تحمي المجتمع وتحافظ عليه «إن العلاقة بين الأضحية الممكنة، يقول جيرار، والأضحية الحالية لا يجب أن تعرف بمصطلحات الذنب (Culpabilité) والبراءة، فليس هناك ما يكفر عنه. المجتمع يبحث عن تحويل عنف يهدد المنتمين إليه نحو أضحية هي، في حدود معينة، قليلة الأهمية»(6)..

…. التتمة في العدد

أسلمة الأسرة المسلمة
بين المعقولية واللامعقولية
عبدالكريم عنيات
مقدمة مخصوصة للإستشكال والإستصعاب:
ذهنية التبسيط مظهر من مظاهر الكسل المعرفي، والنزوع إلى الاختزال والتوحيد علامة العياء والإنهاك الإبستمولوجي. لذا، فالفكر المتوثّب والنشط يدل فيما يدل على الشجاعة تجاه الواقع، وعلى روح المحاربة والمعاركة الأنطوقية بما هي موقف إنسان قوي الفكر. يمكن أيضاًً وصف التلذذ بامتلاك «يقينيات» ناجزة بأنه ضرباً من الخمول المنطقي والعلمي. في المقابل فإن حال الفكر المتجدّد دوماً يظهر في أنه لا يرضى بنهاية، كما لا يرضى بإجابة تُؤَقْنم وتُحنط. أوَليس الفكر الفلسفي هو فكر النجازة المستأنفة والمفتوحة دوماً، بما هو من حيث ماهيته عدو الامتلاك الحصري للحقيقة، أليس هو الفكر الذي يُنمذج الإستسئال ويعتبره من الأهمية بمكان، ويرتاب من الأجوبة الصدئة من خلال تحويلها إلى أسئلة، دوماً(1). وهنا يتحوّل الفكر إلى سيال مفهومي دائم الحركة، إنه إلى النهر المجنون أقرب منه للبحيرة الهادئة الراكدة.
لكن هذا قد يكون ترويجاً لنمط من التفكير، تمَّ دحضه وتصفيته منذ القدامة الإغريقية على يد أفلاطون وأرسطو ـ من بعده باعتباره خليفته المذهبي. فالفلسفة التي تعتبر الهوية كامنة في التغير والاختلاف، بما هي فلسفة مثَّلها هوميروس الشاعر وهيراقليطس الباكي وپروتاغوراس المتاجر بالحكمة. لقد تمَّ كشف استحالة المنطق الذي يُصير الأشياء دوماً، ويجعل كل شيء في كل شيء. فلا يعقل أن يكون الحار بارداً والجميل قبيحاً..الخ. كما لا يمكن أن يكون الموضوع الواحد حاملاً لمحموليْن متناقضيْن في نفس الوقت ونفس الوضعية، لأن إلغاء الحدود بين الحدود هو ضرب من الجنون المفهومي والمعرفي، كما أنه ضرب من تدمير المعقولية العلمية. يقول أرسطو مفنداً منطق التحوّل من الجهة السلبية، ومؤسساً لمنطق الهوية من الجهة الإيجابية: «من المبادئ التي لا يجب أن تخدعنا فيه الأشياء ـ والأكثر من ذلك ـ هو ضرورة الاعتراف بأن هذا المبدأ هو حقيقة دائمة، وأقصد به أن الشيء الواحد لا يمكن أن يكون في وقت واحد موجود وغير موجود. والأكيد أنه لو تمَّت مسائلة هيراقليطس ذاته، وبالطريقة التي عرضها علينا في التفكير، فمن الأرجح أننا نلزمه على الاعتراف بعظمة لسانه أنه لا يمكن للعبارات المتناقضة أن تكون صادقة بالنسبة لذات الموضوعات [...] فهو من أولئك الذين هدموا الخطاب المعقول بصورة تامة»(2).
والحقيقة هي أن كل الفلسفة الإغريقية والفلسفة المتأغرقة من بعدها؛ سواء الرومانية أو المسيحية أو الفلسفة الإسلامية الكلاسيكية، وحتى الحديثة والمعاصرة، كل هذه الفلسفات تعبّر بوجه ما عن النزاع بين مبدأيْ الهوية والصيرورة. وتمظهرات الصيرورة والهوية أوسع بكثير مما نعتقد. فمن ظهورياته نجد: التاريخ والحقيقة، الفن والعقل، الإنفتاح والإنغلاق، الأرض والسماء، الكفر والإلحاد، الإنجازية والنجازة، الحركة والسكون، الحسية والعقلية..الخ. وفي أبحاث سابقة، كنا قد أثبتنا أنه يمكن رفع مبدأيْ الهوية والصيرورة إلى مرتبة «الأنطولوجية العامة»، بحث يمكن تفسير كل مظاهر الحضارة الإنسانية من خلالهما. ونظراً لاعتقادنا بشمولية الصيرورة والهوية وارتقائهما إلى «فلسفة المبادئ»، فإننا عملنا على تطبيق ذلك على مسألة «الأسرة المسلمة»، وقدمنا العنوان أعلاه وهو: «الأسرة المسلمة بين الصيرورة والهوية».
ورغبة منا في تناول الموضوع من زاوية مستجدة، وعدم الوقوع في مطب «قول المقول» أو «تحصيل الحاصل» بما هما مغالطات منطقية تقلق العقل. رأينا أن ننهج طريقاً جذرياً في التفكير. لأن التفكير الحر يقتضى طرح أسئلة غير مسؤولة عن نتائجها التي قد تنتج، والحقيقة بما هي مطلب العقل المفكر هي ثمرة الجرأة في اختراق المألوف والمُسيّج. فما جدوى أن نكون أحرار داخل سياج مهما اتسع؟ لذا فنحن نقول: ما أجمل مغامرة فكرية غير معلومة النهاية والمآل، وما أقدس البحث الذي لا يوجه للرجال والأنظمة المغلقة عن التجديد بغية محاباتها والانتفاع منها. ثم ما قيمة فكر ما إن لم يسر على حافة المخاطر على حد قول «صالح هاشم»، أو فكر لم ينبش القضايا المحنطة بفعل الزمن وبفعل تسلّط الفكر. فسلطان الفكر أقوى بكثير مما نعتقد من سلطان الرجال والدول والأنظمة وحتى المال…
وتتقوى ضرورة الفكر الحر والمتحرر، عندما يتعلّق الموضوع بمسألة مراجعة الذات ومسائلة الهوية الثقافية. لأن أخطر ما في الثقافة المحلية هو «مجاملة الذات»، لذا فإن «نقد الكوچيتو» هو المسلك الوحيد لتقويته وتحصينه من الهجمات الخارجية. ومن مظاهر الثقافة المحلية يبرز موضوع التربية بما هو موضوع جوهري وأصلي، كما أنه أيضاًً موضوع مظهري، بحيث أن تربيتنا تظهر دونما صعوبة للغير في أبنائنا. وموضوع الأسرة بما هي حيز تربوي؛ مهمتها (التربية وحقيقتها) و(العلاقات التجايلية وسرها)، موضوع ذا شجون، لأنه يلد ويتولد، وبالتالي فمُسألته ضرورة إبستمولوجية إن لم تكن واجب ديني مقدس.
فهل هناك شيء بديهي وطبيعي في فعل التربية ما عدا الألفة والعوائد؟ أَوَليست التربية أولى بالإصلاح والتنقيب والخدمة من إصلاح الأراضي الشاسعة بغية الفائض الإنتاجي أو تنقيب الآبار بهدف جمع المال؟ إن رسالة في إصلاح العقل والروح أولى وأهم بكثير من رسالة في إصلاح الأرض والمال في مجتمع توجه عن ضرورة، لا عن اختيار، إلى « اقتصاد المعرفة والروح».
إن التربية كتصور اجتماعي، لا يشذ عن المبدأ السابق. فهو قائم بين مبدأين مُشكِّلان المسألة:
ـ أولاً الهوية باعتبارها المبدأ الذي يطابق الشيء بذاته، مانحاً إياه الديمومة الثابتة لعلة ظاهرة مد خيط وصل جَيلي. بحيث يتلقى الجيل اللاحق من السابق ثقافة ناجزة مختومة تامة، ليأخذها بدوره مأخذ «حمالة الحدث» إلى اللاحق ثم لاحق اللاحق…الخ، دون كلل أو ملل.
ـ ثانياً الصيرورة بما هي فكرة تدل وتستدل على أنه لا شيء ثابت على حاله، وإنما الثابت وحده هو «اللا ـ ثابت» بمعنى المتغير والسائل. وأن تطابق الجيل اللاحق بالسابق ـ سواء القريب أو البعيد أو حتى البعيد جداً ـ تطابقاً تأصيلياً هو وهم الأوهامِ. كل شيء يتزحزح عن أمكنته السابقة، إن إرادياً أو ضرورياً، فالهوية الحقيقية هي الاختلاف، والحق أنه التغيير كلما كان إرادياً ناشئاً عن وعي وتقبل وقبول كان أحسن حدوثاً وأنفع نتاجاً من تغيير مفروض قسراً من الخارجي الأجنبي. ونحن على دراية تامة بمخاطر التغيير القسري الضاغط، ليس فقط على أولادنا بل علينا أيضاًً.
الأسرة المسلمة، بما هي أسرة طبيعية قبل أن تكون ثقافية. بمعنى أن ما ينطبق على الأسر بالإجمال ودون تحديد، ينطبق على أسرنا الإسلامية. أما الفارق هو فقط في مضمون الثقافة وكيفية العقيدة ونوع الممارسة. أما الصورة أوالشكل فهو أنثربولوجي بعامة دون مفارقة ومخالفة. لذا فالطبيعة الإنسانية وما تقتضي من قواعد وضرورات طابعة ليست موضوع محادثة أو مجادلة. ومنه فالمشكلات التي يحق لنا طرحها هنا، وهي مُساءلات عامة ومخصوصة في ذات الوقت، مرتبطة بموضوع التربية الجيلية (أو المجايلة)، وما تفرزه من معضلات على مستوى التقليد والحرية أو الهوية والصيرورة، وهي توالياً:
ـ أولاً؛ هل من المشروعية العقلية والفردية ـ الإنسية أن يكون الجيل اللاحق نسخة مُطابقة للأجيال السابقة التي عمرت القدامة وأرادت أن تعمر الحداثة وما بعد الحداثة و… الخ؟ أليس مبدأ التوريث التربوي المطلق ضرب من الأنانية الجيلية، بحيث يكون الجيل المؤسس (أي الأول إنْ صح لنا الحديث عن جيل أول خالص ليس قبله أجيال سابقة أخذ منها)، فاعلاً مبدعاً قائداً والأجيال اللاحقة منفعلة تابعة منقادة؟ كيف لنا أن نتطبب من تخمة الماضي المتمثل في طغيان قيم الأسرة السابقة؟
ـ ثانياً؛ لماذا تخضع كل الأسر في نهاية المطاف للتغير المُعنف والقسري إنْ جوانياً أو برانياً، في حين أنها لا ترضى به ـ وعن طواعية ـ كمبدأ تربوي معترف بضرورته وبمنافعه؟ أليس المنفعة كل المنفعة اعتناق مبدأ التغيير والصيرورة التربوية كهوية بيداغوجية أحسن من إخراجه من النافدة قسراص، ليقتلع لنا كل البيت لاحقاً؟
ـ ثالثاً؛ إن أردنا أن نقترض العام علماء نفس الحضارة والتربية، فإننا نستشكل أمراً آخر: لماذا نفهم دائماًً وأبداً، متعلمين ثم معلمين لاحقاً، أن الهوية تتعارض مع التبدل في التربية، مع العلم أن هذا المفهوم في ذاته، أي الهوية، يستبطن التغير والحركة والمخالفة والمغايرة؟ أليس هذا عرض مرض تربوي مفهومي ومن ثمة علة حضارية بالعموم؟
إن هذه الأسئلة، وغيرها التي قد تبرز بروز الضرورة التحليلية. ناتجة عن «قلق صادق» من مسائل حساسة، قد يكون البحث فيها دون خلفيات ذاتوية، سبيلاً ممهداً للخروج من أكثر أزماتنا تجذراً، وهي أزمة «الإنسان» بوصفه صانعاً للحضارة والثروات وأيضاًً النكسات. وسوف نفكر مسألة الأسرة المسلمة من منظور «التدين الماهر» أو «المهارة في التدين»، على اعتبار أن التدين الحالي أصبح عنوان أطروحة عويصة، مضمونها التخلّف والمرض والتمريض (أي نقل العدوى أو الإمراض)، بما هو خطر حضاري يهدد الأرواح قبل الأسوار. إن إصلاح «التدين» في الأسرة المسلمة المعاصرة يصبح العنصر الأول من الرسالة التي تصلح الإنسان والروح والعقل.
من أجل العمل على مقاربة هذه الأسئلة، مقاربة جذرية وشجاعة في آن، سنعمل أولاً على تحديد المنهجية والأدوات، ثم المراحل والعناصر تالياً. أما المنهجية التي سنعتمدها في هذا العمل قد تكشف لنا عن المستور، وتوضح لنا المغموم، وتكمل لنا الناقص. فالتنويع المنهجي يقينا ضربات النقد الذي يضع الإصبع على نقطة التمذهب والتحيز متشككاً. لذا سنأخذ بالوسائل التحليلية والتركيبة والمقارنة والنسابة والعقلية والمادية والظاهراتية.. الخ. سيكون منهجناً لامنهجي بالمعنى المتعارف عليه، أي هو منهج غير منتمي للمعايير التقليدية المتزمتة، بل المنهج الذي يأخذ من الكل ما هو منير ومنتج. هنا سنكتب بعدة أيدى من أجل السيطرة على الموضوع من جوانبه المختلفة. فالتعدد المنهجي هو من الفضائل المنهجية، لأن الواحدية الطرائقية تشابه الرؤية الصقلوبية (الكائن ذو العين الواحدة في الميثولوجيا الإغريقية).
I. ما التربية؟ ما الصيرورة؟ ما الهوية?
1) ما التربية؟
التربية مفهوم إنساني مخصوص له بامتياز، لأنه مؤسس على الحركة الحلزونية un mouvement en spirale الخلاّقة. في مقابل النزوع التكراري المنزوع الذكاء كلياً (أو جزئياً) عند الحيوان غير العاقل. ونحن نستعمل عبارة الحركة الحلزونية للدلالة بأن التربية عند الإنسان ليست توجه خطي مباشر إلى الأمام، بل هناك ضرب من التكرارية الوظيفية، والعودة للمماثل المقصودة. وهنا يظهر طرفي التقابل في فعل التربية بما هو فعل إنساني، وهما: الهوية بما هي تكرارية الثابت والصيرورة بماهي خطية مستقيمة لا تلتفت إلى الوراء أبداً. أولاً، نعتقد أن فعل التربية صعب التصور في بداياته الأولى. ذلك لأن التربية لا تتم إلا من جيل خضع للتربية مسبقاً، إلى جيل جديد يستقبل تلك التربية. لذا المشكلة التي تتبدى هي: كيف نشأت التربية في أول الأمر، مع العلم أن هناك أجيال أولى في الإنسانية لم تخضع لفعل التربية في الأصل؟ وتلك الاجيال هي ما نسميها الهمجية أو البدائية أو الكانيبالية.. الخ. فالإنسان الطبيعي مفتقر كلية إلى تربية روحية أو أخلاقية، ما عدا تناقل بعض المهارات العملية الحيوية. لذا يمكن التقرير افتراضياً بأن التربية كانت في أولها جسمانية/بيولوجية، حيث يعلِّم الجيل الكبير (الآباء والأمهات البيولوجيين) بعض الحركات الضرورية للحياة، وردود الأفعال الناجحة تجاه الظروف المختلفة. وهكذا تدرجت التعليمات وتراكمت الملاحظات من العلمي النفعي الحيوي إلى السلوكي القيمي والأخلاقي، وأخيراً المعرفي بما هو تناقل خبرات نظرية. وهذا يدل على أن النظرية القديمة حول العصور الذهبية الأولى والسير الإنحداري التي ابتدعها هوزيود الشاعر الإغريقي، وتبناها أفلاطون من بعده في محاورة طيماوس، وأورثها قسراً لكل الديانات التوحيدية بما فيها الفهم الإسلامي، هي نظرية غير منطقية بالمرة، لأن القول بأن الإنسانية كانت في قمة التثقيف والتربية ثم أفل النجم التربوي وانحدر الإنسان والإنسانية معه في ضرب من الجهلية والظلامية بما هما علامات للانحطاط والتلوث الروحي. هذا القول يتناقض مع مسلمة التراكمية التدريجية للتربية. وهذا يدلنا إلى مبدأ أساسي وهو أن الأجيال اللاحقة تكون دوماً أكثر تثقفاً من السابقة، على أساس أنها استوعبت الخبرات القديمة وأضافت ما لها من خبرات. وفي هذا السياق يقول برنار دي شارتر مبرزاً العلاقة التدرجية المتجهة نحو الأعلى والأفضل بين الأجيال: «نحن نشبه الأقزام القابعين على أكتاف العمالقة، إذن فنحن نرى من الأشياء أكثر مما رأوا، ونرى أبعد مما رأوا [...]، ما سبب ذلك؟ ليس هو حدة نظرنا ولا هو طول قامتنا؛ بل لأننا محمولون ومرفوعون فوق قامات العمالقة العالية.»(3).
إن هذا المبدأ، وإن كان شاعرياً جميلاً، يبغى البيان والتبيين. إلا أنه يحمل حقيقة تربوية تأسيسية قيِّمة. على اعتبار أنه يصور لنا حقيقة التجايل، من خلال إسقاط الصراع الخفي والظاهر بين الجيل القديم والجديد، ويعطى لكل جيل حقه في الإنجاز والعطاء. فالجيل القديم جيل عملاقي عال لأنه قدم المشعل، أما الجيل الجديد ورغم قصر قامته مقارنة بالقديم، إلا أن بعيد النظر كما وكيفا مما يجعله يشعر بالاعتبار والقيمة والاستقلال. وما شعر به الجيل القديم إيجاباً أو سلباً، سيشعر به أيضاًً الجيل الجديد لأنه سيتحول إلى حلقة في سلسلة لا ندري بداياتها ولا نهاياتها بالتحديد المطلوب.
نحن لا نهدف في هذا المقام إلى تحديد واستجماع التعريفات القاموسية والمعجمية للتربية، بل نبغى القبض على العناصر المهمشة والمرذولة في التربية بثقافتنا العربية الإسلامية الحالية. أصبحنا نلفظ اليوم مصطلح التربية بضرب من الآلية والتبسيط والتسطيح، يثير خوف مفهومي حاد. التربية ليست تلقين وتمرير وصناعة أجيال مثلما تصنع الأشياء. والحقيقة أن صناعة الأشياء في زمننا الأُفولي المصبوغ بالانحطاطية تلقَّى الاهتمام أكثر من التربية بما هي مهمة خطيرة. والجانب المغيَّب ـ إن قصداً أو عفوا في فلسفة التربية/العربية الإسلامية ـ هو عنصر المسارية والديمومة. كيف ذلك؟ إن التربية لا تدل إلا على «مسار» Prosususe يستهدف التطوير والتعديل نحو الأحسن؛ قدرة ما مفردة أو عدة قدرات مجتمعة. هذا التطوير يكون ممرحل وفق مراتب مدروسة جداً(4). من أجل التنمية الحعام للكفاءات والمَلَكات الفردية للمتعلّم. لكن هذا التحديد لا يدل أبداً على نجازة ونهائية التعريف، إنما في ثناياه نلحظ أهم مشكلة تربوية تضع الفعل التربوي برمته موضع إستشكال واشتباه. وهي المشكلة التي أثارها كبار فلاسفة الذين تأملوا التربية تأملاً مفتوحاً وخالياً من أي غرض أو أي مذهب تربوي مغلق وناجز، أو ما يسمَّى باللغة الفرنسية éducationnisme بما هو عقيدة ترسم صورة نموذجية أو باراديغمية مثالية للأجيال اللاحقة، ولا تعترف بإمكانية وجود جيل جديد يخترق النموذج ويركب كتف الجيل العملاق بما هو ممثل للجيل الجديد. وتتمثل المشكلة التي أثارها هؤلاء الفلاسفة فيما يلي: هل نعتبر الجيل الجديد (الأطفال ـ التلاميذ ـ المتعلمين) غاية في حد ذاتها أم وسيلة وأداة؟(5) هل الجيل القديم بما هو الجيل الممتلئ ثقافياً، يقوم بتربية الجيل الجديد من أجل مصلحته هو أم من أجل مصلحة الأبناء بما هو ممثلي الجيل الجديد؟ قد تبدو هذه الأسئلة عبثية لا تدل على أي غرض مهم، مثلها كمثل لعبة الوسائل والغايات العبثية في معظم الأحيان. لكن الشيء الذي يحرضنا هنا هو أعمق بكثير. لأن جدل الوسيلة والغاية تدل على «فلسفة التربية الحقّة» التي يتبناها المجتمع. لذا نجد المفكر الإنجليزي راسل (1872/1970) يحدد لنا تلك الفلسفات في توجهين متنافرين قائلاً بأن هناك خلاف بين نوعين من فلسفة التربية عند الإنسان:
أ. فلاسفة التربية، الذين يتخذون من التربية وسيلة وأداة لتلقين عقائد محددة معينة بالذات. مما يدل على أن الجيل الجديد يكون مجرد «حمالة الثقافة».
ب. فلاسفة أكثر تسامحاً وراسل واحد منهم حسب ما قرر، وهم الذين يرون أن التربية يجب أن تغرس في المتعلم القدرة على الاستقلال في الحكم والإضافة للثقافة مما يجعله ليس حمالاً فقط بل مُغيراً ومعدلاً ومساهماً بصورة ايجابية.(6)
سؤالنا بعد عرض ثنائية راسل هو: هل هناك فرق بين أن يكون التلميذ (الصغير على العموم) وسيلة أم غاية؟ الأكيد أن، وبحسب التقسيم السابق، هناك فرق جوهري يفرز نمطين من التربية هما التربية المحافظة والتربية التقدمية éducation progressive. وهي التربية التي روَّج لها جون ديوي الأمريكي وأصبحت النمط شبه الرسمي في العالم الغربي. في مقابل التربية التتريثية التي تنطلق من مبدأ «كمال الجيل القديم»، وبالتالي تحويل مهمة الجيل الجديد إلى عملية حفظ التراث ونقله لا غير. وهذا النمط الأخير هو الذي تمسك به الكثير من أصحاب الأدلجات الإسلامية المعاصرة، منطلقين من مبدأ أنه لا جديد تحت شمس الإسلام، وما علينا إلا استحضار التجربة التربوية القدامية عند الأجداد من أجل فهمها وتطبيقها. وهو التوجه التربوي السلفي على العموم الذي خطته الحركة الوهابية مع مؤسسها الأول محمد بن عبد الوهاب (1703/1791م). لكن في العالم العربي الإسلامي المعاصر نجد الكثير من العقائد التربوية المختلفة إلى حد التناقض، وعلى سبيل التمثيل لا الحصر يمكن الحديث عن التربية القومية، والتربية الإقليمية، والتربية الغربية والتغريبية، والتربية الماركسية الاشتراكية.. الخ. لذا نجد راسل محقا عندما يستشكل مسألة المثل العليا بما هي تعبير عن مبلغ الكمال المتصور، بمعنى أنه إن كنا جميعاً باعتبارنا كائنات مربية ننشد في فعلنا التربوي بلوغ المثل الأعلى للأخلاق الإنسانية الممكنة، فإننا نختلف في رسم هذا المثال الأعلى. ما هو النموذج الأعلى للتربية؟ هل هو الإنسانية كغائية (كانط)؟ هل هو الاستقواء والاستبراء (نيتشه)؟ هل هو الفضيلة السياسية (أرسطو)؟ هل هو العلم اليقين والتصوف (الغزالي)؟
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://philo.forumarabia.com
كمال صدقي
مدير المنتدى
كمال صدقي


ذكر
عدد الرسائل : 2399
العمر : 68
البلد : أفورار
العمل : متقاعد مُهتم بالدرس الفلسفي
تاريخ التسجيل : 20/12/2007

لماذا لا نفكر فلسفياً ؟ Empty
مُساهمةموضوع: رد: لماذا لا نفكر فلسفياً ؟   لماذا لا نفكر فلسفياً ؟ Clock10السبت سبتمبر 20, 2014 10:02 pm

الحقيقة التي يجب أن نعترف بها، ونحن نذكر البعض من المثل العليا التربوية، هي أن هدف التربية مستخرج من سؤال أكثر استشكالاً وأحّدُ استصعاباً، بحيث يمكن تشبيهه بمركز دوران الفكر الفلسفي والأنطولوجي بعامة، وهو سؤال: ما الإنسان؟ ما حقيقة الإنسان؟ ما هو هذا الذي نسميه إنساناً؟ وهو السؤال الذي يشكل حصول إجماع عليه، نهاية لكثير من مشكلات الفكر التي عمرت طويلاً دون جواب نهائي مقنع. إن كشف سر ما الإنسان؟ يعتبر أجسم حدث، حدث موت «أطعن سؤال في السن».
نحن نلاحظ إذن، أن النموذج التربوي مستخرج من تصور ماهية الإنسان في الأصل. ومن اختلاف هذا التصور الأساسي، توالت اختلافات التصورات التربوية أو المذاهب التربوية éducationnisme بما هي عقائد تربوية ناجزة مغلقة الأسس والنهايات. وهنا تلعب العلاقة المنطقية بين المفهوم والمصداق لعبتها الواضحة، بمعنى أن تحديد الأفراد الذين ينتمون إلى عقيدة تربوية ما سيكون مرتبط بالصفات الماهوية داخل هذه العقيدة. وإن كان الاختلاف في «نوعية التربية» يبتدأ عاماً شاملاً لأكبر قدر من التجمعات الثقافية الكبرى، فإنه سرعان ما ينتقل إلى الجوانية التربوية. بمعنى أننا على العموم نجد عقيدة تربوية شرقية وغربية بينهما من التمايز ما يجعل التوحيد أو التقريب بينهما أمراً مستبعداً للغاية. لكن في ذات العقيدة الغربية مثلاً؛ سنجد اختلافاً يزداد حدّة حتى في المناطق المتقاربة مثل التربية الأثينية التي دمقرطت المجتمع والتربية الإسبرطية التي عَسْكَرَته للغاية بحيث جعلت من السرقة والأنانية والبخل فضائلاً مثلى(7). والأكيد أن التربويات الشرقية بالعموم، وإن كان هناك من يحبذ تجريد خصائصهم التربوية والعقلية في صفات مشتركة تجعل منهم شرقاً، مثلما فعل زكي نجيب محمود في كتابه الموسوم (الشرق الفنان)، إلا أن الاستثناءات والاختلافات لا يمكن إنكارها أصلاً. فبين التربية الفرعونية والصينية والهندية باراديغمات (نماذج قياسية) متناقضة حد الصراع والتنافر. وحتى في التربية الإسلامية بما هي تربية تجريدية جامعة، تثير العديد من المشكلات التي تنجر عن وَقْعَنَة الفكر، أي تمريغ التحديدات النظرية في تراب الواقع الحي. فكيف يحدث ذلك؟
إن مصطلح «التربية الإسلامية»، ومن ثمة الأسرة الإسلامية التي تُطبق تنظيراتها ومبادئها عملياً. هو مصطلح تجريدي في الأساس من خلال اعتماده تقنية التجريد العلمي والاختزال المنطقي، القائمة على الاحتفاظ بالصفات المشتركة والموحدة والجامعة أولاً ثم استبعاد الخصائص التي تبرز الاختلافات والزوائد الثقافية. والحقيقة أن عملية التجريد الثقافي هي عملية أنثربولوجية بعامة، أي تقوم بها كل المجتمعات وكل الديانات، مثلها كمثل اشتراك كل ديانات العالم في مبدأ «المركزية» أو اعتبار المركز من الثوابت العقائدية المشتركة دون تمييز(Cool، مثل الجبل المركزي، المدينة المركزية، الإنسان المركزي، الحيوان المركزي أو الطوطمي.. الخ. وبالنظر إلى كل ما قيل، فإن تحت عنوان «التربية الإسلامية» نجد الكثير من الاختلافات سواء في المبادئ أو النتائج أو التقنيات أو الأغرا.. الخ مما يدل على أن التربية الإسلامية تقال فعلياً ـ وليس نظرياً ـ بصفة الجمع، أي «تربويات إسلامية»، وهذا ما يضع مشكلة الوحدة والحقيقة موضع السؤال الأهم. بل سؤال البداية والمبدأ، على اعتبار أن الاحتكام إلى واقع الممارسة يقنع أكبر قدر ممكن من الناس، وإن كان الفيلسوف كانط (1724/1804) لا يرضي بهكذا مبدأ.
الحقيقة أن العمل الذي يهدف إلى استجماع التعاريف المهمة والمشهورة قد يكون عملاً نافعاً ومساعداً على تشكيل تصور أوسع. لكن دوماً نجد المشكلة السابقة التحليل المتعلقة بالنموذج الأعلى للكمال التربوي، ما هو؟ قد نقول بأن التربية هي «تبليغ الشيء إلى كماله»(9). كما استجمع ذلك جميل صليبا. ولكن هذا الكمال يثير مشكلة النوع، بمعنى هل نتحدث هنا عن كمال أخلاقي/ديني؟ أم كمال معرفي/ابستيمولوجي؟ قد يقول قائل بأن الطرفين سيان، أو متكاملين بحيث أن ليس هناك تعارض بين الديني والعلمي. لكن ما الحكم الذي نحكمه على تربية بلغت الكمال المعرفي من خلال ابتكار نظريات فيزيائية أو كشوفات فيزيولوجية، لكنها انحرفت من الناحية العقائدية والدينية من خلال إنكار الخالق والكفر به؟ هل هو كمال حقيقي وتام؟ ثم هل هناك كمال ناقص؟ أوَليس من التناقض القول «بكمال ناقص» أو «احتمال أكيد» أو «يقين نسبي»؟ أليس من مبادئ الإسلام توجيه العلم نحو الغايات الدينية والإيمانية، فالعلم غير النافع من الأمور المنبوذة، والمنفعة في هذه الحالة هي منفعة المنافع هي عدم الخروع عن أسس الدين وحدود العبادة.. الخ.
من بين المسائل المطروحة بإلحاح كبير منذ القدم، هي مسألة التربية والراهنية. ومن المسائل المألوفة في التراث التربوي الإسلامي قول الإمام علي بأن التربية يجب أن تستهدف الجيل الجديد لأنهم خلقوا لزمن يختلف عن زمان المربيين أو الوالدين. وهذا المبدأ يعبر أحسن تعبير عن «القلق» الموجود بين جيلين متقاربين. وإن كان المبدأ من الناحية النظرية واضح وبَيِّن، إلا أننا نحن المسلمين حتى اليوم مازلنا في «قلق دائم» حول التقنيات التي تسمح لنا ببرمجة تربية موجهة للمستقبل. أو ما يسمَّى بالتربية التقدمية. ومنه فإن المعضلة تكمن في الانتقال من النص إلى الفعل De Texte à l’action على حد تعبير بول ريكور. وإن كان البعض يقلِّل من شأن هذه الصعوبة، فالحقيقة خلاف ذلك، على اعتبار أن الأزمة في الممارسة والتطبيق تعكس «أزمة نصّية»، فهل النصوص الإسلامية التربوية التأسيسية مأزومة إلى حد عدم إمكانية تطبيقها. هل حدث أن تأسست منظومة تربوية إسلامية ما على نصوص تراثية في التربية؟ فلنتأمل ما قاله الفيلسوف الألماني كانط في مسألة التربية والتحيين Réactualisation في كتابه المخصص لمسائل التربية والذي أبدى تأثر مهم بكتاب روسو، يقول: «يجب أن لا يُربى الأطفال فقط بحسب حالة النوع البشري الراهنة، بل بحسب الحالة الممكنة التي تكون أفضل (منها) في المستقبل، أي وفق فكرة الإنسانية وغايتها الكاملة [...] فعادة ما يربي الأولياء لأطفالهم بهدف تكييفهم وفقاً للعالم الراهن فحسب، مهما كان فاسداً، بينما يجب عليهم بالأخرى تمكينهم من تربية أفضل»(10). سؤالنا هنا هو كالتالي: ما وجه العلاقة بين التحديد الإسلامي التراثي لتحين التربية وبين التحديد الكانطي؟ مع العلم أن الكثير من محبي المقارنة الفلسفية يبغون تقريب التصوّر الإسلامي والكانطي على أسس تقاربية في حين وتباعدية في حين آخر. والحقيقة أن كانط دفع بتصور الإمام علي بن أبي طالب إلى أقصاه، أو إلى أقصى حدوده الممكنة، وتبرير ذلك هو أن الصحابي الجليل علياً، كان يقصد تغليب الحاضر على الماضي في عملية التربية، في حين الفيلسوف النقدي نظر نظرة أبعد من الحاضر وهو المستقبل، أي أراد أن يجعل الإمكانيات المستقبلية المفتوحة على أحسن الاحتمالات وأكمل النماذج المفتوحة أولى من الحاضر، لأن فساد المعطيات الحاضرة لا يجب أن يكون علّة أو مطية لتبنى نموذجه أو لنمذجته. ومن هنا فإننا نلاحظ، بأنه وإن بدا لنا علياً تجديدياً بالمقارنة بأصحاب التتريث المغلق، الذين يجعلون التربية تلقين مطلق لخبرات الأجداد. فإن كانط قد فتح التربية على المستقبل متجاوزاً الحاضر، إنه يبغي الكمال وليس الراهن.
والإشارة السابقة حول كون التربية عند أصحاب النظرية التقليدية هي تلقين وتعويد وتكرار، أثار هذا المبدأ حفيظة الكثير من فلاسفة التربية. لأن التلقين والآلية في التربية تلغي القدرة على التجديد، من خلال نمذجة القيم وتغليب الماضي العتيد على الحاضر المشكوك في مدى صلاحيته أو مدى إمكانية أن يكون نموذجاً صالحاً للحياة. والمسألة التي نلاحظها هنا، وهي مسألة مشتركة بين أصحاب التربية السلفية والتتريثية أو التقليدية من جهة، وأصحاب التربية التنويرية والتحديثية من خلال نموذج كانط، هي التشكيك في «الحاضر والراهن». لكن الفرق يتضح في موضوع النموذج، أو البديل المقترح، فإن كان الأوائل ينمذجون الماضي المغلق الناجز، فإن الأخير ينمذج المستقبل المفتوح في طور الإنجاز. ويتبين الفرق واضحاً في ذهنية الكمال وذهنية الاكتمال المستمر، ألم يقل فيلسوف الحداثة الفائقة يورغين هابرماس في كتابه المهم Le Discours philosophique de la modernité محاولاً فك أزمة الحداثة وتصحيح المسارات التي آلت إليها بأن «الحداثة مشروع لم يكتمل بعد، أو أنها مهمة لم تنجز تماماًً»(11). ونضيف نحن بأنها لن تكتمل مهما امتدت في زمان المستقبل، لأن قياس عمر «عقلانية» الإنسان أمر غير ممكن إذ نحن بداخلها أصلاً. وفي مجال التربية، يحق لنا اقتراض العبارة «الهابرماسية» لتوظيفها في سياقها قائلين: «التربية مهمة لم ولن تكتمل أبداً، ومن حاول غلقها وإكمالها فإنه ينتمي إلى جيل أناني وإقصائي». وتفسير ذلك هو أن الاعتقاد بأن كل شيء تم إنجازه في الماضي، وبأنه ما على الجيل اللاحق إلا استذكار واستحضار تجارب الأجيال السابقة، ما هو في نهاية التحليل إلا استقواء الكبير على الصغير وغلبة بل تغليب الماضي على المستقبل من خلال ساحة الحاضر. وهنا يبرز سؤال الأسئلة، أو سؤال الشجاعة تجاه التراث: كيف نُخرج الفكر التربوي الإسلامي من مأزق الانغلاق ومعضلة إقصاء التجديد واستقواء الماضي؟ في اعتقادنا أن الاجتهاد التنظيري للفكر الإسلامي المعاصر يكمن في الفتح الإجرائي لمجال المشاركة التجايلية في التربية، يقول كانط في هذا المبدأ التربوي، أي مبدأ التجايلية: «إن التربية فن يجب أن يستكمل ممارسته من قبل الكثير من الأجيال. فكل جيل، إذ يستفيد من معارف الأجيال السابقة، هو دائماًً أكثر قدرة على إرساء تربية تنمي كل الاستعدادات الطبيعية لدى الإنسان تنمية هادفة ومتوازنة»(12). والانتقال من التمركز التبريري إلى الممارسة الفعلية للتغير في الفكر التربوي الإسلامي المعاصر، من خلال الاعتراف بحق الجيل الجديد في المشاركة التربوية. رب اعتراف من شأنه أن يجعل التربية تنويراً والتنوير تربية، من أجل تحقيق حداثة إسلامية بدل المشاريع المؤدلجة التي تستهدف «أسلمة الحداثة» أسلمة تبسيطية تعميمية. لأن «الأسلمة» هي فعل تأسيس وليس قطف ثمرة، بل هو بداية شاقة لعمل شاق وليس إختام مريح وبطولي مثلما يشعر بذلك كثير من مثقفي الإسلام المعاصر. وإن كان هناك من يفضل تطوير مشروع معاصر في «أسلمة التربية» فإن الأسئلة التي يجب أن ينطلق منها يجب أن تكون جذرية تتهم التراث من أجل إخراجه من ضيق الأدلجة إلى سعة الفكر. فاليقين المطلوب كنتيجة هو محصلة سلسلة من الشكوك والتريبات الكثيرة، أما الانطلاق من يقينيات كبيرة، فإن الشكوك هي المحصلة التي لا يمكن الانفلات منها.
تبقى مسألة التلقين والعادة في التربية من حيث هي آلية التربية التقليدية، موضوع انتقاد لاذع من طرف فلاسفة التربية المستقبلية أو التقدمية. والسبب في ذلك هو أن سيطرة الجيل القديم يعبر عنه من خلال تمجيد التذكر وإعلاء شأن الذاكرة ونمذجة القدرة على التكرار بما هو تعبير عن تفوق الملكات الذهنية. فلنتأمل ماذا قال فلاسفة التربية المتحررة في موضوع «العادة» التي تعتبر حجر الأساس في تربية الأسرة الإسلامية المعاصرة:
_ روسو
إن كان الكثير ممن درس فلسفة التربية عند روسو يعلن مفارقته المشهورة في كونه لم يقم أبدا بتربية أي من أبنائه الخمسة، بل عمد دوماً إلى إرسالهم إلى دار الأيتام توالياً، وإن كان له من فضل ما، فهو فضل الاعتراف لنا بذلك عندما قال: «فيما كنت أرسم فلسفتي عن واجبات الإنسان، وقع حادث جعلني أفضل التفكير في واجباتي الشخصية. فقد كانت تيريز (عشيقته، ومن ثم زوجته) حامل للمرة الثالثة [...] وفي أمانة تامة بيني وبين نفسي، وفي اعتزاز مفرط صدف بي عن الرغبة في أن تكون أعمالي مكذبة لمبادئ، شرعت أدرس مصير أولادي وعلاقتي بأمهم، على ضوء قوانين الطبيعة، والصداقة، والعقل، والدين [...] غلطتي كانت على هذا النسق: إنني إذ أسلمت أولادي إلى الدولة لتربيتهم، لعجزي عن تنشئتهم بنفسي [...] كنت أظنني أؤدي تصرفاً يليق بأب مواطن صالح، وكنت أتمثل نفسي عضواً في جمهورية أفلاطون. هكذا أسلِّم ابني الثالث إلى ملجأ اللقطاء، كما كان شأن الطفلين السابقين [...] وكذلك كان شأن الطفلين التاليين، إذ أنني أوتيت خمسة. وقد بدا لي هذا الإجراء ملائماً، حكيماً، مشروعاً»(13). هذا من جانب أول، ومن الجانب الآخر فإنه ألَّف كتاباً في التربية اعتبر من طرف العديد من فلاسفة التربية بمثابة تحفة تربوية نفيسة. فكيف لرجل استقال عن تربية أبنائه استقالة مطلقة أن يعلمنا دروساً في التربية؟ أم أن هذه الوضعية ـ كونه لم يربِّ أولاده ـ هي التي حركت فيه عبقرية التنظير التربوي؟
بالنسبة لموقف روسو من التربية بواسطة التلقين والتعويد، فهو من أكثر المواقف ثورية في علم نفس التربية إطلاقاً. فهو يقول بأن العادة الوحيدة التي يجب أن ندع الطفل يكونها في حياته هي ألا تكون له عادة ثابتة، أي أن أحسن عادة يمكن تعليمها للطفل هي انعدام العادة أصلاً. لذا نجده يقول في كتاب (الإميل): أَعدّوه (أي الطفل) من بعيد كي تسود حياته الحرية والقدرة على استعمال قواه كلها، تاركين لجسمه العادة الطبيعية، بحيث يكون دائماًً سيد نفسه، قادراً في جميع الأمور على العمل بمشيئته، متى صارت له مشيئة» ويواصل بعد عدة فصول جازماً طريقة تربية لتلميذه الافتراضي: «لن يحفظ إميل شيئاً عن ظهر القلب [...]، إميل لا يخضع إطلاقا لسلطة أو قدوة، هذه هي التربية الاستقلالية»(14)، والحقيقة أنه ليس هناك فيلسوف نقد العادة بالشدة التي نقدها روسو، وبلغ أثر نقده أنه أثر على تفكير كانط رغم النزوع النقدي القوي لهذا الأخير. وفي مسألة العادة كتلقين آلي قسري يفوق أفهام الأطفال، ناقش روسو مشكلة الطفولة والتربية الدينية. والأكيد أن هذا الموقف نابع من تغير روسو لعقيدته الدينية حيث انتقل من الكاثوليكية إلى البروتستانتية، يقول ناقماً على الذهنيات الحشوية في التعليم: «لا أرى أشد حماقة وغباء من معلم الدين الكاثوليكي وهو يلقن الأطفال الصغار تلك الأمور العويصة [...] فلنحذر كل الحذر من إعلان الحقيقة لأولئك الذين لم يتأهبوا بعد لإدراكها. خير ألف مرة أن لا تكون لدى الفتى فكرة اطلاقاً عن الإلٓهيات، من أن تتكوّن لديه عنها أفكار مسفة خرافية مهينة لا تليق بجلالها»(15). والحقيقة أن هذا الرأي ليس بالجديد كل الجدة، إذ تحدث عنه الغزالي في فلسفته التربوية، نظراً لكونه قد مارس التعليم سنوات طوال. فنجده في رسالة (المضنون به على غير أهله) يثير تساؤلياً مشكلة التعليم الديني ومحدودية القدرات التخيلية للإنسان، حيث الوعي لم يبلغ بعد المستوى المطلوب لتلقي مثل تلك الأمور المجردة جداً: «فكيف يطمع الإنسان أن يعرف حقائق ما ورد به الشرع من الأوامر والنواهي والأخبار والوعد والوعيد وغير ذلك، والعقل ضعيف وتصرفه مختصر بالإضافة إلى تلك العجائب والخواص»(16)، لكن عقد مقارنة بين التصورين (تصور الغزالي وتصور روسو) يكشف عن اختلاف السياق، فسياق الغزالي تبريري، في حين أن سياق روسو ثوري تجديدي أو إن شئنا الدقة احتجاجي  Protestante. لأن هذا التوصيف يتلاءم وميوله الفكرية بعامة، باعتبارها ميولاً احتجاجية فعلاً وفكراً.
_ كانط
رغم الانتقادات التي نجدها في الدرس التربوي الكانطي للتحديدات التي قدمها روسو، إلا أنه من السهولة بمكان أن نلاحظ تواصل الخط الاحتجاجي التجديدي التربوي ليبلغ التنوير الألماني. فقد لاحظ كانط مدى تناسب العادة والاستقلال، بمعنى أنه كما كانت نسبة العادة في فكر وسلوك الطفل مرتفعة، قلَّت معه بصورة ضرورية نسبة الاستقلال في الفكر والعمل. والعكس صحيح على اعتبار أن الاستقلال المشاهَد في نظر بعض الأطفال وممارساتهم، يدل ـ فيما لا شك فيه ـ على أنه نشأ في جو فقير إلى الآليات التعودية(17). لذا فإن الإجراء التربوي العقلاني في هذه الحالة هو بناء برنامج تربوي ينحو منحى بعيد كل البعد على تلقين عادات جاهزة وناجزة، من خلال توجيهه التعلم نحو الديمومة في التجديد. وهنا نجد كانط يطرح المشكلة التي يراها من الأهمية بمكان، وهي كذلك في واقع التربية كما نمارسها نحن اليوم. يقول في رسالة Réflexions sur l’éducation معبراً عن تلك الثنائية المأزومة: «أهم مشاكل التربية المشكل التالي: ما السبيل إلى الجمع بين امتثال المرء قسراً للقانون وبين القدرة على استعمال حريته؟ كيف أستطيع تعاطي الحرية في ظل القسر؟ ينبغي أن نُثْبت للطفل أننا نمارس عليه قسراً يقوده إلى استعمال حريته الخاصة، وأننا نثقفه لكي يستطيع ذات يوم أن يكون حراً»(18). ومثله كمثل سابقه، عرج كانط إلى تناول المشكلة الدينية في التربية. وقد لاحظ أن التربية الدينية للفتية تطرح مشكلات أكثر مما تمهد لحلول لاحقة. كيف ذلك؟ لأن تلك التربية تقوم على تقليد أخرق قائم على محاكاة آلية لا تتلاءم مع الطبيعة السليمة بتاتاً. وكانت أسئلة كانط في هذا الموضوع كالتالي: «هل بالإمكان تلقين الأطفال مفاهيم دينية منذ سن مبكرة [...] هل نلقن لاهوتاً للفتية الذين لا يعرفون بعد لا العالم ولا أنفسهم؟ كيف للفتية الذين لا يعرفون الواجب بعد، أن يفهموا واجباً مباشراً تجاه الرب؟»(19). والمسألة التي نعمل على الاستفادة منها، ونحن نأخذ مواقف هؤلاء الفلاسفة، هو أن التربية الدينية الإسلامية، بما هي تربية ضرورية للأطفال يجب أن تتجدد في ضوء هذه الملاحظات. لأن «سيكولوجية التربية الدينية» من الأمور المغيبة تماماًً في الدرس التربوي الإسلامي المعاصر، على اعتبار أنه لا يطرح أية مشكلات منهجية أو مفهومية، بل يركن إلى المنهجيات التقليدية القائمة على مبدأ العادة والتكرار كوسيلة لوضع الفتية على السكة، وكأن الرهان زمني/آلي فقط. في حين أن التربية الملائمة والمثمرة إيماناً حقيقياً دائماًً، ومستداماً عكس ذلك تماماًً. لأن اختلاف الديانات في المضمون لا يدل على أنها مختلفة في الشكل، خاصة عند الحديث عن الديانات التوحيدية. وسواء اعترفنا أم أنكرنا فإن الدين في حياتنا المعاصرة أصبح من المسائل المطروحة بحدّة، لأن العولمة الثقافية جرّت معها عولمة دينية، وهذا شأنه أن يجعل الدين إما وسيلة تقريب وتسامح أو تنفير وعنف في التثاقف العالمي. وينتهي كانط بنصيحة عملية حريصة على «أنعام التديّن وتنويره»، بمعنى تأسيسه علّة قوانين تتلائم وسيكولوجية الفرد.. يقول آمراً: «لابد من الحرص على ألا يعتبر الأطفال البشر بحسب ممارستهم الدينية، لأن رغم تنوع الأديان توجد وحدة بينهما في كل الأصقاع»(20). أليس هذا أحسن وسيلة لتربية النشأ على التسامح الديني، والذي يمهد السبل إلى تسامح سياسي، وتسامح علمي، وبالتالي تسامح أشمل منه وهو التسامح الثقافي والحضاري بعامة. إن جوهر الدين الإسلامي في هذه النقطة المتعلقة بالعالمية والكونية لا يتعارض مع الفلسفة الكانطية التي تتخذ الإنسانية كغاية قصوى ليس ورائها غاية أخرى مهما كانت، ويمكن تصور شعار كانط كالتالي: [في البداء كان الإنسان، وفي الختام سيكون الإنسان، إنه الغاية القصوى والقاصية. والله على ذلك شهيد].
_ ديوي
إن الأثر الذي خلفته النظرية التربوية البرجماتية أو الأدواتية عند ديوي (1859/1952)، يفوق أثر الكثير من الفلسفات التربوية السابقة عليه، نظراً لطابعها العملي والمعملي. عكس الثورات التربوية غير المحسوبة النتائج مثلاً عند روسو أو غيره، فإن ديوي كان ينظّر ويجرب ويستنتج بكل معقولية ومنهجية.وإن كانت التربية عنده هي الحياة ذاتها، وليس إعدادا للحياة المستقبلية. فإنه ركّز على العادة في التربية، وعلى تدريس التاريخ بما هو عمل ذهني مضني ينفر منه التلميذ ـ وهذا بشهادة الأساتذة ذاتهم. كيف نجعل من تدريس التاريخ عملية تربوية ناجعة ومثمرة عند التلميذ، بدل أن تكون الحصة مملة بامتياز؟ هذا هو سؤال ديوي الذي لم يتشجع غيره بطرحه. ونحن نعلم جيداً أن التربية الدينة قائمة على الدرس التاريخي من بدايتها إلى نهايتها، ومن ثمة فإن فك معضلة الدرس التاريخي يمهد إيجاباً أو سلباً للدرس التربوي الديني.
يقول ديوي في فصل خصصه لدراسة تحليلية نقدية لمسألة الغرض من تدريس التاريخ في المدرسة الابتدائية، بأن الترتيب المنطقي للأشياء، يقتضي منا أن نربط الدرس التاريخي بعلم الاجتماع. وإلا نكون قد وضعنا المحراث أمام الثور بدل أن نضعه وراءه. كيف ذلك؟ إن التاريخ بما هو وصف وتحليل الأحداث التاريخية الماضية لا يدل عند الطفل على أي شيء ذي بال، والسبب يعود إلى اختلاف السياقات والمعطيات.. الخ بين جيله وجيل القدامى. لذا «يجب أن يكون التاريخ للمربي علم اجتماع بصورة غير مباشرة ـ أي دراسة المجتمع بعد أن يكشف عملياته في الصيرورة وانماطه في التنظيم [...] فإذا كان الهدف من تدريس التاريخ أن نمكّن الطفل من تقدير قيم الحياة الاجتماعية وأن يرى بتخيله القوى المفضلة التي تسمح للناس بالتعاون المستمر بعضهم مع بعض [...] فلا يجب أن يقدم التاريخ على أنه جهود أو نتائج متراكمة أو عبارات مجردة عما يحدث، ولكن على أنه شيء مؤثر ملئ بالقوة»(21)، وكما هو ظاهر فإن التاريخ المنفصل في سياقه عن متطلبات العصر المتحينة، هو أكبر عائق في عالم الطفل الذي لا يعرف إلا ما هو قريب منه. وكان روسو قبل ديوي قد خصَّص فصل لكيفية تدريس التاريخ لـ إميل، مفْصحاً عن ضرورة الاستغناء عن الطرق التقليدية المملة والمخزية.(21)
في مسألة العادة والسلوك عند الطفل، يتخذ ديوي موقف أكثر اعتدال Tempèrent، لأن التدريس يدل أولاً على استعداد تعودي عند الطفل. ومن ثمة فإن التفكير ضد العادة بصورة متطرفة، يمثل ضرباً من الطوباوية البيداغوجية. لذا فإن الحديث عن نسبة وكمية العادة وأيضاً كيفها أكثر علمية من الحديث عن العادة بصورة مطلقة. يقول ديوي: «إذا أردنا أن نعرف قيمة العادة ومكانها الخاص من النشاط: وَجَبَ علينا أن نعكف على دراسة العادات السيئة كالبطالة ولعب القمار وإدمان الخمور وتعاطي المخدرات. وعندما نفكر في مثل هذه العادات نجد أن فكرة امتزاج العادة بالرغبة وبالقوة الدافعة قد فرضت نفسها علينا. وعندما نفكر في عادات بمعنى: المشي، والعزف على آلة موسيقية والكتابة على الآلة الكاتبة، فإننا نستسلم للتفكير في العادات على أنها قدرات فنية توجد منفصلة عن رغباتنا».(22)
وما يمكن أن نستفيده من كل هذه الملاحظات التي قدمها فلاسفة التربية والحضارة، هو أن التربية من المسائل الخطيرة في أي مجتمع أراد أن يبني حضارة دائمة. وأن التربية القائمة على تفعيل إرادة الجيل الجديد هي التي تجعل التطور والرقي من النتائج الضرورية. وكلما كانت التربية قائمة على التعويد والآلية، كلما كان أرثها سريع في الحدوث والزوال معاً. ومن هنا فإن الرهان التربوي هو رهان حضاري بامتياز. إن معضلة التربية لتربط دوماً بموضوع الهوية والصيرورة، أو التقليد والتجديد، أو الثبات والتغير، لذا سنعمل على استكمال تحديد هذه التسميات المتفجرة بالمعاني.
2) ما الصيرورة
تدل عبارة الصيرورة في لسان الفهم البسيط على التغير الذي يطرأ على الشيء أو الشخص أو الكون بعامة. والحقيقة أن التغير بهذا المفهوم لا يحتاج أصلاً إلى بَرْهنة، بل هو الذي يستعمل في عملية البرهنة على المسائل الأخرى، بمعنى أن التغير بمثابة بداهة تجريبية ومن العبث أن نطالب غيرنا أن يبرهن على وجود التغير. لذا نجد أرسطو يقول في دروس الفيزيقا the physics عندما شرع في تحديد موضوع الطبيعيات ومنهجها معلناً عن موقفه: «أما نحن فنضع قضية مسلمة، وهي أن الأشياء والموجودات الطبيعية في كليتها أو في جزء منها واقعة تحت الحركة والتغير. وهذا واضح بيِّن من الملاحظة والاستقراء»(23). وإن كان الحس المشترك لا يرى بالتحديد أي مشكلة في كون الموجودات بعامة في حالة تغير، فإن الفكر الفلسفي قد انقسم حول مسألة كون التغير هو ماهية الكينونة أو هو عرض لها. وقد ورد في لسان العرب بأن الصيرورة مصدر للفعل صار ويصير، وقد جاء في القرآن الكريم قوله تعالى:﴿آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾[البقرة:285]. بمعنى منتهى الحركة ومآل التطور والعودة المنتظرة بما هي حدث محتوم لا انفلات منه. لكن ابن منظور لم يأخذ بتوجه واحدي في مدلول مصدر «صيرورة» أو في فعليه صار ويصير. بل أشار إلى لبس، سماه شذوذاً، لأن هناك احتمالين من فعل «صار» مما يجعل إمكانية استخراج ضربين من المعاني. فالصيرورة قد تدل أولا على المصير، وثانيا على المصار. فهل هناك فرق فعلي بين الضربين؟ إن مفهوم المصير يدل على البلوغ في الحال أو الحالة كقولنا صار فلان رجلاً، بمعنى أن تغيراً نوعياً قد طرأ عليه. أما إذا قلنا المصار، فإن المدلول الذي يفصح عنه فهو بلوغ الشيء في المكان، مثل قولنا «صار زيد إلى عمر»(24). بمعنى أن النقلة أو التحول هنا ذات خصائص كمية ـ مادية قابلة للقياس والتكميم. لكن الحقيقة أن هذا التمييز ليس بالشيء الجديد كلية في الثقافة العربية الإسلامية، إذ أن أرسطو في فيزيائه قد أقام فصولاً متعددة عند حديثه عن الحركة من حيث النوع والكم والفروق بين النقلة والاستحالة.. الخ
تكمن المشكلة الفلسفية في تحديد الصيرورة من حيث نهايتها ومآلها. بمعني أنه إذا كانت الحركة هي بالتحديد خاصية الظواهر الطبيعية؛ فهل هي موجهة لغاية مثل أفعال الإنسان، أم أنها حركة وفقط؟ هنا تكمن فروق المفهوم واختلافات الفهم والتحديد. فالمعلوم أن الفكر الديني على الإجمال بما فيه الفكر الإسلامي يقرّ بأن الحركة الكونية موجهة إلى الله في النهاية سواء لاحظ الإنسان ذلك أم لم يلاحظ. لكن الفكر اللاديني بما هو فكر فلسفي أو علمي مفتوح يقرّ ويتحدث عن الصيرورة غير الهادفة. فهذا السير المفتوح، بلا غاية، غير المسيج بالنهايات والخواتم، يماثل بالفعل الصيرورة من حيث هي حركة غير هادفة وبالتالي غير عقلانية باعتبار أن الغائية من نواتج العقل المجرد التأملي، أو ما يعرف عند الإغريق ثم لاحقاً عند نيتشه بالعود الأبدي للمماثل le routeur éternel de lui même. ثم إن هذا المفهوم (الصوفي الذي أشار إليه التهانوي في كشف اصطلاحات الفنون)(25)، يؤدي حتما إلى ضرب من اللاأدرية تجاه حقيقة الألوهية، فبما أن عمر الإنسان محدود، وصفات الله غير محدودة، فإن إصدار حكم ختامي ونهائي أمر متعذر تماماًً. وهذا بالضبط ما توصل إليه پروتاغوراس السوفسطائي؛ مما جعله يمتنع عن الحكم المتعلق بحقيقة الصفات الإلٓهية بسبب صعوبة الموضوع وتعقده من جهة أولى وقصر حياة الإنسان من الجهة الثانية، هذا القِصر هو الذي يجعل الإحاطة التامة ممتنعة.
تتفق العديد من القواميس الفلسفية باللغة الفرنسية، على أن المفهوم اللغوي العام للصيرورة هو المجيئ نزولاً أو الحضور المتصف بالانحدارية، مما يدل على أن هناك حالة عودة إلى نقطة البداية أو خط الانطلاق. فنجد العبارة تتكرر كما يلي: Devenir (au sens général) Venir endescendant, arriver à. والدلالة المبدئية لهذا الأصل اللغوي من حيث بنيته De)scendant)/ تتمثل في عودة الموجود من جديد إلى الأصل الذي انحدر منه. مما يجعله يصل إلى (arriver à) نهاية ما. لكن ما طبيعة هذه النهاية ؟ هل هي نهاية بالمعنى المطلق على شكل مصير مغلق تماماًً، أم هي بداية دورة جديدة للعودة الدائمة أو العودات والإعادات المتكررة؟ الحق أن جواب هذا السؤال لا يكمن في مدلولات اللغة وبنية الألفاظ، بقدر ما يكمن في المعاني الفلسفية المتولدة من مشكلات الفكر الإغريقي المبكر.
لكن في كل الحالات، تعني الصيرورة في عموم مدلولها، فعل التغير والتعديل أو التعدّل الذي يلحق بموجود ما. ويمكن أن تدل على سلسلة من التغيرات التي من المحتمل أن تؤثر على المستقبل، سواء مستقبل شخص ما، أو مُنشأة معينة. وقد تعني أيضاً الصيرورة جملة من التبدلات الحاضرة متمثلة في كليتها وفي طابعها الضروري(26)، مما يوحي بأن الحالة الراهنة لأي موجود هي نتيجة حتمية لا تصرف فيها لسلسلة من التحولات التي طرأت عليه في مراحل ماضية من تطوره.
لكن المسألة التي أدت إلى اعتبار الصيرورة هي الطابع الكلي والأصلي للموجود في كليته هو أن الصيرورة تدل على انتفاء وجود الحدود بين الأشياء على اعتبار أن كل شيء يتحول إلى كل شيء. فإذا افترضنا أن اللون الأبيض في تغيره يتحوّل إلى رمادي، فإن الأبيض هو رمادي والرمادي هو أبيض.وإذا كانت كل الأشياء في تدفق مستمر، إذن فمن المستحيل أن يُقال عنها شيء محدد وثابت ولو لمدة قصيرة. ولن يكون لدينا معرفة حقيقية بها، ولكن في أحسن الأحوال، ستكون معرفتنا بها مجرد «آراء» غامضة وخداعة(27). ومن هنا نتفهم جيدا الهجوم العنيف الذي شنّه أفلاطون على فلسفة الصيرورة الكونية التي نادى بها أنطولوجيا هيراقليطس، وإبستمولوجيا پروتاغوراس، وبقية الفلاسفة السفسطائيين. يقول مؤسس الأكاديمية في أحد محاوراته المخصوصة لمشكلة العلم والمعرفة بوصفهما طريق التحديد (أي وضع الحدود بين الأشياء مفهومياً): «پروتاغوراس يؤكد، أنه ليس هناك ما هو في ذاته وبذاته أو يمكن تسميته باسم معين أو بصفة معينة، بل على العكس إذا ما سميته كبيراًً، فإنك سرعان ما تجده صغيراً، وإن قلت ثقيلاً ظهر خفيفاً [...] إذ لا يوجد شيء واحد محدد أو ذو صفة ثابتة على أي حال من الأحوال. وكل ما نصفه بالوجود إنما هو في صيرورة وحركة وامتزاج»(28). ومن هنا نلحظ أن المشكلة الفلسفية المثارة حول الصيرورة تتعلق بمركز الحركة في الشيء، هل الحركة حالته الجوهرية أم عرض يطرأ عليه مثلما يطرأ السواد على البشرة بفعل أشعة الشمس؟ فإذا اعتبرنا الصيرورة هي التي تشكل الماهية فعندئذ لا يحق الحديث عن صفة جوهرية بمعنى ثابتة رغم تغير الأحول. أما إذا اعتبرنا التغير حال طارئ، فهنا لا مشكلة تهدد الهوية أو الجوهرية لأن التبدل هنا جزئي ومؤقت فقط.
وفي حالة موضوعنا هنا، المتعلّق بالأسرة المسلمة تتحدد المسألة كما يلي: هل الأسرة المسلمة لها كيان ثابت تعرف به، وما التغير إلا حالة طارئة ناجمة عن تغير الظروف، أم أنها وليدة التغير في ذاته؟ بمعنى أن مفهوم الأسرة المسلمة في ذاته مفهوم تولد عن تغير ظروف ما، وسيزول بزوال تلك الظروف؟ هل «صفة» المسلمة أو الإسلامية التي ارتبطت بالأسرة العربية وغير العربية طارئ تعلق بها أم صفة اندمجت بحيث لا يمكن فهم تلك الأسرة إلا في ظل هذا السياق الإسلامي؟ قد يبدو أن هذا التساؤل عبثي لا طائل منه، لكن الحقيقة التي تكشف جدية الطرح تكمن في السؤال الذي طالما طرح وهو: هل الأسرة المسلمة هي مسلمة منذ الأزل؟ فالرسالة المحمدية المتمثلة في الإسلام كحادثة تاريخية تعتبر تحميلاً Prédication مضافاً إلى موضوع وهو الأسرة دون تحديد أو الأسرة بالإطلاق. ونحن نعلم أن كل محمول قابل لأن يتقوى ليشكل الجوهرية، أو لأن يزول ليعتبر صفة عرضية. وبالتالي فالرهان الآن هو كيفية تحويل صفة «الإسلامية» كمحمول Prédicat إلى حالة جوهرية إيجابية خلاّقة ومبدعة. لكن قبل التفكير في ذلك، يجب تحديد مشكلة الهوية بما هي مشكلة مفهومية ومنطقية معاً، لها من الأهمية والصعوبة ما يجعلنا ننقب عن حقيقتها.
3) مفهوم الهوية
بلغت الألفة في استعمال لفظة الهوية حدّ عدم التفكير فيها أصلاً. فنقول الهوية العربية والهوية الإسلامية بمعنى ما يميزنا عن الغير. وهناك من يستعمل مفهوم الهوية بهدف اقصاء الغير كذلك، إلى جانب من يعتبر الهوية تدل على الأصالة والثبات المطلق. فما حقيقة الهوية؟ أو ما هوية الهوية؟ وما الخلفية التي ولّدت هذا التصوّر المهم في الفكر والعلم والحضارة الإنسانية بالإجمال؟ هل فعلاً أن الهوية تلغي التغير أم تعقلنه فقط؟ هل يمكن تصور الهوية في ظل انعدام الغيرية أو المغاير؟ هل يمكن فهم الذات دون الأغيار؟
إن كلمة الهوية المطابقة للمصطلح الفرنسي أو الإنجليزي identité تدل حسب لالاند على معاني التماهي والتماثل، فنقول مثلاً الحادثة (أ) تماثل الحادثة (ب).
وحدة الأنا بما هي دلالة على تطابق الذات، فنقول أن فلان هو هو، أي أن هناك من الصفات ما لم يتغير رغم تغير الزمان وبعض الصفات الأخرى. وهذا ما نسميه هوية شخصية.
الهوية النوعية أو الكيفية، والتي تدل على الاشتراك في الصفات.رغم الاختلاف في الزمان والمكان.
الماهية العددية وهي التماثل الكمي بين مجموعتين، وهذا المفهوم يستعمل في العلم الرياضي على العموم، فنقول أن العدد 12 يساوي العدد 12.(29)
وما يهمنا في هذا المقام هو فحص «كمية التماهي بين عنصرين أو شيئين أو حتى حضارتين أو جيلين في الحضارة عينها؟ هل الهوية التامة أو المطلقة أمر وارد على الأذهان؟ هل التشابه التام حقيقة واقعية؟ وحتى من الناحية العلمية مثلاً؟ أم أن الماهية الحقيقية هي ماهية الجزء أو ما يطلق على تسميته الماهية البعضية أو الجزئية Identité partielle. سنحاول استثمار هذا المفهوم من تحديد ماهية الأسرة المسلمة من خلال دراسة مسألة التطابق مع الأصل الأول، وهي المسألة التي تمثل معضلة حقيقة في «مخيال» الإنسان المسلم حالياً.
بالنسبة للسؤال السابق المتعلق بإمكانية وجود مماهاة مطلقة أو تامة، فإننا نعتقد أن هذا المفهوم ينحو منحى مثالياً. على اعتبار أن التشابه الكلي مفهوم رياضي أو تخيلي لا يصدق إلا في عالم الخيال العلمي والرياضي من أجل أغراض علمية خالصة. فنحن عندما نتصور في الرياضيات تطابق بين الأعداد أو المثلثات كأشكال هندسية، فإن هذا التصور من أجل البرهنة وسير الاستدلالات فقط. لكن من الناحية الواقعية فإن مهمة إنجاز أشكال متطابقة كلية أمر صعب إن لم نقل مستحيل. هذا ما يجعل علم الرياضيات مطلق نظرياً ونسبي واقعياً، حتي النتائج في علم الإحصاء تبدو أقل صحة عندما نطبقها على الواقع مثل إحصاء توزع السكان على الأرض. وقد شاع القول أيضاًً بأن المنطق الصوري يقيد الفكر دون الأشياء؛ بمعنى أن الهوية المنطقية صالحة في مستوى التصور والتجريد الشكلي فقط، فعندما نعتبر أن الإنسان هو إنسان، فإنه اعتبار نظري فقط، أما واقعياً فليس هناك انسان يشابه انسان آخر مهما بلغت «نسبة» التماثل بينهما درجة كبيرة. يقول نيتشه معبراً عن وهم الهوية المطلقة وضرورة التمييز بين المماثلة والماهية: «إن المنطق مرتبط بهذا الشرط: الافتراض بأن هناك حالات متماهية، وهذا ما يدل على أن المنطق بحاجة إلى عملية تزوير جذرية في حق الوقائع [...] فالمماثلة ليست درجة من درجات الماهية، بل هي شيء مختلف عنها تماماًً. وحتى في الكيمياء، فإنه يجب الحديث عن نوعان متماثلان وليس متماهيان أو متهاويان، فليس هناك شيء ما يتكرر مرتين، حتى ذرة الأوكسجين في الحقيقة ليست في علاقة تماهي مع الذرة الأخرى. ومنه فإن وجود شيئين متماهيين تماماًً مستحيل»(30). وهنا نشعر بضرورة الالتزام بالنظرة العلمية ـ بالرغم من أن هذا الفيلسوف السابق مناهض تمام المناهضة للروح العلمية ـ في تحديد مفهوم الهوية أو المماهاة بما هو مفهوم نسبي أو جزئي خاص.
في اللغة اللاتينية، يتحدد مصطلح Idem من خلال المفهوم المنطقي السابق للهوية. فهو يدل على «نفس الشيء»، وهيغل الفيلسوف المثالي الكبير يأخذ هذا المفهوم(31)، ويوظفه في تحليلاته المختلفة على أساس أنه يدل على المماثلة العددية والكيفية، ولعل العداء الكبير بين فيلسوف القوة (نيتشه) وفيلسوف الروح (هيغل) عائد إلى هذه النقطة الخلافية؛ وهي الإيمان بالهوية أو عدم الإيمان بها، أو بالأحرى وجود الهوية من عدم وجوده أصلا. لأن الحقيقة تتمثل في أن النسق يقتضي تصور أشياء متماثلة حد التطابق، وإلا فإنه من المستحيل إقامة فكر مترابط الحلقات، ولتعذر الاستنتاج وإقامة العلم ككل، على اعتبار أن لا علم إلا بالكليات مثلما صرَّح أرسطو في كتبه المنطقية عندما قال بأن «البراهين ـ بما هي موضوع العلم ـ من الأشياء الكلية»(32)، والكلية بما هي تصور يقتضي التجريد وإسقاط نقاط الخلاف والتغير والمغايرة.. الخ. والاحتفاظ بالصفات الجوهرية أو حتى العرضية التي تحقق الوحدة والتقارب والتماثل أو التطابق المفهومي، وبالفعل فإن كل المصطلحات العلمية أو الرياضية قائمة على الفعل العقلي المسمّى تجريد abstraction. فمفهوم السوائل بما هو مفهوم نابع من التجريد العقلي تأسس على إلغاء الصفات المغايرة والممايزة للمواد السائلة الحسية المختلفة (الماء، الحليب، الزيت.. الخ).
وقد تكررت عبارة «الهو هو» للدلالة على مبدأ الهوية المنطقي، لكن ليس الجميع مطلعاً على سر التكرار في العبارة السابقة. لذلك نفضل نقل العبارة الشارحة التي قدمها علي سامي النشار، وهي الفقرة التي تحدد بدقة مدلول الهوية، يقول في كتابه المنطقي: «فلا بد من وجود اختلاف بين عنصري الحكم [...] أما أن نقول بأن الشيء هو هو فلن يكون له معنى، ولن تكون له صفة الحكم. فالحكم هو الذي يتضمن حملاً جديداً، ولن يتحقق الحكم إلا إذا كان هناك تغاير بين طرفي الحكم، فإذا قلت مثلاً: الألماني هو ألماني، فلا أقصد بهذا تكرار لا معنى له، وإنما أريد أن أحمل على الموضوع صفة لم تكن ملحوظة في أول وهلة فيه، فحين أقول أن الألماني هو الألماني فإني أريد أن أحمل على الألماني الأول صفات متعددة من قسوة وعدم وفاء…»(33). وكما هو ملاحظ، فإن مبدأ الهوية في الحكم المنطقي يقتضي وجود طرفي الحكم وهما الموضوع (الهو الأولى) والمحمول (الهو الثانية)، والتأكيد على ثبات بعض الصفات لا يدل على إنكار التغير أصلاً. فعندما نقول مثلاً أن: «الأسرة المسلمة هي الأسرة المسلمة»، فإننا نعترف بأن هناك أشياء قد تغيرت وتتغير دوماً بفعل الضرورة التاريخية والجغرافية، رغم ذلك فإن هناك ما يبقى ثابتاً رغم موجات التغير التي لا تتوقف مثل صفات الاحترام والعفة والرحمة والعبادة والتعاون.. الخ.
إذن، فإن فكرة الهوية التي تقتضي عدم التناقض ومبدأ الثالث المرفوع كما حددها المفكر المنطقي وواضع علم المنطق أرسطو، لا تلغي أبداً الاختلاف ولا تلغي التطور، بل فقط تنكر النظرية التي لا تعترف بالثبات الذي هو شرط تفكير الإنسان. هذا هو مبدأ الذاتية أو الهوية الذي يجعل الاتفاق في التفكير ووحدة الأفهام بغية الاستدلال أمراً ممكناً، أما إذا كان كل شيء في حركة دائمة فإن البرهنة لا تتعدى أن تكون لغواً لا فائدة مرجوة منه. مما يجعلنا نعتقد أن هيراقليطس عندما كان يصوغ شذراته ويرتب أفكاره، كان ملتزماً بهذا المبدأ السابق، وإلا تعذر عليه هو ذاته فهم وقبول ما يقول.(34)
لكن، وإن كنا نتحدث دوماً على الهوية بما هي الحامية والحاملة للخصائص الذاتية لكل فرد منا. وبما هي عنوان التحدي والصمود والانتصار المعنوي، فإن المشكلة التي تظهر تتمثل في القيم المختلفة للهوية؟ هل الهوية تحمل فقط الصفات المحمودة في الشخص أو الأمة أو حتى الدولة؟ ألا يمكن أن تتحول الهوية إلى حاملة عيوب ونقائص بما هي تعبير عن تشوه معنوي وقصور قدراتي؟ وللتوضيح نأخذ المثال السابق حول هوية الأسرة المسلمة؛ فنحن نقول أن: «المسلم هو مسلم»، بمعنى أن الخصائص الثابتة في سيل التغير المستمر بالنسبة له تتمثل في الأمانة والإيمان والصدق والكرم.. الخ. لكن ألا يمكن أن نفهم من قولنا السابق «المسلم هو مسلم» جملة من الصفات المرذولة مثل الكسل والتكاسل والسلبية والاستهلاكية والتواكلية الپاثولوجية (المرَضية).. الخ، مثلما نفهم من قولنا أن «الألماني هو ألماني» جملة من الصفات الثابتة زمانياً ومكانياً مثل الخداع وانعدام الرحمة مثلما أشار إلى ذلك النشار. وهنا تظهر لنا معضلة «قيمة مكونات» الهوية، هل تتكون الهوية من صفات البطولة فقط؟ أم تتعادها لتكون صفات الإرتكاسية والرذالة؟
إننا نعتقد أن الهوية ليست بمعزل عن التكميم والتكييف. فإن كانت هناك هوية جزئية مثلما أشرنا إلى ذلك سابقاً، فالأكيد أن هناك هوية كيفية أو كيف للهوية. وبما أن الهوية مسألة مخصوصة بالإنسان حصراً بما هو كائن مجبول بالخلل والنقصان، وبما أنها تتكون وفق تجارب الإنسان وهو في صيرورته التاريخية، فالأكيد أن الهوية ليست أقنوم إلٓهي ناجز وجاهز بالمطلق. مما يدل على أن هناك دوماً «جانب انتكاسي في الهوية». فنحن مسلمين بخبرتنا وتجربتنا وإضافاتنا، وفي هذا السياق من اللمسات الإنسانية تتدخل عناصر غير مرغوبة رغم كونها تؤثر في بنيتنا الذهنية والسيكولوجية. والحقيقة أننا (نحن المسلمين) نربط هوية الكثير من الشعوب والأمم بالطابع السلبي معرفياً والشرير أخلاقياً والانحراف عقائدياً، وعندما نقول بأن «اليهودي هو يهودي»، فإننا لا نقصد إلا ثبات صفات الخداع والنُكس والعدوان والتظاهر.. الخ. رغم أن هوية اليهودي بالنسبة لليهودي تحمل على الأقل صفة واحدة إيجابية، وهذا يدل على أن الهوية من حيث الكيف تحمل دوماً صفات الإيجاب وصفات السلب. إلى جانب أن الصفات الثابتة في الهوية ليست مطلقة وكاملة، بل هناك ما يتغير فيها، مما يدل على أن الهوية هي «أقل» هوية مما نعتقد من الناحية الكمية والكيفية معاً. مثلما ان «الحقيقة» أقل حقيقة مما نعتقد، و«الديمقراطية» أقل ديمقراطية مما تعودنا القول.. الخ.
ثم أن الهوية، وهي الكيان الذي ينبثق تاريخيا، يوحي بأنه نتاج «صيرورة» ما. لأن معضلة الأصل لم تحض بكلام فصل حتى اليوم، فهل هناك أصل حقيقي؟ نحن نعترف بأننا لسنا مسلمين منذ الأزل، وإنما تحت تدخل التاريخ، يعني أن هويتنا الإسلامية وليدة صيرورة وتغير وتغيير. وهنا نصل إلى لغز الهوية المُشّكل، وهو أنها قائمة على مبدأين هما:
1ـ التغير شرط ضروري لتصور الهوية بما هي تعبير عن الانطباق الكلي والثبات التام المعادي للصيرورة.
2ـ المغاير بما هو خارج الهوية، ضروري لتشكل مفهوم الهوية، التي بدورها تستبعده حد الإقصاء.
إذن، فإن الهوية تشترط مناقضاتها الأساسية وهما «التغير والمغاير»، وهذا يعني أن «الهوية أقل هوية مما نعتقد» فعلاً. وهذا الحكم ينطبق على الصيرورة أيضاًً، بمعنى أن الصيرورة تفترض مسبقاً وضعية انطلاق ثابتة، وحتى فهم الصيرورة يقتضي التصور بما هو فكرة ذهنية كلية ومجردة (من التغير والتعدد)، مما يدل أن «الصيرورة أقل صيرورة مما نعتقد»، وهذا ما سنعمل على تفصيله لاحقاً. وبالإجمال فإننا نُبلور في هذا المقام نظرية، في اعتقادنا أن لها من الأهمية بمكان. وهي نظرية الهوية الجزئية كميا والثنائية كيفياً. هذه النظرية تعتبر بمثابة البديل المُحيَن والذي يستجيب لخصوصيات التفكير الحالي بما هو تفكير نقدي يستهدف مراجعة الأساسات المألوفة، بديل لنظرية الهوية المحنطة بفعل التقادم في الاستعمال دون نظر أو فحص.إن التفكير خارج السلط الفكرية المتعددة هو رهان كل تجديد بناء ومفيد، هذا ما ندعوه اليوم تفكيراً. أما تكرار المقول فهو تفكير منحول أو شبه تفكير على أقصى تقدير. ولئن كنا نخالف التوجه الذي توجهه البوطي في فكره العام، إلا أننا نصدقه عندما يقول بأن تكرار تجربة فاشلة ضرب من العبث التاريخي، مثلما أن تكرار فكرا تم تفكيره هو نوع من العبث المنطقي
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://philo.forumarabia.com
كمال صدقي
مدير المنتدى
كمال صدقي


ذكر
عدد الرسائل : 2399
العمر : 68
البلد : أفورار
العمل : متقاعد مُهتم بالدرس الفلسفي
تاريخ التسجيل : 20/12/2007

لماذا لا نفكر فلسفياً ؟ Empty
مُساهمةموضوع: رد: لماذا لا نفكر فلسفياً ؟   لماذا لا نفكر فلسفياً ؟ Clock10السبت سبتمبر 20, 2014 10:04 pm


الحدود
إشكالية العلاقة بين المحلي والعالمي
نوفل الحاج الطيف
مقدمة
لا أحد ينكر، اليوم، على نفسه وقع مسألة الحدود على وعيه بذاته، وبعلاقاته بالعالم وبالآخرين. وغني عن البيان التأكيد منذ البداية على أهمية طرح هذه المسألة في ظل التحولات الكبرى والخطيرة التي يشهدها عالمنا المعاصر. وهي تحولات، في الحقيقة باتت تهدد، ليس فقط الحدود الجيوسياسية للعالم، بل وأيضاًًً حدود وعي الإنسان بهويته الفردية والثقافية والسياسية. فقد اهتزت في عالمنا اليوم أركان “الهوية الوطنية المحلية” في صورتها التقليدية، واهتز معها الشعور بالانتماء إلى جماعة ضيقة بعد أن فَقَدَ العالم اتساعه الذي كان عليه، وأضاع حدوده التي رسمها الجنس والعرق والدين واللغة… بيْد أن هذاالاهتزاز، في الحقيقة، تزامن مع إعادة البحث من جديد عن مقومات جغرافيا سياسية تستوعب هذه الصورة الجديدة التي أصبح عليها العالم، وتعمل في نفس الوقت على استيعاب الصورة الجديدة التي آلت إليها العلاقات البشرية التي يبدو أنها توطدت أكثر بفضل ما كسبت يديْ الإنسان من أدوات ووسائل تواصل واتصال حتى غدا الإحساس بالمكان محدوداً، وربما منعدماً تماماًً. ولعل هذا ما اضطر جوشوا ميروفيتز أن يقترح عنواناً لأحد كتبه الذي صار مؤثراً على نطاق واسع؛ (لا إحساس بالمكان)، يقول فيه: «لقد قلّل تطور وسائل الإعلام من أهمية الوجود المادي في تجربة الناس والأحداث [...] والآن أصبحت الأماكن المقيدة مادياً أقل أهمية لأنه صار بإمكان المعلومات أن تدفق عبر الجدران والاندفاع عبر المسافات الشاسعة. ونتيجة لذلك، فقد أصبحت العلاقة بين المكان الذي ينوجد فيه الشخص وبين معارفه وتجاربه أقل فأقل، حيث غيرت الوسائط الإلكترونية معنى الزمان والمكان بالنسبة للتفاعل الاجتماعي»(1). ويمكن أن نعتبر في هذا السياق مفهوم “العالم القرية” أو “القريةالعالمية”، الذي يقول به ماكلوهان(2) أحسن تعبير عن هذه الصورة الجديدة للعالم كعالم فاقد للحدود.
والحقيقة، إن إغراءات المسألة رهيبة جداً، فمن أي جهة تناولناها، وجدناها تستهوينا من حيث ما تثيره فينا من الإحساس بالبهجة لإنتمائنا إلى هذا العالم حيث كل شيء فيه متاح بأيسر السبل، وربما دون اكتراث بالحدود. بل إن الحدود ذاتها لم تعد تفهم كعوائق أو كحواجز تحُول بيننا وبين الآخرين في الأماكن النائية، سواء من ذوي القربى الذين فرضت عليهم لقمة العيش عبور الحدود وهجر الأوطان المحلية، أو من معارفنا أو أصدقائنا الذين ألقت بهم المصادفة في طريقنا ذات مرة، أو في مرات عديدة بحسب ما تسنح به فرص الوقت.
ولا يتوقف الأمر على هذا الاعتبار أو ذاك، في تناول مسألة الحدود. إنها مسألة أشمل من أن تحيط بها تجارب الإنسان الأنطولوجية، والمعرفية، والعملية. فالحدود لا حدود لها، والتفكير فيها لا حد له. وحتى لا نستنفذ طاقاتنا في تنزيل المسألة في سياقاتها المختلفة، لا بدّ من وضع حدود لمجال بحثنا، تكون بمثابة الأرضية الفكرية المرجعية المنهجية والإجرائية لصياغة المسألة ضمن سياق محدد يجنبنا التخبط في المسائل اللغوية والمنطقية التي تتعلّق بتحديد مدلول لفظة الحدود أو بحدّ الحدّ على صيغة المفرد وحدّ الحدود على صيغة الجمع. فالقضية برمّتها ليست مشكلة لغوية ولا منطقية، بل معضلة وجودية وعملية، وتلح على أن تكون كذلك. ولأجل ذلك اقترحتُ عنوان المحاضرة الحدود: إشكالية العلاقة بين المحلي والعالمي، عسى أن ندرك من وراء ذلك بعض أسباب ومظاهر الاهتمام بمشكلة الحدود دون أن ندّعي من خلال ذلك تقديم وثيقة لترسيم الحدود بين ما هو محلي وما هو عالمي، بل تقديم مقاربة أنطولوجية ـ أنتروبولوجية وسياسية ـ أخلاقية تتخذ من الإنساني في الإنسان مرتكزاً وأساساً لمعالجة المسألة.
وعليه، سأعمل في المستوى الأول من هذه المحاضرة إلى طرح المسألة من زاوية أنطولوجية ـ أنتربولوجية تقوم على جدلية المحلي والعالمي ضمن سياق يعتبر الهوية الإنسانية هوية كونية تسمح باستيعاب اختلاف الهويات الفردية والاجتماعية والثقافية في تنوعها وكثرتها ضمن حدودها المطلقة، دون أن تقضي على ذلك الاختلاف وعلى تلك الكثرة باعتبارهما عامل إثراء لتلك الهوية الكونية في كنف الحوار والسلم بين الهويات المحلية مهما حافظت على خصوصياتها وتمسكت بها. وفي المستوى الثاني، سأحاول الإرتقاء بهذا الحوار في بعده الأنتروبولوجي إلى مستواه السياسي والأخلاقي للاستفادة أكثر من قيم التعايش السلمي أو العيش سوياً كقيم الانفتاح والحرية والتسامح بحيث تصبح الحدود لا حدود جغرافية ـ سياسية بل قيمية أو إيتيقية تحول وسائل القوة التي يعتمدها البعض ضد البعض الآخر لإخضاعه إلى وسائل تدعم الصداقة بين البشر وتشيع المحبة بينهم في نطاق ذات الحدود الجغرافية ـ السياسية دون إلغاءها ولكن في نفس الوقت دون إلغاء لولاءاتنا المحلية على أساس فكرة المواطنة العالمية التي من شأنها أن تعطي صك الأمان للهوية الإنسانية الكونية حتى تكشف عن نفسها لا كمفهوم مجرد بل كواقعة عينية متحققة في المجتمعات القائمة تدعمها مقولة حقوق الإنسان كمقولة قابلة للانطباق مهما تكن إمكانيات تطبيقها محدودة لفرط شموليتها وعموميتها مع محاولة تمثل ورصد مختلف العوائق التي يمكن أن تقف في طريق تحقيق ذلك في صلب الراهن الحضاري الذي يرزح تحت نير العولمة واستخلاص تبعات ذلك على مستوى معضلة الحدود وما تثيره من مفارقات حقيقة.
I. مشكلة الحدود بين المحلي والعالمي بما هي مشكلة أنطولوجية وأنتربولوجية
1ـ من الهوية كوحدة بسيطة إلى الهوية كوحدة مركّبة
سأنطلق في طرح مشكلة الحدود على هذا الصعيد من خلال البحث في مفارقات الهوية الإنسانية ذاتها كهوية منفتحة بحكم طبيعتها على الآخر، وليست مجرد هوية منغلقة على ذاتها بحيث ترفض كل إمكانيات الاعتراف بالآخر، وهو رفض في الحقيقة يرسم حدود هذه الهوية على نحو ميتافيزيقي يستبيح حق الآخر في أن يكون شريكاً في عملية الوعي بالذات بل وينفيه. وهذا الفهم للهوية كما تجسده الفلسفات الماهوية وعلى رأسها فلسفة ديكارت، تولي الوعي أولوية أنطولوجية ومعرفية مطلقة على ما عداه. وعلى هذا النحو تكون الهوية الإنسانية وحدة بسيطة، مكتفية بذاتها، ومعزولة عن واقعها وتاريخها وعن علاقاتها بغيرها، فإذا طيف لا تلمحه الأبصار. لكن تجربتنا الحياتية اليومية تخبرنا من خلال علاقتنا المباشرة بذواتنا ضمن واقع الوجود المعيش عن نمط وجود مفتوح يصل ذواتنا بذوات أخرى في الزمان والمكان مهما يكن إحساسنا بهما محدوداً. وهذه الهوية الجوهرانية التي تقول بها التصورات الميتافيزيقية لا تتوافق مع ما آل إليه عالمنا اليوم خاصة في ظل العولمة التي اخترقت قيمها كل الحدود وفرضت تصورات جديدة لما هو أنطولوجي ولما هو أنتروبولوجي، وأخرجت الهوية الفردية من عزلتها لتلقي بها في مغامرة تجربة الوجود مع، وهي تجربة تُفتح فيها الحدود على مصارعها دون اعتبار للخصوصيات الفردية. فقد كان لزاماً على الفردي المعزول أن يتزحزح عن كبريائه ونرجسيته ليكتشف ذاته ضمن العلاقات مع الآخر الشبيه والمختلف في آن.
إن الإنسان لا يعيش كما يقول مرلوبونتي في عالم فيزيائي فقط، بل يعيش في عالم من الأدوات والرموز والعلاقات الاجتماعية والتاريخية، ويمثل كل ذلك عالماً ثقافياً يدل على الفعل الإنساني. إن الإنسان كائن ثقافي، ولأجل ذلك فهو مدعو إلى التفكير فيما نعيشه ثقافياً من أجل التغيير والإضافة. وعليه، فالأنا ليس كياناً منفصلاً عن العالم وعن الآخر، بل يتم النظر فيها من جهة وضعيته في العالم وعلاقته بالآخر، فهو يرتبط بوضعيات ثقافية تاريخية. ومن ثمة لا وجود لوعي مستقل بذاته، أي أن الوعي هو وعي الأنا بالآخر على أساس التفاهم والتبادل. فالذات الإنسانية حمالةسلوك من حيث هي ذات حية علائقية وهي كذلك حمالة معنى حيث يرتسم نمط علاقاتها بالآخر، فالذات وهي تنخرط في العالم وتلازمه وتحس به بما هو عالم الآخرين وأجسادهم، تصبح ذاتاً متجسدة ومنفتحة على مجموعة علاقات بين الذوات وهو ما يسميهما مرلوبونتي “البيذاتية الإنسانية” أو “البيذاتية المعيشة”، بمعنى علاقات قائمة بين الأشخاص وسلوكياتهم وانتماءاتهم وأفعالهم المشتركة. وعلى هذا النحو تصبح العلاقة بين الذوات ضرب من التعايش على أساس الاعتراف بالتنوع والتكامل، تجاوزاً للمركزية فالأنا لا يكون بمفرده وإنما في إطار من التبادل بينه وبين الأخر، وبينه وبين العالم، وبذلك ينشأ التفاعل بين الحياة الفردية والحياة الجماعية(3). وهكذا تصبح  البيذاتية أفقاً مشتركاً بين ذات وذوات أخرى في إطار وحدة لا تقبل التجزئة وهو ما يعني أن الذات حقيقة مفتوحة لا تتمثل نفسها إلا في عالم الآخرين وما يقتضيه ذلك الانفتاح من حوار وتواصل بحيث تصبح الحدود حالة خاصة لا تعبر عن انفصال الأنا عن الآخر بقدر ما تكشف عن تشابه أو تماثل في نطاق الاختلاف الذي يسمح بالاعتراف والتبادل والتسامح من زاوية الكثرة الثقافية التي تفرض أن تكون الهوية الإنسانية لا مجرد وحدة بسيطة، وإنما وحدة مركّبة، وهو ما نلمسه بوضوح في عبارة إدغار موران عندما يقول: «أن العقول العاجزة عن تصوّر وحدة الكثرة وكثرة الواحد لا تقدر على الرفع من شأن الوحدة التي تولد التجانس أو الرفع من شأن الكثرة التي تنغلق على نفسها. بيد أن الأمر المزدوج والمركب يلزمنا بالمحافظة على تنوع الثقافات وتطوير الوحدة الثقافية للإنسانية. إن اللقاءات التي تتلاقح فيها الأفكار والثقافات والأعراق تكون مبدعة للتنوع والتجديد [...] ينبغي أن تحل إعادة الوصل محل الفصل وأن تدعو إلى تعايش حكيم ـ حكمة العيش سويا ـ [...] إن التلاقح يدخل المركّب في قلب الهوية المتلاقحة (ثقافية أو عرقية). من الأكيد أن كل واحد يمكنه [...] وينبغي عليه تنمية هوية متعددة المنابع والتي تسمح لأن تدمج داخلها الهوية العائلية والهوية الجهوية والهوية الإثنية والهوية الوطنية والهوية الدينية أو الفلسفية والهوية القارية والهوية الأرضية (الكوكبية: نسبة إلى كوكب الأرض)، إلا أن هذا الذي جرى تلقيحه يمكن أن يعثر في جذور هويته المتعددة على قطب عائلي مزدوج وقطب إثني مزدوج، وقطب وطني أو حتى قاري يسمح له أن يشكل في ذاته هوية مركبة إنسانياً تماماًً»(4).
إن الإطار الذي تتنزل فيه مشكلة الحدود، من الناحية الأنطولوجية ـ الأنتربولوجية، إذن، هو إطار العلاقات بين الأنا والآخر في مستوييها الفردي والجماعي. فكلما كان هنا طرفين، كانت هناك أكثر من إمكانية تُضبط في صلبها حدود علاقة أو علاقات ممكنة. وإذا كان الوصل ضرورياً لتأكيد التوحد، فإني لا أحسب أنه فرصة لفرض منطق الوحدة، بقدر ما هو اعتراف متبادل بالاختلاف والتنوع واعتراف بالحدود. وهي حدود تتعلق هنا بالعرق والإثنية والثقافة… دون أن تكون هناك إمكانية لاجتثاث الإحساس بالانتماء المحلي لجماعة عرقية أو ثقافية معينة، وإلا أصبح الحديث عن الحدود في إطار الحدود أكثر مأساوية لأنه سيفتح المجتمعات ذات التنوع العرقي والثقافي (يمكن الحديث عن الأقليات) على حروب أهلية طاحنة لا تبقي ولا تذر كما هو الحال في بعض المجتمعات القبلية الإفريقية (روندا مثلاً).
إن مشكلة الحدود لا تنفصل، على هذا النحو، عن مسألة الانتماء في بعده الأنطولوجي من حيث أن الإنسان ـ وجوده برمته انتساب للعالم، ومن حيث هو يعيش مع الآخرين وهو وجود يفترض بحكم الحال والطبع أن تكون له حدود وهو ما عبر عنه إيريك فروم بالقول: «يمكن للكائن البشري أن يصاب بالذهول والارتباك والعجز عن الفعل الهادف المتسق إذا افتقد خريطة للعالم الطبيعي والاجتماعي الذي يعيش فيه، وإذا افتقد صورة للكون ولمكان الشخص فيه، صورة ذات تكوين وذات نظام وتماسك داخلي لأنه إذا افتقدها بات لا يرى طريقاً لتوجيه ذاته، لا يرى نقطة ارتكاز ثابتة تمكنه من تنسيق أفكاره وكافة الانطباعات التي تمسه. إن الكون الذي نعيش فيه لا معنى له في أذهاننا ولا ثقة لنا في أفكارنا عنه إلا من خلال اتفاق عام بين الناس الذين نعيش معهم»(5)، وتفهم الخريطة هنا على معنى الحدود. وإذن يمكن القول، والحالة تلك، أن حياة الناس لا تستقيم في غياب مثل تلك الحدود. إنها تستحيل إلى حياة عبثية لا معنى ولا قيمة لها. فالحدود ضرورة أنطولوجية اقتضت طبيعة الوجود الإنساني نفسه، ولما كان ذلك كذلك فلا شيء يمنع عندها من إقامة الحدود على أنحاء أخرى حيث يكون ثمة إمكانية لتمثل الجنس البشري ككثرة نوعية ترى في تلك الحدود أرضية خصبة للتلاقي ضمن الفضاء الإنساني على درب التواصل والحوار لا على درب الصدام والصراع. فهما تكن تلك الخريطة حسب إريك فروم خاطئة أم صائبة (وهو أمر غير ذي أهمية بالنسبة له)، فإنها تؤدي وظيفتها على أتم وجه أنطولوجياً وسيكولوجياً واجتماعياً.
2ـ العولمة إعادة تركيب لهوايات مركبة أصلاً في ظل فهم غامض للحدود بين المحلي والعالمي
إنه بقدر امتداد العالم تمتد الحدود، سواء كان العالم منظوراً إليه كقرية أو كفضاء شاسع مترامي الأطراف. فالعالم عالم لا محدود بقدر ما هو عالم محدود. عالم تتصارع فيه قوى الفصل وقوى الوصل تحت مظلة من الثنائيات: الوحدة والكثرة، الجزئي والكلي، المحلي والعالمي، الخصوصي والكوني، وكلها ثنائيات بقدر ما تبحث عن الانسجام والاندماج، بقدر ما تحكمها غايات وأهداف ومنافع ومصالح توسعية قد تفقدها طابعها الجدلي المميز لتجعل صورة الحدود صورة إنساني تفكك وتصدع تحت وطأة الاقتصادي كسياق معياري فرضته ثقافة العولمة تحت مسميات عديدة من قبيل كوننة الثقافة أو التبشير بثقافة عالمية تحول الحدود ضمن نزعة كوسموبوليتية تفاؤلية إلى مجرد إمكانيات مفتوحة لا على الممكن بل على المستحيل. ذلك أن الهوية الإنسانية يتخللها المحلي من كل صوب وحدب، «فأنا لا أكون أنا إلا بقدر ما أنا قادر على معرفة الموقع الذي أحتله»(6)، كما يقول تشارلز تايلور (مفكر أمريكي معاصر) الذي يضيف (في نفس الصفحة): «يمكن للبشر أن يدركوا أن هويتهم تتحدد في جانب منها من خلال التزام معين، أخلاقي أو روحي: كأن يكونوا كاثوليكيين أو فوضويين(7). ويستعطون تحديد هويتهم أيضاًًً في جانب آخر بواسطة الأمة أو التراث الذي ينتمون إليه:فيكونون أرمن أو كباكيين (نسبة إلى الكيباك في كندا). إن ما يفهم من هذا ليس فقط كونهم متعلقين شديد التعلّق بهذا المنظور الروحي أو بهذا السياق الثقافي وإنما لأنها تمنحهم هذا الإطار الذي بداخله يستعطون تحديد موقفهم إزاء ما هو خير وجدير ورائع وصالح».
ومن ناحية أخرى فإن العولمة إذ تعمل في دائرة الاقتصادي وبالتالي النفعي وذلك خلافاً للكونية التي تستند إلى أرضية إيتقية تريد من خلالها أن تقضي على الحدود التي تقيمها العولمة رغم إدعائها إلغاء الحدود. وهذا يجرنا إلى التمييز بين العولمة والكونية، فإذا كانت الكونية لا تضع حدودا أمام الخصوصيات الثقافة لتبرز إمكانياتها الذاتية الإبداعية على صعيد الحضارة العالمة بحيث يصبح القول بالحدود ضمن هذا السجل قول ثانوي أو جزئي، فتكون الكونية بهذا المعنى هي كونية القيم، القيم التي لا تحدها الحدود لتأصلها في الإنسان ذاته دون اعتبار للخصوصية العرقية أو الإثنية. فالكونية تفيد الشمولية التي بإمكانها تحقيق وحدة البشر بمعزل عن كل ما هو نفعي وإيديولوجي. وهذا لا يتم إلا استنادا إلى ما هو واحد في كل البشر وأعدل الأشياء توزيعاً بين البشر على حد عبارة ديكارت، إنه العقل من حيث هو وحده القادر على توحيد البشرية بحيث تكون قادرة عبر ذلك على تجاوز حدود الخصوصية الضيقة المفتتنة بسماتها وميزاتها الجزئية بما هي عناصر عرضية من شأنها تفريق البشر لا توحيدهم أو بمعنى آخر من شأنها اختلاق وافتعال ضرب من الحدود يستحيل عبوره. فالكونية أرضية للسلام والعدالة وتوزيع الحقوق والحريات بأكثر مساواة مع اعتبار حرمة الأشخاص كقيمة ذات حصانة أولية ومطلقة وهو ما تجلى على نحو صريح في المواد المختلفة لوثيقة الإعلان العالمي للحقوق الإنسان من ذلك مثلاً ما جاء بعض المواد التي نأتي على ذكرها فيما يلي:
ـ المادة الأولى: يولد جميع الناس أحرار متساويين في الكرامة والحقوق، وقد وهبوا عقلاً وضميراً، وعليهم أن يعامل بعضهم بعضاً بروح الإخاء.
ـ المادة الثانية: لكل إنسان حق التمتع بكافة الحقوق والحريات الواردة في هذا الإعلان، دون أي تمييز، كالتمييز بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي أو رأي آخر، أو الأصل الوطني والاجتماعي أو الثروة أو الميلاد أو أي وضع آخر، دون أي تفرقة بين الرجال والنساء. وفضلاً عمّا تقدم فلن يوجد أي تمييز أساسه الوضع السياسي أو القانوني للبلد أو الدولي للبلد أو للبقعة التي ينتمي إليها الفرد سواء كان هذا البلد أو تلك البقعة مستقلاً أو تحت الوصاية أو غير متمتع بالحكم الذاتي أو كانت سيادته خاضعة لأي قيد من القيود.
ـ المادة الثالثة: لكل فرد الحق في الحياة والحرية وسلامة البدن.
ـ المادة الخامسة: لا يعرض أي شخص للتعذيب أو العقوبات أو المعاملات القاسية أو الوحشية أو الحاطة بالكرامة.
ـ المادة التاسعة عشرة: لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون تقيد بالحدود الجغرافية.
ينص هذا الإعلان على الإنساني في الإنسان دون اعتبار لما عداه لأن «الإنسانية واحدة العين في كل إنسان»، على حد تعبير محي الدين ابن عربي. وهذا الإنساني يحضر في كل الحضارات وفي كل البنيات الاجتماعية والثقافية في كثرتها واختلافها ورغم الحدود التي يمكن أن تفصل بعضها عن بعض، «لأنه لا ينبغي أن نتخيل العلاقات بين الثقافات من خلال مصطلحات الحدود، وإنما من خلال التأثيرات المتداخلة بين مراكز لا يقيم إشعاعها أي وزن للحدود»(Cool، كما يذكرنا بول ريكور بذلك دائماًً في كتاباته في هذا الغرض.
وهذا القول بالكونية يجد أساسه الفكري في العصر الحديث في فلسفة كانط السياسية والأخلاقية فيما يعرف عنده بـ”حق الضيافة”، حيث يدعو إلى التشريع لحق سياسي كوني يُراعي شروط الضيافة الكونية، وهو قانون من شأنه أن ينظم العلاقات بين البشر بحيث يضمن لهم حرية التنقل من دولة إلى أخرى، ويقول كانط عن هذا الحق أنه هو الكفيل بتحقيق السلام الدائم والشامل في العالم: «يستوجب الحق السياسي الكوني مراعاة شروط الضيافة الكونية [...] والمقصود هنا الحق وليس محبة الإنسان، ولذلك تعني الضيافة حق الأجنبي في ألا يُعامل وكأنه عدو حينما يحل في إقليم آخر، قد يجوز طرده إذا لم يؤد به ذلك إلى الهلاك، ولكننا لا نستطيع أن نعاديه طالما بقي حيث هو مسالماً ولا يمكن للأجنبي أن يطالب بحق الإقامة وإنما بحق الزيارة لأن حق الإقامة يقتضي إبرام معاهدة خاصة تنص على استقباله بحفاوة والإقامة لفترة ما. أما حق الزيارة فهو حق لكل البشر فهو يتيح للأجنبي أن يقصد مجتمعاً ما بحكم حق الملكية المشتركة لسطح من الأرض ولأنها كروية الشكل فإنه لا يمكن لهم أن يتشتتوا فيها بلا هوادة، بل إنهم مجبرون على أن يتحمل بعضهم بعضاً»، فحق الضيافة رخصة متوقفة على مدى قدرة الأجنبي على الاختلاط بالسكان الأصليين.(9)
إن البشر مواطنو عالم واحد، لا تفرق بينهم حدود المكان والزمان ولا الفوارق والاختلافات الموجودة بينهم بحكم الانتماء الاجتماعي والخصوصيات الفردية والمحلية وهو أمر كان سقراط واعياً به منذ العصر الإغريقي إذ يجيب قائلاً لما سُئل: من أي بلد أنت يا سقراط؟: «أنا من العالم»، ولم يكن يذكر أنه من أثينا أو من كورنثيا.
لكن يبدو أن هذا الكلام من الماضي حيث كانت الفضيلة هي المحرار الذي يرسم الحدود بين المجتمعات أما اليوم فالمصلحة هي المعيار البديل وهو ما جعل الكونية تسقط في فخ العولمة التي استباحت كل شيء وشكّلت هوية إنسانية جديدة تستجيب لمتطلباتها وتتوافق مع طموحاتها، فهلكت الكونية في العولمة وفرض على البشر التنازل عن انتماءاتهم المحلية وفي هذا السياق يقول بودريار: «الواقع أن الكوني يهلك في العولمي وعولمة التبادلات تضع نهاية لكونية القيم. إنه انتصار الفكر الوحيد على الفكر على الفكر الكوني»(10). وهكذا تحول طموح الإنسان من الرغبة في إلغاء الحدود إلى مزيد تكرسيها أمام تدفق قيم العولمة الاقتصادية التي تعمل على تشيئة الهوية الإنسانية وموضعتها ومن ثمة تمدية الإنسان في سياق استهلاكي انتصرت فيه ثقافة السوق ورأس المال والفرجة على حساب الإنساني دون اعتراف لا بالحدود الجغرافية بل بالحدود الأخلاقية، وشاشة التلفاز تختصر القصة، فتوترت العلاقات بين المجتمعات الفقيرة والغنية وبين من يملك ومن لا يملك، واتسعت دائرة التحديات التي ينبغي على الإنسان أن يواجهها في زمن اختلطت فيه الحدود حتى أصبحت كل الأشياء حبلى بنقائضها على حد عبارة ماركس. لقد أصبحت مقولة ابن خلدون ذائعة الصيت اقتداء المغلوب بالغالب مقولة ذات قيمة وظيفية عالية في زمننا هذا على أكثر من صعيد خاصة إذا تعلق الأمر بتفسير الهيمنة التي تفرضها البلدان القوية عسكرياً على البلدان الضعيفة. وهكذا تصبح مقولة الحدود تعمل في اتجاه واحد، أي من الدول الضعيفة في اتجاه الدول القوية وليس أدل على ذلك قوانين الهجرة وصعود الأحزاب اليمينية والقومية المتطرفة على المسرح السياسي الغربي. وبدأت أسطورة الرجل الأبيض تطفو على سطح العلاقات بين الغرب وغيرهم من الشعوب من جديد. وقد استثمرت هذه الصورة للثقافة الغربية ما تبديه الثقافات الأخرى من عجز على المصارعة في ساحات الوغى متسلحة في ذلك بسلطة القانون الرهيبة بلغة جان جاك روسو متحدثاً عما آل إليه الوضع الإنساني في الحالة المدنية من توحش وهمجية ومفاخرة بممارسة التلسط وبسط النفوذ بالقوة. وهاهو صامويل هنتنجتون يكتب عن هذا الأمر مؤلفاً يعكس من خلال عنوانه فقط تشخيصاً واضحاً للحالة المرضية التي عليها العلاقات بين الثقافات وبين الأمم والشعوب، وخاصة بين الغرب وغيره من شعوب العالم، وهو (صدام الحضارات)، يقول فيه: «إن الفكرة القائلة بأن الشعوب غير الغربية ينبغي عليها أن تتبنى القيم والمؤسسات والثقافة الغربية هي فكرة لاأخلاقية في نتائجها»”.
وهكذا تكرست النزعة الإمبريالية للدول القوية كنزعة تدفع الرأسمال لعبور الحدود لمزيد من فتح الأسواق وتحرير التجارة واستنزاف ثروات الشعوب الأخرى وتجلى ذلك في كبريات الشركات العبر قطرية. والمميز في هذا الموقف من الغرب هو التمييز بين التحديث والتغريب ذلك أن التغريب، بعني فرض قيم الغرب ثقافته على المجتمعات الأخرى على أساس أنه أرقى الحضارات وأقواها دون مراعاة للروابط الثقافية وإمكانية التعاون فيما بينها على أساس التنوع الحضاري، وفي هذا السياق يذهب جون رولز في كتابه (حقوق الشعوب) إلى إمكانية تفاعل مجتمعات تختلف في العرق والثقافة فيما بينها انطلاقاً من بعض القيم المشتركة كأن يتعاون مجتمع علماني ليبرالي مع مجتمع غير ليبرالي. ولعلّه كان واعياً أكثر من غيره بحقيقة المجتمع الأمريكي من حيث هو مجتمع يتميز بالتعددية والاختلاف فهو مجتمع مهاجرين يشتمل على تنوع هائل من الأجناس والقوميات والأديان لذلك يقدم تصوراً قائماً على مبدأ التعاقد بين ممثلي المكونات المختلفة في مجتمع معين ثم بين ممثلي الشعوب.
….. التتمة في العدد
الحيّة، بين الروح l’Esprit والأرواح، ممكنةً هو الطابع الشموليّ لصورة ابن الإنسان، التي تمثّل الجمعيّة collectivité. هنا، عند الدينونة الكونيّة الكبرى، يكون ابن الإنسان صورةً أساسيّةً في التبرير؛ وما تضيفه رمزيّة “التطعيم” هو الترابط الحميم بين نفخة الحياة وسخاء نعمة التبرئة. وهكذا نجد، في نهاية انعطافتنا الطويلة، ذاك الذي أتانا به التأويل الصوفيّ عند القدّيس بولس، وهو عزيزٌ على قلب شفايتزر Schweitzer، وقد استطاع الاختبار الدينيّ أن يبرهن عليه، عنيت به محايثة الروح l’Esprit للحياة. ومع هذا، فما زالت قوّة الرمز، بالنظر إلى ما تقوله، هي التي تنشّط، سرًّا، اختبار “الحياة في المسيح”، أو
الرمز يُعطي الفكر

بول ريكور/ترجمة محمود يونس
1. من الرموز الأوّليّة إلى الأساطير(1)
إلى الآن، كنّا نحاول “إعادة تمثيل” اختبار المعصية faute، في الخيال، وبشيء من التعاطف إن جاز القول. هل حقّاً وصلنا، تحت اسم الاختبار، إلى معطى ما مباشر؟ على الإطلاق. فما اختبرناه كـ دنس souillure، أو كخطيئة péché، أو كمعصية faute، يقتضي وساطة لغة خاصّة، هي لغة الرموز. ومن دون الاستعانة بتلك اللغة، سيظلّ الاختبار صامتًا، مبهمًا، منغلقًا في تناقضاته الذاتيّة (وهكذا، يُعبَّر عن الدنس كشيء يوبئنا من خارج، وعن الخطيئة كعلاقة متمزّقة، وكقدرة، وغير ذلك). وهذه الرموز الابتدائيّة élémentaires، بدورها، لم يكن الوصول إليها سوى على حسابِ تجريد abstraction انتزعها من عالم الأساطير الغنيّ. ولكي نشرع في تفسيرٍ محض ألسُنيٍّ للعبارات التي تكشف اختبار المعصية على أفضل وجه (الوصمة والدنس، والانحراف، والتمرُّد، والزَّلل، والتيه، وغير ذلك)، كان لزاماً علينا تعليق رموز الدرجة الثانية التي تكوّن، بنفسها، الوسطَ الذي يحوي الاختبار الحيّ للدنس، وللخطيئة، وللذنب.
إنّ هذا المستوى الجديد من التعبير يُحيّر الإنسان الحديث. فبمعنًى ما، وحدَهُ هو يستطيع أن يتعرَّف على الأسطورة كأسطورة، لأنّه وحدَهُ من وَصَل إلى حيث ينفصل التاريخ والأسطورة. ولعلّ في هذه “الأزمة”، وهذا القرار، الذي على إثره انفكّ التاريخ عن الأسطورة، دلالةً على خسارة البُعد الأسطوريّ: لأنّ الزمن الأسطوريّ لم يعد من الممكن مضارعته مع زمن الأحداث “التاريخيّة” بالمعنى الذي يقتضيه المنهج التاريخيّ، والنقد التاريخيّ، ولأنّ المكان الأسطوريّ لم يعد من الممكن مضارعته مع أمكنة الجغرافيا لدينا، ولأنّنا بتنا يستهوينا أن نهب أنفسنا بالكامل لنزع أسْطَرَةٍ démythisation جذريّ عن كلّ تفكيرنا. بيد أنّ إمكانيّةً أخرى تعرض نفسها أمامنا: فبالتحديد لأنّنا نعيش ونفكّر بعد انفصال الأسطورة والتاريخ، فإنّ نزع الأسطرة عن تاريخنا قد يُشكّل الوجه الآخر من فهمنا للأسطورة كأسطورة، ويمكّننا من غزو البُعد الأسطوريّ لأوّل مرّة في التاريخ. ولهذا لا نحكي هنا، أبدًا، عن نزع الأسطرة، بل نحن نحكي، وحصرًا، عن نزع الـمَثْلَجة(2) démythologisation، مع كونه معلومًا تمامًا أنّ ما فُقِدَ فهو المعرفة الزائفة، اللوغوس الزائف في الأسطورة، كما نراه مُعبَّرًا عنه، مثلًا، في الوظيفة الإتيولوجيّة(3) للأسطورة. لكن عندما نخسر الأسطورة بما هي لوغوس مباشر، فإنّا نعيد اكتشافها بما هي أسطورة. وفقط من خلال طريق التفسير والفهم الفلسفيّ، وهو طريق ملتوٍ، تستطيع الأسطورة أن تخلق تحوُّلًا فجائيًّا(4) peripeteia جديدًا في اللوغوس.
إنّ هذا الغزو للأسطورة كأسطورة ليس سوى جانب من جوانب الاعتراف بالرموز، وقدرتها على الكشف. أن نفهمَ الأسطورة كأسطورة يعني أن نفهم ما تضيفه الأسطورة مع زمانها، ومكانها، وأحداثها، وشخصيّاتها، والدراما الخاصّة بها إلى الوظيفة الكَشفيّة للرموز الأوّليّة المستنبَطة أعلاه.
ومن دون الادّعاء أنّنا هنا نقدّم نظريّةً عامّةً في الرموز والأساطير، وبالتالي نحدّ أنفسنا، طوعًا وعلى نحو ممنهج، بتلك المجموعة من الرموز الأوّليّة المعنيّة بالشرّ الإنسانيّ، فإنّنا نستطيع أن نستعرض، فيما يلي من المسائل، نظريّتنا التي نشتغل على أساسها، والتي ستُوظَّف في كلّ مسار تحليلنا، وتُختبر من خلال الممارسة:
1) إنّ أوّل وظائف أساطير الشرّ هي احتضان الإنسانيّة ككلّ في تاريخ مثاليّ واحد. ومن خلال زمان يمثّل كلّ الأزمنة، يتجلّى “الإنسان” ككلّيّ ملموس؛ آدم، هنا، يدلّ على الإنسان. في آدم، يقول القدّيس بولس، خطينا أجمعين. وبذا يتفلّت الاختبار من خصوصيّته وتفرُّده؛ بل هو يتحوّل في “نموذجه الأصليّ archétype” الخاصّ به. ومن خلال صورة البطل، أو السلف، أو الجبّار le titan (نسبةً إلى الآلهة الجبابرة الذين حكموا اليونان في العصر الذهبيّ الأسطوريّ، وهم سابقون على الآلهة الأولمبيّة)، أو الإنسان الأوّل، أو النصف إل_ه demi-dieu (مثل جلجامش وهرقل)، نضع الاختبار على سكّة البنى الوجوديّة: يستطيع المرء، الآن، أن يقول الإنسان، الوجود، الكائن، لأنّه في الأسطورة يُجمَلُ النوعُ الإنسانيّ ويُختَصر.
2) إنّ كلّيّة الإنسان، كما تتجلّى في الأساطير، تستقي طابعها الملموس من الحركة التي تدخُلُ الاختبارَ الإنسانيّ من خلال السرد narration؛ ومن خلال حكاية بداية المعصية faute ونهايتها، تمنح الأسطورةُ الخبرةَ توجُّهًا، وطابعًا، وتوتُّرًا. لا تُختَزَلُ الخبرة بعد ذلك إلى خبرة حاضرة؛ فهذا الحاضر لم يكن سوى مقطع مُستعرَض coupe instantanée من تطوُّر يمتدّ من الأصل إلى الاستيفاء accomplissement، من “التكوين Genèse” إلى “الرؤيا Apocalypse”. وبفضل الأسطورة، يجتازُ الخبرةَ التاريخُ الجوهريّ، تاريخ العذاب والخلاص الإنسانيّين.
3) على نحو أكثر تأسيسيّةً، تحاول الأسطورة أن تصل إلى لغز الخبرة الإنسانيّة، أي التناشز discordance بين الحقيقة الأساسيّة حالة البراءة؛ وضع المخلوق؛ الكائن الجوهريّ ووضعيّة الإنسان الفعليّة، كـ مدنّس؛ كخاطئ؛ كمذنب. تفسّر الأسطورة هذه النقلة باللجوء إلى السرد. أمّا أنّه سردٌ، فبالتحديد لغياب كلّ استدلال déduction، وكلّ نقلة منطقيّة بين حقيقة الإنسان الأساسيّة وبين وجوده الحاضر، بين وضعه الأنطولوجيّ ككائن خُلِقَ خيِّرًا، مُقدَّرًا للسعادة، ووضعه الوجوديّ، أو التاريخيّ، المختَبَر تحت عنوان الاغتراب aliénation. إذًا، للأسطورة مُرتكزٌ أنطولوجيّ: فهي تشير إلى العلاقة بعبارة أخرى، إلى القفزة والمرور، إلى الفتق والرتق بين كينونة الإنسان الجوهريّة ووجوده التاريخيّ.
بكلِّ هذه الأنحاء، تجعل الأسطورةُ خبرةَ المعصية محورًا لكلّ؛ محورًا لعالم: عالم المعصية.
قد يستطيع المرء أن يعرف كم بتنا بعيدين عن تأويلٍ محض مجازيّ للأسطورة. فالمجاز يمكن دائمًا ترجمته إلى نصٍّ يمكن فهمُهُ بذاته؛ ومتى ما توافر هذا النصّ الأفضل، يسقط المجاز هذا كدثار غير ذي غناء؛ فما أظهره المجاز، في عين إخفائه له، يمكن قوله الآن في خطاب مباشر يغنينا عن المجاز نفسه. ومن خلال وظيفتها ثلاثيّة الأضلاع الكلّيّة الملموسة، والتوجيه الزمانيّ، والاستكشاف الأنطولوجيّ تتحلّى الأسطورة بطريقة لكشف الأشياء التي لا تُختَزَلُ إلى أيّ ترجمة من أيّ لغة رمزيّة مُشفّرة إلى لغة واضحة. وكما أظهر شِلِنغ Schelling، في كتابه فلسفة الميثولوجيا philosophie de la mythologie، فإنّ الأسطورة متجانسة ومباشرة؛ هي تعني ما تقول(5).
ومن الضروريّ، بالتالي، لفهمٍ نقديّ للأسطورة، أن نحترم لااختزاليَّتَها إلى مجاز.
[...]
4. التبرير ورموز آخر الزمان(6)
لقد نفذنا إلى غابة المعاني التي قد خلقها الرمز الآدميّ. والأوان قد آن لنسترجع لهذا الرمز حركيّته: إنّه رمزٌ للبداية، وقد تبنّاه الكاتب التوراتيّ، الذي نُطلقُ عليه اسم “اليهويّ(7) le Yahwiste”، مع وعينا الحادّ بأنّه رمزٌ استعاديّ rétrospective، مرتبطٌ بوثاقة بكلّ التجربة التاريخيّة المتوجّهة إلى المستقبل. لسنا معنيّين هاهنا بإعادة بناء كلّ لاهوت التاريخ القابع عند أسس تلك التجربّة. بل نحن معنيّون بإيجاد حلٍّ لمشكلة محدّدة هي التالية: هل هناك، في تلك التجربة، وفي لاهوت التاريخ ذاك، رموزٌ للنهاية تضاهي رمزيّات البداية كما طُوِّرت في الأسطورة الآدميّة؟ من هنا، فإنّ المشكلة، قيد الطرح، هي مشكلةُ وفاق رمزٍ مع رمز؛ ما هو في معرض الخطر، هنا، هو تماسك “النوع” الذي يُشكّل له الرمزُ الآدميُّ الرمزَ الاستعاديّ النهائيّ. بكلام آخر، نحن إنّما نسعى إلى استكشاف ذاك الذي يوازي، في النوع التوراتيّ، إعادةَ تشريع “شعائريّة ـ طقوسيّة” (كما ويوازي صورة الملك le Roi المتعلّقة بها) في دراما “النوع” الكونيّة، أو ذاك الذي يتناظر مع المشهد، ومع الانفعال، ومع الحكمة في التراجيديا، أو، ثانيةً، ذاك الذي يتناظر مع أوذيسة النفس في الأسطورة الأورفيوسيّة. لسوف نحاول الإجابة عن هذا السؤال في حدود مبحثنا المعنيّ بالرموز.
وإذ نُتمُّ معنى الرمزيّة الآدميّة بوضعها في الكلّ الزمنيّ الذي انتزعناها منه، فسوف نجد مجدّدًا، في مرتبة ثانية، رمزيّةَ “المغفرة pardon” التي بدأنا باختطاتها في القسم الأوّل. سوف لن ننسى أنّ مفهوم “المغفرة” قد أطلَقَ تاريخًا موازيًا للتاريخ الذي أدّى من الدنس إلى الخطيئة فالمعصية. وقد اختططنا مسار تاريخ المغفرة المثاليّ بحسب موضوعات الاطِّهار(Cool purification، والرحمة (hesed)، والتبرير(9) justification. الآن، يستقرّ ذلك التاريخ على رمزيّة أوّليّة: أن نغسل أو نزيل، أن نفكّ، أن نحرّر، أن نستردّ، وما إلى ذلك؛ لكن، رغم أنّنا كنّا قادرين على تصوّر غنى رمز “الخروج exodus” من مصر دون الاستعانة بأيّ مصادر، ما خلا إعادة التأويل اللاهوتيّ للماضي التاريخيّ لإسرائيل، فإنّ استنباط رمز التبرير لم يكن متيسّرًا لافتقارنا إلى شرحٍ لنظام الصور المرتبطة بنهاية الزمان. بالتالي، فإنّنا سنربط رمزيّة التبرير بالرمزيّة الأخيريّة ـ أو المَعَاديّة(10) (الإسكاتولوجيّة). ومن خلال هذه الرمزيّة الثانية، ستستمرّ تجربة المغفرة الحيّة بالتكشُّف أمامنا؛ وبمرورها في الخيال المِتافيزيقيّ، ستغتني (التجربة) بالمعنى الذي لا نستطيع أن نعبّر عنه بلغة الاختبار الدينيّ المباشرة. وعلى هذا المسار الطويل من تأويليّة الرموز، تحضر الخبرة على ضوء الخطاب.
أمّا الرموز الطاغية في المعاديّة فهي رموز “ابن الإنسان” و”آدم الثاني” (لن نثير، الآن، مسألة تماهي هذين الرمزين)؛ إنّها رموز ملفتة بالفعل. فهي تجيب، حرفًا بحرف، على مسألة الرمز الآدميّ، وتسمح لنا، بضربة واحدة، أن نستجليَ الانسجام المتبادل بين رموز السقطة la chute التي حصلت في البداية، ورموز الخلاص التي ستأتي في نهاية الزمان.
إلّا أنّه من الصعوبة بمكان أن يجعل المرء نفسه في محضر هذه الرمزيّة دفعةً واحدة. إذ قد يُعترض، وعن حقّ، أنّها لا تنتمي إلى مستوى الرمز الآدميّ. فهي قد برزت إلى الوجود الكتبيّ (أي ظهرت في النصّ) في مراحل لاحقة، مع اليهوديّة المتأخّرة، واليهوديّة الباطنيّة (في أسفار دانيال، وعزرا الرابع، وكتاب إنوخ الأثيوبيّ)، وفي الأناجيل (الأربعة)، وفي الرسائل البولسيّة. علينا أن نموضع أنفسنا، إذًا، عند مستوى الرمز الآدميّ، فنبدأ بالتجاوب مع تلك الأسطورة في نفس الوسط الثقافيّ، ومن ثمّ نحاول أن نلاحق الاغتناء التصاعديّ للأشخاص والصور التي تنسجم، منذ البداية، وصورة آدم، كي تستحوذ على رمزَي ابن الإنسان وآدم الثاني.
بطبيعة الحال، ليس التاريخ الكتبيّ لتلك الشخصيّات أو الصور هو ما يعنينا، بل العلاقة الفينومينولوجية بينها خلال ذلك التاريخ.
ويتبيّن هذا التوتُّر نحو المستقبل، عند المحرِّر اليهويّ (الذي لا يعرف شيئًا عن “آدم الثاني”)، في حدث ينتمي إلى ما قبل التاريخ (ما قبل المدوّنات) Urgeschichte، بل هو حدثٌ يضع حدًّا، بمعنًى ما، لما قبل التاريخ. إذ به يُفتتح تاريخ الخلاص(11) Heilsgeschichte. هذا الحدث هو نداء إبراهيم (12):
«وقال الربّ لأبرام اذهب من أرضك، ومن عشيرتك، ومن بيت أبيك، إلى الأرض التي أريك.
فأجعلك أمّةً عظيمةً، وأباركك، وأعظّم اسمك، وتكون بركةً.
وأبارك مباركيك، ولاعنُك ألعنه. وتتبارك فيك جميع قبائل الأرض».(سفر التكوين 12: 1-3)
قد تكون صورة إبراهيم الجوابَ الأوّل على صورة آدم(13). وبالطبع، فإنّ أهمّيّتها اللاهوتيّة هي ممّا قد عولج بإسهاب:
«فآمن (إبراهيم) بالربّ، فحَسِبَهُ له بِرًّا».(سفر التكوين 15: 6)
بالتالي، فإنّ الإسرائيليّ عندما يتأمّل في ماضيه، فإنّه يجد إشارة أمل؛ وحتّى قبل أيّ معاديّة، فإنّه يمثّل، لنفسه، تاريخ “آبائه” على أنّه تاريخٌ يوجِّهُهُ “وعدٌ”، ويتحرّك نحو “استيفاء”. ولا ريب، فإنّ هذا الأمل منوطٌ بالأرض والدم: سوف أعطيك أرضًا، أرضًا موعودةً، وسيكون نسلك كتراب الأرض، حتّى إذا استطاع أحدٌ أن يعدّ تراب الأرض، فنسلكَ أيضًا يعدّ(راجع سفر التكوين 13: 15ـ16)؛ لكن، على الأقلّ، تُقدّم الحركة، من الوعد إلى الاستيفاء، المفتاحَ الذي يجعل ممكنًا تنظيمَ كلّ الأخبار المتناثرة المتعلِّقة بإبراهيم ويعقوب ويوسف.
ما يعنينا هنا هو أنّ هذا المشروع التاريخيّ مشحونٌ بالمعنى بما يقوّي سلسلةً من الإبدالات transpositions التي قد توصلنا، خطوةً بخطوة، إلى الصور المعاديّة.
يدخل الإبدال حيّز التنفيذ، أوّلًا، في التاريخ المتوارث نفسه، ومن ثمّ، في الاستعادة: الوفاء بالوعد الذي يبدو، في بادئ الأمر، في متناول اليد «لأنّ جميع الأرض التي ترى، لك أعطيها، ولنسلك إلى الأبد [...] قم امش في الأرض، طولها وعرضها، لأنّي لك أعطيها»(سفر التكوين 13: 15ـ17)، لا يفتأ في طور التأجيل المستمرّ. في هذه الأثناء، يحصل الوحي في سيناء، ومعرفة الشريعة، وبناء الطقوس، والتجربة في البرّيّة. إنّ غنى هذه الفترة الفاصلة هو بحيث تُغيّر النهايةُ نفسُها معناها(14).
لقد كان المأزقُ التاريخيّ، الطريقُ التاريخيُّ المسدود، هو ما ينبغي له أن يطبع الوعد بطابع معاديّ على نحو حاسم. فلم يُستهلك معنى الوعد الذي كان لـ إبراهيم ـ «وأبارك مباركيك ولاعنك ألعنه. وتتبارك فيك جميع قبائل الأرض»(تكوين 12:3) ـ في غزو يوشع لكنعان؛ بل ما زالت أطيافٌ من المعنى، كانت مخبوءةً تحت الرغبات الجسديّة، رغبات الأرض والولد، تنبثق إذ يُحرَجُ الوضع السياسيّ، لتكفّ إسرائيل عن الوجود بما هي دولة مستقلّة. ثمّ إنّ النظرة التي تترقّب، لم تعد نظرةً تؤوّل الماضي فحسب؛ إنّ العينَ المفعمة بالأمل هي العينُ التي تُشيح النظر عن ما قبل التاريخ Urgeschichte، وترى معنى الخلاص آزفًا من المستقبل إلى الحاضر.
من الآن فصاعدًا، سيُعبِّرُ “الوعدُ” عن توتّره بصُوَرٍ للنهايةِ أسطوريّةٍ؛ وستأتينا تلك الصور، والشخصيّات التي ستتكرّس فيها، بإجابات صادقة على صور البداية وشخصيّاتها. هذا، وقد تقدّم منّا جان هيرينغ(15) J. Héring، منذ عهد قريب، بأن نُعرِّف “المعاديّة” بأنّها «مجموع الأفكار التي تُعبّر عن الآمال الدينيّة فيما خصّ مجيءَ عالمٍ يُنظر إليه كمثاليّ، وعادةً ما يُنظَرُ إلى ذلك العالم على أنّه مسبوقٌ بـ’دينونة Jugement‘ (ما يفرض دمار العالم الحاليّ، أو دمار القوى الطاغية فيه)»(16). وبالفعل، هذا ما سيكون موضوع تأمُّلنا من الآن فصاعدًا: العلاقة الوثيقة بين التمثُّلات المعاديّة للعالم اليهوديّ ـ المسيحيّ، وتلك التي تخصّ ما قبل التاريخ.
وإذ كانت الرؤية الشعائريّة ـ الطقوسيّة للحياة منسجمةً مع دراما الخلق، وإذ تتساوقُ مشهديّةُ الارتعاب والإشفاق مع إل_ه التراجيديا الخبيث(17)، وإذ أوذيسةُ(18) النفس هي الإجابة على شرور الوجود الجسمانيّ، فإنّ من الممكن أن نُظهر أنّ تمثُّلات الإنسان الآتي المعاديّة تتساوق وسقطة الإنسان الأوّل.
ليس ثمّة من بيانٍ أفضل، للشرخ بين النوع “الشعائريّ ـ الطقوسيّ” والنوع “المعاديّ”، من بيان التطوُّر الذي خضعت له صورة الملك: إنّ الملكيّة التي أسِّست “في تلك الأزمنة” صارت، شيئًا فشيئًا، “المملكة الآتية”، وذلك مع تقدُّم النوع المعاديّ ليحوز تمامًا على الصور التي خلَّفها النوع الشعائريّ-الطقوسيّ. وقد سبق وتحدّثنا عن هذا الانقلاب في هيكل النوع “الشعائريّ ـ الطقوسيّ”، وقد عالجنا تطوّر شخصيّة الملك من وجهة نظر تفكيك الأيديولوجيّة السابقة. نستطيع، الآن، أن نعي أكثر الديناميّةَ الجديدة التي تحمل تلك الصور القديمة معها إلى أفق جديد. فالملك (صورة الملك)، المسيح(19)، المثقل بالآمال السياسيّة والأرضيّة في الأقوال(20) les oracles المنهمكة بدوام نسل داود (مثلًا، 2 سفر صموئيل، 7: 12ـ16)، يبدأ باكتساء الطابع المعاديّ “l’eschatologisation” في أسفار إرميا 23: 1ـ8، وحَزقِيّال 34: 23 وما بعدها، و37: 20 وما بعدها، وقبل كلّ شيء، في سفر أشعيا 9: 1ـ6 (وهذا ما لم يمنع الصورة (صورة الملك) من أن تصير “سياسيّةً” أكثر فأكثر في عصر النفوذ اليونانيّ، في حين ظلّت تاريخيّةً كما نرى في مزامير سليمان).
تستحقّ كلمات أشعيا الجميلة أن نوردها:
الشعب السالك في الظلمة أبصر نورًا عظيمًا.
الجالسون في أرض ظلال الموت أشرق عليهم نور.[...]
لأنّه يولد لنا ولدٌ، ونُعطى ابنًا، وتكون الرياسة على كتفه، ويُدعى اسمه عجيبًا مشيرًا إلهًا قديرًا أبًا أبديًّا رئيس السلام.
لنموّ رياسته وللسلام لا نهاية على كرسيّ داود وعلى مملكته ليثبتها ويعضدها بالحقّ والبرّ من الآن إلى الأبد.
غيرة الأب ربّ الجنود تصنع هذا.(أشعيا 9: 2، 6ـ7)
ليس الملك، أو الراعي، أو ابن داود، في هذا النصّ، كما وفي النصوص السابقة، شخصيّةً غامضةً “آتية من السماوات”. فمثلُها ليس، بحال، كمَثَلِ ابن الإنسان في المعاديّات اللاحقة؛ إذ معاديّ لا تعنى متجاوز transcendent، سماويّ، بل هي تعنى نهائيّ. الأصل، هنا، أنّ صورةَ كونٍ متصالح تصَحَبُ صورة المُلك الآتي Règne à venir لا تعبّر، بتاتًا، عن أسفٍ على عصر ذهبيّ ضائع، بل عن ترقُّبٍ لاكتمالٍ لم يُرَ له، من قبل، نظير.
وفي حين تكتسي صورة (شخصيّة) المشيح(21) الطابع المعاديّ، تبدأ صورٌ (شخصيّات) أخرى، مهمّة تاريخيًّا، بالظهور. اثنتان منها تستحقّان التقديم هنا: صورة “عبد يهوه” وصورة “ابن الإنسان”. إذ فيهما تبرز الصبغة المعاديّة بشكل كبير. ويحتفي سفر أشعيا الثاني بالعبد الحزين في أربعة “مزامير” مُحيّرة (42: 1ـ9؛ 49: 1ـ6؛ 50: 1ـ11؛ 52: 13 إلى 53: 12)(22). وهذا الموضوع، في علاقته بأيديولوجيا الملك، وفي كثير من خصائصه، فيه شيءٌ من الجِدة؛ فلا بدّ، تاليًا، من أذُن جديدة لتفهم نشيد العبد الحزين الذي يهب نفسه لإبراء الخطايا: «لكنّ أحزاننا حملها، وأوجاعنا تحمّلها [...] وهو مجروح ٌلأجل معاصينا، مسحوقٌ لأجل آثامنا»(أشعيا، 53: 3ـ4)؛ لا نستطيع، بعد اليوم، أن نتوسّل أيديولوجيا الملك لنفهم دور التلميذ disciple، أو دور الحكيم الملهَم، المظهر البائس، والصبر المطلق، وإذعان عبد يهوه للشرّير. صحيحٌ أنّ هذه الصورة ليست غنيّةً، بالمعنى المعاديّ؛ ومع هذا يُقال، إنّ “عبد الطغاة هذا” هو من «يرُدُّ محفوظي إسرائيل»(أشعيا 49: 6)، ويكون «نورًا للأمم، لتكون (ويكون) خلاصي إلى أقصى الأرض»(أشعيا 49: 6). ومن المفيد أن نلفت، هنا، إلى أنّ هذا النشيد “يتكلّم”، من دون أن تكون لنا قدرة على أنّ نقول من هو عبد يهوه هذا، أو إن كان شعبًا مأخوذًا في جسد، “بقيّةً” لـ (إسرائيل)، أو فردًا استثنائيًّا.
ومع ذلك، وبالرغم من هذا اللغز ـ أو بفضل هذا اللغز ـ، لا نستغني عن صورة عبد يهوه للوصول إلى فكرة “المغفرة”، وقد أرجأنا النظرَ فيها لرفضنا طريق علم النفس الدينيّ المختصرة، لحساب طريق الصور الرمزيّة، وإن كانت أطول. وإنّه لمن خلال هذه الشخص الملغز، الذي يستعيض بآلامه عن خطايانا، يُعلَنُ عن المغفرة. فالمغفرة لا تبرز هنا كتحوّل داخليّ بالكلّيّة، أو حتّى سيكولوجيّ، أو أخلاقيّ، بل هي تبرز كعلاقة بين ـ شخصيّة مع تلك الشخصيّة الخالدة (الفرديّة أو الجمعيّة)؛ وتقوم هذه العلاقة البين ـ شخصيّة على تبادُليّةِ réciprocité هِبةٍ (“عوض”، “خطايانا”) وقبولٍ «ونحن حسبناه مصابًا، مضروبًا من الله، ومذلولًا»(أشعيا 53: 4)؛ وتفترض هذه العلاقة أنّ الألم الاستعاضيّ substitutive ليس مجرّد نقلٍ للدَّنَس إلى موضوع منفعل (ليس بفاعل) من مثل كبش الفداء، ولا هو قَدَرٌ لا مناص منه لنبيّ منبوذ غير مُقدَّر حقّ قدره(23)، بل هو “الهبةُ” الطوعيّةُ لألم أخَذَهُ على عاتقه، وقدّمه إلى غيره: «(بل) هو مجروحٌ لأجل معاصينا، مسحوقٌ لأجل آثامنا»(أشعيا 53: 5). «أنْ جَعَلَ نفسَهُ ذبيحةَ إثم، يرى نسلًا تطولُ أيّامه، ومسرّةُ الربّ بيده تنجح. مِن تَعَبِ نفسه يرى ويشبع، وعبدي البارّ بمعرفته يبرّر كثيرين، وآثامَهُم هو يحملها»(أشعيا 53: 10ـ11). والتكفير expiation من خلال الألم الطوعيّ، مهما كان عبد يهوه غامضًا، هو مفتاحٌ جوهريّ لفكرة المغفرة؛ ولسوف تنتقل هذه الفكرة عبر كلّ الوساطات المتعاقبة التي طوّرتها الصور الأخرى(24).
الصورة الأخرى، الأخرى جذريًّا، هو الشخص الرؤيويّ apocalyptique المشار إليه في سفر دانيال (7: 13)، وفي الجلّيّات apocalypses الواردة في الأسفار غير القانونيّة(25) extra-canoniques (سفر عزرا، وسفر أخنوخ الحبشيّ). «كنت أرى في رؤى الليل، وإذا، مع سُحُب السماء، مثل ابن الإنسان أتى، وجاء إلى القديمِ الأيّام فقرّبوه قدّامه. فأعطي سلطانًا، ومجدًا، وملكوتًا، لتتعبّد له كلّ الشعوب، والأمم، والألسنة. سلطانه سلطان أبديّ ما لن يزول، وملكوته لا ينقرض»(دانيال 7: 13ـ14). وبحسب التفسير اللاحق، الذي قدّمه الرؤيويّ (الآية 15، وما بعدها)، فإنّ “ابن الإنسان” يمثّل “قدّيسِي العَليّ”
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://philo.forumarabia.com
كمال صدقي
مدير المنتدى
كمال صدقي


ذكر
عدد الرسائل : 2399
العمر : 68
البلد : أفورار
العمل : متقاعد مُهتم بالدرس الفلسفي
تاريخ التسجيل : 20/12/2007

لماذا لا نفكر فلسفياً ؟ Empty
مُساهمةموضوع: رد: لماذا لا نفكر فلسفياً ؟   لماذا لا نفكر فلسفياً ؟ Clock10السبت سبتمبر 20, 2014 10:06 pm


مفهوم «الاختلاف» في القرآن
من الطبيعي إلى الثقافي
رمضان بن رمضان
I. من الدلالة المعجميّة إلى الاستعمال القرآني
جذر كلمة “إختلاف” التي هي مصدر من فعل اختلف (خ، ل، ف) وقد ورد لهذا الجذر من الكلمات صيغ متعدّدة وذات معان مختلفة، فيقال اختلفت الرجل أخذته من خلفه واختلفه جعله خلفه، ويقال أيضاًً أخلف الرّجل جعله خلفه أي ردّه إلى خلفه أي وراءه أو وراء ظهره. وقال ابن سكيت(1): ألححت على فلان في الإتباع حتى اختلفته أي جعلته خلفي اي تجاوزته. ومما تشي به هذه المعاني أن الاختلاف حركة فيها تجاوز لوضعيّة سابقة نحو وضعيّة جديدة فهي حراك مفض إلى وضع آخر مختلف.
والخلف للأشرار من الناس، جاء في القرآن:
﴿فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة﴾ [مريم:59]، والخلف للأخيار من الناس قرناً كان أو ولداً ومنهم من اعتبر الخلف يكون في الخير والشرّ(2).
ويقال قعد خلاف أصحابه أي لم يخرج معهم وخلف عن أصحابه كذلك والخلاف: المخالفة والخلاف المضادة وقد خالفه مخالفة وخلافاً. وخالفه إلى الشيء عصاه إليه أو قصده بعد ما نهاه عنه وهو من ذلك وفي التنزيل ﴿وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه﴾[هود:88]. في صيغة فاعل خالف يتخذ المعنى شكل التفاعل بين رأيين وبين سلوكين متضادّين وهذا التفاعل قد يقضي إلى وضع جديد. توافقي كما يمكن ألا يقضي إلى أي شيء. وتخالف الأمران واختلفا: لم يتفقا وكل ما لم يتساو، فقد تخالف واختلف. جاء في القرآن: ﴿والنخل والزرع مختلفا أكله﴾[الأنعام:141].
كما أنّ للجذر مشتقات ذات معنى تهجيني سلبي مثل الخلف والخالف والخالفة وتعني الفاسد من الناس والهاء للمبالغة، جاء في القرآن ﴿رضوا بأن يكونوا مع الخوالف﴾[التوبة:78].
فعل اختلف على وزن افتعل. وفعل تخالف على وزن تفاعل كلاهما مزيد بحرفين ويشتركان في نفس المعنى وهو تشارك شخصين أو أكثر في الخلاف، أي المشاركة ويشترط في فاعل الفعل الذي على وزن تفاعل وافتعل، والذي يدلّ على المشاركة أن يكون متعدّدا أي متكوّنا من اثنين فأكثر.
إن الفعل الأكثر تواتراً في القرآن هو فعل اختلف وقد ورد في صيغ متعدّدة: في الماضي مفرداً وجمعاً، جاء في القرآن: ﴿وما اختلف فيه إلاّ الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البيّنات بغيا بينهم﴾[البقرة:213]. وكذلك ﴿وما كان الناس إلاّ أمّة واحدة فاختلفوا﴾[يونس:19]. في المضارع مع المخاطب الجمع، ﴿ثمّ إلى مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون﴾[آل عمران:55]. ومع الغائب الجمع، ﴿فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيها كانوا فيه يختلفون﴾[البقرة:113]. كذلك استعمل الفعل في صيغة المبنى للمجهول مرّة واحدة ﴿ولقد أتينا موسى الكتاب فاخْتُلف فيه﴾[هود:110].
كذلك ورد في القرآن مشتقان اثنان؛ هما المصدر: إما معرّفا بالإضافة كـ ﴿إنّ في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها﴾[البقرة:164].
وإما مصدرا نكرة موصوفة كـ ﴿ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراًً﴾[النساء:82]. أمّا المشتق الثاني فهو اسم الفاعل وقد ورد مفرداً كـ ﴿يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس﴾[النحل :69]. وجمعاً كـ ﴿عمّ يتساؤلون عن النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون﴾[النبآ:3].
لقد بلغ مجموع الآيات التي ورد فيها فعل اختلف في صيغة المتعدّدة ومشتقاته المتنوّعة اثنين وخمسين آية. منها ست وثلاثون آية مكيّة وست عشرة آية مدنيّة وقد توزعت على النحو التالي الأفعال التي وردت في صيغة الماضي: 17 آية، الأفعال التي وردت في صيغة المضارع: 16 آية، فعل في صيغة المبني للمجهول: آية واحدة، المصدر ورد في 7 آيات واسم الفاعل في عشر آيات(3).
وممّا يلاحظ في هذه الآيات جميعها أنّ “الاختلاف” سواء ورد فعلاً أو مصدراً أو اسم فاعل، قد اتصل بمجالين اثنين هما: مجال الطبيعة ومجال الإنسان. أمّا الأفعال فكلّها اتصلت بالإنسان، فمنها ما يتوجه إلى الناس عامة مثل ﴿وما كان النّاس إلاّ أمة واحدة فاختلفوا﴾[يونس:19] ومنها ما يتوجه إلى المؤمنين مثل ﴿قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه﴾[الزخرف:63]. وقد نزلت في عيسى الذي بعث ليبيّن لليهود ما اختلفوا فيه ممّا يعنيهم من أمر دينهم.
أمّا المصدر واسم الفاعل فقد تناولا المجالين الطبيعي والإنساني. جاء في القرآن: ﴿ألم تر أنّ الله أنزل السماء ماءا فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها﴾[فاطر:27]. ثمّ ﴿ولو شاء ربّك لجعل الناس أمة واحدة ولايزالون مختلفين﴾[هود:118].
II. “الاختلاف” مظهر من مظاهر الطبيعة
إنّ الآيات التي تناولت “الاختلاف” كظاهرة من ظواهر الطبيعة شملت الليل والنهار والجبال والدواب والأنعام والزرع والثمار والناس بألسنتهم وألوانهم بلغ عددها خمس عشرة آية منها آيتان مدنيتان والبقية آيات مكيّة(4)، ولهذا دلالته العميقة في مستوى التبشير بالدين الجديد وترسيخ فكرة التعالي المطلق ووحدانية الله، وذلك من خلال بناء عقيدة جديدة قوامها التدليل على قدرة الله على الخلق والإيجاد من عدم، فتكون عمليّة استبطان فكرة “الاختلاف” في عقيدة المؤمن كمظهر جلّي من مظاهر الطبيعة منبثق عن أصل واحد مدعاة للمؤمن خاصة وللإنسان عامة للتفكرّ والاعتبار بقدرة الله على الخلق. وسنحاول في هذا العنصر تدبّر بعض الآيات الدّالة على ذلك.
جاء في القرآن: ﴿وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمّان متشابها وغير متشابه﴾[الأنعام (مكيّة):141].
لقد أورد الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور في تفسيره أن المقصود من الآية هو الاستدلال على أنه الصانع وأنه المنفرد بالخلق فكيف يشركون به غيره(5). فمختلفا أكله هي حال من الزرع عامة وأن النخل والجنات كذلك يصيبها هذا الاختلاف والمقصود التذكير بعجيب خلق الله وهي عام الاختلاف في الطبيعة.
جاء في القرآن: ﴿ألم تر أنّ الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها﴾[فاطر (مكيّة):27]. هذه الآية استئناف فيه إيضاح ما سبقه من اختلاف أحوال الناس في قبول الهدى ورفضه بسبب ما تهيّأت خلقة النفوس إليه ليظهر به أنّ الاختلاف بين أفراد الأصناف والأنواع ناموس جُبليّ فطر الله عليه مخلوقات هذا العالم الأرضي. والمقصود من الاعتبار حسب صاحب التحرير والتنوير هو اختلاف ألوان الأصناف من النوع الواحد كاختلاف ألوان التمور والزيتون والأعناب والتفاح والرمّان(6). وذِكرُ إنزالِ الماء من السماء إدماجٌ في الغرض للاعتبار بقدرة الله مع ما فيه من اتحاد أصل نشأة الأصناف والأنواع. وقدّم الاعتبار باختلاف أحوال الثمرات لأن في اختلافها سعة تشبه اختلاف الناس في المنافع والمدارك والعقائد(7). وهذا مهم لأنه تلميح لطيف لما سنأتي عليه لاحقا وهو الاختلاف في المجال الإنساني.
جاء في القرآن تتمة لنفس الآية والآية التي تليها من نفس السورة: ﴿ومن الجبال جددٌ بيضٌ وحمرٌ مختلفٌ ألوانُها وغرابيبُ سودٌ، ومن الناس والدّواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك، إنّما يخشى الله من عباده العلماء. إن الله عزيز غفور﴾.
واختلاف ألوان الناس منه اختلاف عام وهو ألوان أصناف البشر وهي الأبيض والأصفر والأحمر والأسود حسب الاصطلاح الجغرافي وجيّ في جملة «ومن الجبال جدد…ومن الناس والدّواب والأنعام مختلف ألوانه». بالإسمية دون الفعليّة كما في الجملة السابقة لأن اختلاف ألوان الجبال والحيوان والإنسان الدّال على اختلاف أحوال الإيجاد اختلاف دائم لا يتغيّر وإنما يحصل مرّة واحدة عند الخلق وتولّد النسل(Cool.
﴿كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء﴾.
كذلك: اعتبرها الزمخشري في الكشاف، أي كاختلاف الثمرات والجبال والناس والدوّاب والأنعام. والمراد العلماء به الذين علموه سبحانه بصفاته وعدله وتوحيده وما يجوز عليه وما لا يجوز فعظمّوه وقدروه حقّ قدره وخشوه حقّ خشيته ومن ازداد به علما ازداد منه خوفاً(9). إلاّ أن الشيخ ابن عاشور يرى في لفظة “كذلك” ابتداء كلام يتنزّل منزلة الإخبار بالنتيجة عقب ذكر الدليل فالدعوة إلى الاعتبار والتمعن في إدراك المختلف الذي يملأ الكون طبيعة وحيواناً وإنساناً يؤدّي إلى خشية الله. كذلك أمر الاختلاف في ظواهر الأشياء توطئة لما يرد من تفصيل الاستنتاج بقول: ﴿إنما يخشى الله من عباده العلماء﴾، وهي جملة مستأنفة عن جملة “كذلك” أي إنما يخشى الله من البشر المختلفة ألوانهم العلماء منهم وإذا علم ذلك دلّ الالتزام على أنّ غير العلماء لا تتأتّى منهم خشيّة الله فدلّ على أنّ البشر في أحوال قلوبهم ومداركم مختلفون(10).
ونحن نرى في تلازم الآيتين آية الاختلاف وآية الخشيّة، دلالة ومغزى فوعي العلماء بالاختلاف واكتناههم له هو الذي ممّا يحدد مدى خشيّتهم لله، أي حجم إدراكهم للعلّة من وجود الاختلاف وكيفية توظيف ذلك في الحياة الدنيا والاستفادة منه.ألم يقل أبو حنيفة النعمان(80هـ699م/150هـ767م): أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس.
إنّ العلماء في مراتب الخشية متفاوتون وذلك يعود إلى مدى قدرتهم في إدراك سرّ الخلق والقوانين والسنن التي تتحكّم بالكون وتكون الإحاطة بالمختلف إحدى المداخل إلى ذلك.
جاء في القرآن: ﴿ومن آياته خلق السّماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم﴾[الروم (مكيّة):22].
هذه السورة من أواخر السور التي نزلت في الفترة المكيّة، وإنّ في إعادة طرحها لمسألة الاختلاف في هذا الموقع من المصحف ونحن على أبواب الفترة المدنيّة لمؤشر مهمّ على التوجه الذي ستتخذه مسألة الاختلاف في المجال الإنساني، فهذه الآية تؤسس لمسألة الاختلاف المتصل بالوجود الإنساني في الطبيعة (الألعام والألوان) في انتظار ما سيكون عليه الاختلاف في الفترة المدنيّة وهو اختلاف ذو طبيعة ثقافية بالأساس.
يقول الشيّخ محمد الطاهر بن عاشور في تفسير هذه الآية: وإذ قد كان أشرف ما على الأرض نوع الإنسان قرن ما في بعض أحواله من الآيات بما في خلق الأرض من الآيات وخصّ من أحواله المتخالفة لأنّها أشد عبرة لأن فيها اختلافاً بين الأشياء متحدّة في الماهية ولأن هاته الأحوال المختلفة لهذا النوع الواحد تجد أسباب اختلافها من آثار خلق السماوات والأرض فاختلاف الألعام سببه اختلاف الجهات المسكونة في الأرض، لذلك فالظاهر أنّ المقصود هو أية اختلاف اللغات والألوان وأنّ ما تقدمه من خلق السماوات والأرض تمهيد له وإيماء على انطواء أسباب الاختلاف في أسرار خلق السماوات والأرض(11).
واختلاف لغات البشر آية عظيمة فهم مع اتحادهم في النوع كان اختلاف لغاتهم آية دالة على ما كوّنه الله في غريزة البشر من اختلاف في التفكير وتنويع التصرّف في وضع اللغات وتبدّي كيفياتها باللهجات والتخفيف والحذف والزيادة بحيث تتغيّر الأحوال المتحدة إلى لغات كثيرة. وأمّا اختلاف ألوان البشر فهو أية أيضاًً لأن البشر منحدر من أصل واحد وهو آدم وله لون واحد فلّما تهدّد نسله، جاءت الألوان المختلفة في بشراتهم وذلك الاختلاف معلول لعدّة علل، أهمها المواطن المختلفة بالحرارة والبرودة ومنها التوالد من أبوين مختلفين… ومنها اختلاف الأغذية ولذلك لم يكن اختلاف ألوان البشر دليلا على اختلاف النوع بل هو نوع واحد(12).
أمّا الزمخشري فقد أورد في الكشاف، عند تفسيره لنفس الآية من سورة الروم أنّ الألعام اللغات أو أجناس النطق وأشكاله، خالف عزّ وجلّ وعلا بين هذه الأشياء حتّى لا تكاد تسمع منطقين متفقين في همس واحد ولا جهارة ولا حدّة ولا رخاوة ولا فصاحة ولا لكنة ولا نظم ولا أسلوب ولا غير ذلك من صفات النطق وأحواله وكذلك الصور وتخطيطها والألوان وتنويعها ولاختلاف ذلك وقع التعارف وإلاّ فلو اتفقت وتشاكلت وكانت ضرباً واحداً لوقع التجاهل والالتباس ولتعطلت مصالح كثيرة…
وتعرف حكمة الله في المخالفة وفي ذلك آية بيّنة حيث ولد الناس من أب واحد، وفرّعوا من أصل فذ وهم على الكثرة التي لا يعلمها إلاّ الله مختلفون متفاوتون(13).
III. الاختلاف في المجال الإنساني
لقد بلغ عدد الآيات التي تحدّثت عن الاختلاف في المجال الإنساني خمسا وثلاثين آية. منها اثنان وعشرون آية مكيّة وثلاث عشرة آية مدنيّة(14). فثلثا الآيات نزلت في العهد المكيّ. إبّان ترسيخ عقيدة التوحيد وهي جاءت متساوقة مع لفت القرآن نظر الناس عامة والمؤمنين خاصة للاختلاف الذي يملأ الوجود كدليل على قدرة الخالق. وكثيراًً ما يولي القرآن الجانب العقدي عناية خاصّة لأنه الأساس الذي سيبنى عليه نظرة المؤمن للكون والحياة وما بعد الحياة وكذلك سلوكه ومعاملاته. لذلك عملت هذه الآيات المكيّة على ترسيخ فكرة الاختلاف في المجال الإنساني لدى المؤمنين ولدى بقية الناس ودعت الجميع إلى استبطان تلك الفكرة والإقرار بها كشرط من شروط الاجتماع البشري.
أمّا الثلث المتبقي فقد نزل بالمدينة وهو إمّا تذكير بفكرة الاختلاف التي عمل القرآن على امتداد ثلاث عشرة عام على تأصيلها وإمّا للفت انتباه المؤمنين إلى أنّه آن الأوان ليكرس مفهوم الاختلاف في الواقع المعيش ـ المجتمع المدني ـ باعتبار أن الإسلام بعد الهجرة اتخذ أبعاداً جديدة، ومن المؤشرات على ذلك تغيير اسم دار الهجرة من يثرب إلى المدينة، وفي ذلك إشارة واضحة إلى أن المجتمع الجديد المراد تأسيسه سيكون مجتمعاً منفتحاً فيه اختلاف في الألعام والألوان والعقائد والأفكار.
لقد ورد الحديث عن الاختلاف في هذه الآيات جميعها باستعمال أفعال في صيغة الماضي أو المضارع(15)، ولهذا دلالته وذلك باعتبار أن الفعل في عرف اللغويين حدث مقترن بزمن فإدخال عامل الزمان عند الحديث عن الاختلاف يجعل الفعل محكوم بمشروطيته الزمانية والمكانية ويجرّده من إطلاقيته ويقحمه في النسبيّة إقحاماً.
سنحاول تدبّر بعض الآيات المتصلة بمبحث الاختلاف في المجال الإنساني: جاء في القرآن: ﴿ذلك بأنّ الله نزّل الكتاب بالحقّ وأن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد﴾[البقرة(مدنيّة):176].
يقول الشيخ ابن عاشور أن المحتمل أنّ المراد من الكتاب المجرور “في الكتاب” هو المراد من المنصوب في قوله (ما أنزل الله الكتاب) يعني التوراة والإنجيل أي اختلفوا في الذي يقرونه والذي يغيّرونه… ومن المحتمل أن يكون المراد بالذين اختلفوا في الكتاب ما يشمل المشركين وأن يكون الاختلاف هو اختلاف محاذيرهم عن القرآن إذ قالوا: سحر أو شعر أو كهانة أو أساطير الأوّلين(16).
أمّا الزمخشري فيرى أن ذلك العذاب بسبب أن الله نزل ما نزّل من الكتب بالحقّ. وإن الذين اختلفوا في كتب الله فقالوا في بعضها حقّ وفي بعضها باطل وهم أهل الكتاب “لفي شقاق” لفي خلاف “بعيد” عن الحقّ. والكتاب للجنس. أو كفرهم ذلك بسبب أنّ الله نزل القرآن بالحقّ كما يعلمون وأنّ الذين اختلفوا فيه من المشركين… يعني أنّ أولئك لو لم يختلفوا ولم يشاقوا لما جسر هؤلاء أن يكفروا(17).
جاء في القرآن: ﴿كان الناس أمّة واحدة فبعث الله النّبيين مبشّرين ومنذرين وأنزل معهم الكتّاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه﴾[البقرة (مدنية):213].
يقول صاحب التحرير والتنوير أن الآية هي استئناف لبيان أن اختلاف الأديان أمر كان في البشر لحكمة اقتضته وأنّه قد ارتفع ذلك ورجع الله بالناس إلى وحدة الدين بالإسلام. لقد أفادت الآية بيان حالة الأمم الماضية وكيف نشأ الخلاف بينهم في الحقّ ممّا لأجله تداركهم الله ببعثات الرسل في العصور والأجيال التي اقتضتها حكمة الله ولطفه ممّا يماثل الحالة التي نشأت فيها البعثة المحمدية وما لقيه الرسول والمسلمون من المشركين(18).
أمّا صاحب الكشاف فيرى أن الناس كانوا ﴿أمّة واحدة﴾ متفقيّن على دين الإسلام ﴿فبعث الله النبيين﴾ يريد: فاختلفوا، فبعث الله. وإنما حذف (اختلفوا) لدلالة قوله ﴿ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه﴾ عليه، وفي قراءة عبد الله ابن مسعود ﴿كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله﴾، والدليل عليه قوله عز وعلا ﴿وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا﴾[يونس:19] وقيل: كان الناس أمة واحدة كفاراً، فبعث الله النبيين، فاختلفوا عليهم. والأوّل الوجه. فإن قلت: متى كان الناس أمة واحدة متفقين على الحق؟ قلت : عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه كان بين آدم وبين نوح عشرة قرون على شريعة من الحق فاختلفوا. وقيل : هم نوح ومن كان معه في السفينة ﴿وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتاب﴾ يريد الجنس، أو مع كل واحد منهم كتابه ﴿لِيَحْكُمَ﴾ الله، أو الكتاب، أو النبيّ المنزل عليه ﴿فِيمَا اختلفوا فِيهِ﴾ في الحق ودين الإسلام الذي اختلفوا فيه بعد الاتفاق ﴿وَمَا اختلف فِيهِ﴾ في الحق ﴿إِلاَّ الذين أُوتُوهُ﴾ إلا الذين أوتوا الكتاب المنزل لإزالة الاختلاف، أي ازدادوا في الاختلاف لما أنزل عليهم الكتاب، وجعلوا نزول الكتاب سبباً في شدّة الاختلاف واستحكامه. وهنا يبرز الوجه الايجابي للاختلاف لأنه يكون مدعاة للتفكير وإعمال النظر ولكنه قد ينقلب أمرا سلبياً حين يكون الغرض منه الظلم. ﴿بغيا بينهم﴾ حسداً بينهم لحرصهم على الدّنيا وقلة إنصاف منهم(19).
جاء في القرآن: ﴿وما اختلف فيه إلاّ الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البيّنات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحقّ بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم﴾[البقرة (مدنيّة):213].
يقول الطاهر ابن عاشور أنّ الناس كانوا أمّة واحدة في الضلال والكفر فأحدث الله الاختلاف بينهم عبر إرسال الرسل مبشرين ومنذرين والاختلاف هنا عامل إيجابي لأنّه يرمي إلى توحيد الصفّ من جديد ولكن على أساس قواعد صلبة، جاءت الرسل بالهدى فاتبعهم من اتبعهم فاهتدى وأعرض من أعرض فبقي في ضلاله ثمّ أحدث أتباع الرسل بعدهم اختلافاً آخر وهو اختلاف كل قوم في نفس شريعتهم. والمعنى فيه تشنيع لحال الذين أوتوه بأن كانوا أسوأ حالاً من المختلفين في الحق قبل مجيء الشرائع لأنّ أولئك لهم بعض العذر بخلاف الذين اختلفوا بعد كون الكتاب بأيديهم. والمراد بالبيّنات هنا الدلائل التي من شأنها الصدّ عن الاختلاف في مقاصد الشريعة وهي النصوص التي لا تحتمل غير مدلولاتها ـ أعني قواطع الشريعة والظواهر المتعاضدة التي التحقت بالقواطع والظواهر التي لم يدع داع إلى تأويلها ولا عارضها معارض(20).
إنّ الاختلاف ينبغي أنّ يؤسس على أرضية صلبة حتى لا يؤدي إلى فتنة تأكل الأخضر واليابس وهذه الأرضية الصلبة بالنسبة إلى مجتمعات مجمعة حول مرجعيتها الإسلامية ـ هي قواطع الشريعة في معناها الديني وهي المبادئ الأساسية التي لا يمكن بحال من الأحوال الاختلاف حولها لأنّ ذلك قد يدمر السلم الاجتماعي فنقع في فوضى عارمة.
وقول الله ﴿بغيا بينهم﴾ مفعول لأجله لاختلفوا والبغي الظلم وأصل البغي في كلام العرب الطلب ثمّ شاع في طلب ما للغير بدون حقّ فصار بمعنى الظلم وأطلق هنا على الحسد لأنّ الحسد ظلم والمعنى أنّ داعي الاختلاف هو التحاسد وقصد كل فريق تغليط الآخر. وقوله ﴿بينهم﴾ متعلّق بقوله ﴿بغيا﴾ للتنصيص على أنّ البغي بمعنى الحسد وأنه ظلم في نفس الأمّة وليس ظلما على عدوّها(21).
الآية تقتضي تحذير المسلمين من الوقوع فيما وقعت فيه الأمم السابقة من الاختلاف في الدّين أي في أصول الإسلام. فالخلاف الحاصل بين علماء الدّين ليس اختلافا في الأصول لأنّ هناك إجماعاً حولها، وقد أجمعوا على أنهم يريدون تحقيقها ولذلك اتفقت أصولهم في البحث عن مراد الله وعن سنّة رسوله للاستدلال على مقصد الشارع وتصرفاته واتفقوا في أكثر الفروع وإنّما اختلفوا في تعيين كيفية الوصول إلى مقصد الشارع… فالاختلاف الحاصل بين علمائنا اختلاف جليل المقدار موسّع للأنظار(22).
ثمّ يحذر ابن عاشور من مغبّة التعقب لمذهب ما أو لرأي ما. يقول: أمّا لو جاء أتباعهم فانتصروا لآرائهم مع تحقق ضعف المدرك أو خطئه لقصد ترويج المذهب وإسقاط رأي الغير فذلك يشبه الاختلاف الذي شنّعه الله تعالى وحذرنا منه فكونوا من مثله على حذر. إنّ الاختلاف المذموم الذي يشير إليه ابن عاشور هو الاختلاف في تعيين الحق إمّا عن جهل أو عن حسد أو عن بغي(23).
جاء في القرآن: ﴿وما كان الناس إلاّ أمّة واحدة فاختلفوا ولو لا كلمة سبقت من ربّك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون﴾[يونس (مكيّة):19].
يقول ابن عاشور أنّ المراد هنا في هذه الآية أمّة واحدة في الدّين والسياق يدل على أنّ المراد أنها واحدة في الدّين الحقّ وهو التوحيد، لأنّ الحقّ هو الذي يمكن اتفاق البشر عليه، لأنّه ناشئ عن سلامة الاعتقاد بين الضلال والتحريف وجملة «ولولا كلمة سبقت من ربّك»، إخبار بأنّ الحقّ واحد وأنّ ذلك الاختلاف مذموم وأنّه لو لا أنّ الله أراد إمهال البشر إلى يوم الجزاء لأراهم وجه الفصل في اختلافهم باستئصال المبطل وإبقاء المحقّ.
والأجل هو أجل بقاء الأمم في قوله في سورة الشورى: ﴿ولولا كلمة سبقت من ربّك إلى أجل مسمّى لقضي بينهم﴾(24)، فالقضاء بينهم مؤجل إلى يوم الحساب ممّا يؤكّد استمرار وجود الاختلاف كشرط من شروط الوجود الإنساني.
إنّ خمس عشرة آية من مجموع الآيات التي تناولت الاختلاف في المجال الإنساني، أكّدت على أن الله يوم القيامة هو الذي سيفصل بين العباد فيماهم فيه مختلفون(25)، فعبثا يحاول البشر القضاء على المختلف أو العمل على تهميشه لأنّه إحدى تجليات الإبداع الإل_هي. أمّا الزمخشري في الكشاف فيؤرخ لظهور الاختلاف على الأرض بقتل قابيل لهابيل وقيل بعد الطوفان حين لم يذر الله من الكافرين دياراً، عاد الناس أمة واحدة حنفاء متفقيّن على ملّة واحدة «ولولا كلمة سبقت من ربّك» وهو تأخير الحكم بينهم إلى يوم القيامة. «لقضى بينهم» عاجلاً فيما اختلفوا فيه ولميّز المحقّ من المبطل وسيق كلمته بالتأخير لحكمه أوجبت أن تكون هذه الدّار دار تكليف وتلك دار ثواب وعقاب(26).
جاء في القرآن: ﴿ولو شاء ربّك لجعل النّاس أمّة واحدة ولا يزالون مختلفين إلاّ من رحم ربّك ولذلك خلقهم…﴾[هود (مكيّة):118].
إمّا كان توهّم كثرة الاختلاف حسب ابن عاشور، فقد توحي بخروج أصحابه عن قبضة القدرة الإل_هية أعقب ذلك بما يرفع هذا التوهّم بأنّ الله قادر على أن يجعلهم أمّة واحدة متّفقة على الحقّ مستمرّة عليه كما أمرهم أن يكونوا ولكن الحكمة التي أقيم عليها نظام الكون، اقتضت أن يكون نظام عقول البشر قابلاً للتطوّح بهم في مسلك الضلالة أو في مسلك الهدى ـ أي للاختلاف والتغاير [...] فلا جرم أن الله خلق البشر على نظام من شأنه سريان الاختلاف بينهم في الأمور ومنها أمر الصلاح والفساد في الأرض وهو أهمّها وأعظمها وقد يتفاوت الناس في أمر الصلاح ويختلفون في تعيينه وفي طرق بلوغه فيتفاوتوا في مدارج الارتقاء ويسموا إلى مراتب الزلفى(27). جاء في القرآن: ﴿ولا يزالون مختلفين﴾ تأكيد على أن الاختلاف أصبح عام كونيّة وأنّ السعي إلى الائتلاف يظل فعلاً ثقافياً ينبني على مجهود بشري يهدف إلى الإقرار بالآخر المختلف والعمل على محاورته وفهمه قبل إصدار أي حكم معياري عليه.
والأمة هي الطائفة من الناس اتحدوا في أمر من أمور الحياة كالموطن واللغة والنسب والدّين ومعنى كونها واحدة أن يكون البشر كلهم متفقين على إتباع دين واحد كما يدّل عليه السياق فآل المعنى إلى: لو شاء ربّك لجعل الناس أهل ملّة واحدة فكانوا أمّة واحدة من حيث الدّين الخالص ولمّا أشعر بالاختلاف بأنّه اختلاف في الدّين وأنّ معناه العدول عن الحقّ إلى الباطل لأنّ الحقّ لا يقبل التعدّد والاختلاف عقب عموم “ولا يزالون مختلفين” باستثناء من ثبتوا على الدين الحقّ ولم يخالفوه بقوله: ﴿إلاّ من رحم ربّك﴾، أي فعصمهم من الاختلاف(28).
وفهم من هذا الاختلاف المذموم المحذّر منه هو الاختلاف في أصول الدّين الذي يترتب عليه اعتبار المخالف خارجا عن الدّين فإذا طرأ هذا الاختلاف وجب على الأمة قصمه وبذل الوسع في إزالته [...] وأمّا تعقيبه يقوله «ولذلك خلقهم» فهو تأكيد بمضمون «ولا يزالون مختلفين»، والإشارة إلى الاختلاف المأخوذ من قوله “مختلفين” واللام للتعليل لأنّه لمّا خلقهم على جبلّة قاضية باختلاف الآراء والنزاعات وكان مريدا المقتضى تلك الجبلّة وعالما به كما بيّناه آنفا كان الاختلاف علّة لغائية لخلتهم وتقديم المعمول على عامله في قوله ﴿ولذلك خلقهم﴾ ليس للقصر بل للاهتمام بهذه العلّة(29).
أمّا الزمخشري وفي تمشّيه الاعتزالي يرى في قوله ﴿ولو شاء ربّك لجعل النّاس أمّة واحدة﴾ يعني لاضطرهم إلى أن يكونوا أهل أمّة واحدة أي ملّة واحدة وهي ملّة الإسلام كقوله : ﴿إنّ هذه أمّتكم أمّة واحدة﴾[الأنبياء:92]. وهذا الكلام يتضمن نفي الاضطرار وأنّه لم يضطرّهم إلى الإتفاق على دين الحق ولكنه مكنّهم من الاختيار الذي هو أساس التكليف فاختار بعضهم الحقّ وبعضهم الباطل، فاختلفوا فلذلك قال: ﴿ولا يزالون مختلفين إلاّ من رحم ربّك﴾ إلاّ ناسا هداهم الله ولطف بهم فاتفقوا على دين الحقّ غير مختلفين فيه(30).
IV. نحو الاختلاف المؤسّس
لم يترك القرآن الكريم أمر الاختلاف منفلتاً دون ضوابط، بل لقد تعامل معه على أساس أنّه أمر جبليّ وأنّه كان في البشر لحكمة اقتضته فوجب تدجينه وتنظيمه وممّا يلاحظ أنّ القرآن لم يعمد إلى تحديد المواضيع المسموح الاختلاف حولها، وإنما عمل على وضع أطر تحيط بالاختلاف وتوجّهه الوجهة الإيجابية حتى تمنعه من أن يتحوّل إلى ظاهرة مدمّرة تنتج الفوضى وتفتح على المجهول.
إنّ الاختلاف لا بدّ أن يتأسس على أرضيّة صلبة مشتركة موجودة أو هي قيد التشكل، قد تكون أصول الدين أو أصول الإسلام لدى التيارات الفكرية ذات المرجعية الإسلامية أو هي قيم الحداثة لدى التيارات الفكرية الحديثة ذات المرجعية الغربيّة. فبدون هذه الأرضية المشتركة سواء كانت موجودة أو منشودة فإن الاختلاف سيقضي بنا إلى نوع من العدميّة التي تعني غياب الغائيات التي من شأنها أن تعطي معنى للحياة الإنسانية(31).
…. التتمة في العدد

الحركات الإسلامية المعاصرة
مقاربة أركيولوجية
محمد أيت حمو
يذهب بعض الباحثين المعاصرين إلى الدفاع عن أطروحة «الحركات الإسلامية المعاصرة»، مؤداها أنه لن يتأتى لنا امتلاك ناصية هذه الحركات بمعزل عن الرجوع إلى الماضي البعيد، وفي غيبة الإلمام بأفكار ومواقف رؤوس وزعماء الاتجاه الحنبلي الذين طالما شقوا عصى الطاعة للسلطة السياسية الحاكمة. فهذه الحركات تجد في المعارضة الحنبلية ضالتها وسندها ومرجعيتها، فتمتح من معينها بنهم وشره. ويضع محمد أركون اليد على هذه الحقيقة، دون مواربة أو تورية، عندما يقول: «ومن المعروف أن هذا الخطاب [يروم الخطاب الإسلامي المعاصر] يعود في التاريخ بعيدا إلى الوراء، أي إلى زمن ابن حنبل والصراعات الحنبلية ضد ما اعتبرته بالانحرافات الدنيوية العلمانية للخلافة [للمأمون أساساً]. إن الحركات «الإسلامية» الاحتجاجية الراهنة ليست بنت الساعة، وإنما هي وليدة زخم تاريخي طويل. ومن هنا سر قوتها وقدرتها على التعبئة والتجييش. إن طابعها الاستمراري المتصل شيء يدعو للدهشة حقاً»(1).
فالحركات الإسلامية من وجهة نظر المترجم هاشم صالح هي حركات مشروعة حتى وإن كان لا يتفق معها. و«يمكن للمحلل، ضمن هذه الظروف، أن يفهم سبب ظهور الحركات الإسلاموية ويعتبر هذا الظهور شيئاً مشروعاً، دون أن يعني ذلك بالضرورة أنه متفق معها في مضامين الشعارات وأساليب العمل، ولا يحق للمؤرخ أن يشطب عليها بجرة قلم واحدة بحجة أنها “رجعية”، “ظلامية”، “متخلفة”.. إلخ. إن ذلك يعني احتقاراً لآلام هائلة، وعذابات مضنية، وشبيبة تضج بالحماسة للعطاء والتضحية. إن المفكر الحقيقي إذا ما أراد أن يقوم بعمله جيداً لا يمكنه أن يستخف بالحركات التاريخية، أو بالمآسي الاجتماعية، أو بالتيارات التي تظهر على السطح وتعبّر عن عمق تاريخي. إن ذلك يعني احتقاراً للفكر نفسه، وعدم قيامه بمهمته خير قيام. فالمفكر ـ بالمعنى الذي نقصده ـ هو طبيب حضارات. إنه مسؤول عن تشخيص الأمراض التي تنخر أحشاء مجتمعه والتي تتفاقم آثارها في أوقات الأزمات. ولا ينبغي عليه أن يخطئ في تشخيص المرض، وإلا بطل أن يكون طبيباً ـ أي مفكراً. وذلك لأن الخطأ في التشخيص يعتبر جريمة في مثل هذه الحالة: إنه يقتل المريض، أي المجتمع نفسه. وإذا كانت للحركات الحالية من ميزة فهي أنها كشفت ـ وإن بشكل سلبي وانفجاري عنيف ـ عن أزمة المجتمع في العمق. كما أنها كشفت في الوقت ذاته عن “البؤس الفكري” لمعظم المثقفين العرب. لقد كشفت عن “مراهقتهم” الفكرية، عن استخفافهم بحقائق التاريخ، عن انعدام الحس التاريخي أو الوعي التاريخي بشكل شبه مطلق لديهم. كما أنها كشفت عن التخلف المنهجي والأبستمولوجي للفكر العربي المعاصر. فالواقع في واد وهو في واد آخر»(2). ولا يقلّ النقد الموجه للمفكرين العرب المعاصرين حدة عن النقد الموجه للمستشرقين المعاصرين الذين يحاول البعض منهم اختيار الطريق الأسهل في مقاربتهم لهذه الحركات، رغم أن التطرف ليس حكراً على دين معين أو منطقة جغرافية محددة. و«الغريب العجيب أن الباحثين الغربيين عندما يدرسون مجتمعاتهم لا يدرسونها بهذه الطريقة التجريدية أو الجوهرانية الثبوتية. على العكس إنهم يجيشون كل الترسانة الإبستمولوجية للعلوم الاجتماعية والإنسانية من أجل الكشف عن جذور الظاهرة وتحليلها عميقاً على ضوء معطيات التاريخ القريب والبعيد. أضرب على ذلك مثلاً ظاهرة اليمين المتطرف في فرنسا. فمن المعروف أنه قد انتعش كثيراًً في السنوات العشر الماضية. وأصبح زعيمه “لوپان” نجما سياسياً لامعاً. فماذا يقولون عندما يدرسونه؟ إنهم لا يقولون لك بأن الفرنسيين كلهم متعصبون أو فاشيون لمجرد تفشي هذه الظاهرة بينهم بشكل مقلق، على العكس، إنهم يلجأون إلى منهجية علم الاجتماع وعلم التاريخ وعلم الاقتصاد، بل وحتى علم النفس لتفسير هذه الظاهرة. إنهم يقولون لك: الحق على البطالة، على تدهور الحالة المعيشية لبعض شرائح من المجتمع الفرنسي، على زيادة عدد المغتربين في بعض المناطق عن النسبة التي يمكن تحملها بسيكولوجياً بالنسبة إلى المواطن الفرنسي، على رزوح الأزمة الاقتصادية فترة طويلة من الزمن، إلخ. باختصار، فإنهم «يموضعون الظاهرة ضمن حيثياتها المحسوسة ويجدون لها الأعذار والتبريرات والتفسيرات»(3).
وهذا يعني صراحة، وليس ضمناً، أن الحركات الإسلامية المعاصرة ذات جذور ومشروعية تاريخية لا يمكن القفز أو التشطيب عليها بجرة قلم. فهي تمثل همزة وصل مع الخط الحنبلي الذي يشكل مرجعيتها، والمالك لقواعد شعبية عريضة، والمسيطر على السواد الأعظم بدون منازع، ذلك أن زعماء الحنابلة «تموضعوا في جهة الجماهير الشعبية أكثر مما تموضعوا في جهة السلطة»(4). فالإمام أحمد بن حنبل ـ الذي سارت الركبان بمحنته في طول الأرض وعرضها ـ هو الذي واضع حجر الأساس للحركات الإسلامية السالكة مسلك الرفض والمعارضة. وبناء عليه، فالسلفيون لهم عمق تاريخي مذهل كما هو لائح في النص السابق الذي يكاد يكرره صاحبه في كتاب آخر، عندما يقول: «الأصوليون الحاليون لهم جذور في الماضي، بل وفي الماضي البعيد [...] إنهم يشتغلون، أو قل يترعرعون داخل أرضية مواتية ومناسبة، أرضية تم التمهيد لها منذ زمن طويل. من هنا سر قوتهم وانتشارهم السريع»(5).
ويحضرني إلى الذهن هنا قول أحمد أمين: «الناس من طبيعتهم حب المعارضة والعطف عليها، سواء في ذلك المعارضة السياسية أو المعارضة الدينية، وهم أشد تحمساً للمعارضة الدينية [...] وفي عهد المعتصم صار زعيم الحكومة الخليفة، وحوله العلماء المعتزلة ورجال الدولة، وزعيم المعارضة أحمد بن حنبل وحوله قلوب الشعب»(6). وهذا الدرس قد يكون مجدياً ومفيداً لنا في عصرنا الحاضر، لأن ملاحقة الحركات الإسلامية لن يعمل سوى على المزيد من انتشارها بين الجماهير المحرومة، وما أكثرها! و«طالما أن الحركة الإسلامية مهمشة، لاشرعية، تعمل تحت الأرض وفي الخفاء، في تنظيمات سرية، تترصدها أجهزة الأمن، مرة تنجح في كشفها ومرة تفشل. طالما أنها مطاردة متعقبة، فإنها ستستشري، بل وتلقى تعاطفاً من الجماهير الشعبية التي تعمل هذه التنظيمات بينها»(7). فالحنابلة عرفوا كيف يستقطبون أعداداً هائلة من الجماهير الغفيرة، «فمن المعروف أن فقهاء الحنابلة كانوا يتقيدون بأداء الفرائض الدينية، واحترام التقاليد والطقوس القريبة من عقلية المؤمنين البسطاء، والتي يرى المؤمنون أنفسهم فيها، لأنهم مندمجون فيها بشكل كلّي أباً عن جد»(Cool. فالحنابلة رفضوا حشر أنفهم في المناقشات التجريدية الدقيقة كما فعل المعتزلة ـ وعلى نفسها جنت براقش ـ دون أن ننسى الفلاسفة، وهذا ما مكّنهم من السيطرة على الطبقات الشعبية التي تند عن أفهامها الجدالات الكلامية والفلسفية. «لقد قبل الحنابلة
ـ بخشوع ـ بكلام الله كما هو، أي بلا كيف، المقصود بدون تعليق أو تفسير، لأن ذلك يدنس كلام الله. فكلام الله يقبل بحرفيته اللفظية دون أي نقاش أو محاولة تفسير أو تأويل نظري أو كلامي، وهكذا يتجنبون تحويل الله نفسه إلى وجهة نظر ذهنية مجردة، أو مفهوم مجرد يبلّور مقولات تجريدية متماسكة ولكن منبتة الصلة عن الدين المعاش من قبل المؤمنين. ومن المعروف أن مثل هذه المقولات لا يمكن أن تصل إلى الجماهير الشعبية، ولهذا السبب سيطرت المدرسة الحنبلية على الطبقات الشعبية لأنها تجنبت المناقشات الكلامية الدقيقة»(9). بل يمكن الذهاب إلى أبعد من ذلك، والقول مع المستشرق الانجليزي وات Watt بأن «الحنابلة حاولوا بناء كل الحياة الاجتماعية والسياسية الفردية على أساس القرآن والأحاديث [...] كما حاولوا إقصاء كل استعمال للعقل»(10).
فالمدرسة الحنبلية تميزت بإتقان لغة عامة الشعب، وغلبت عليها سمات البداوة والتشدد. «كنا قد رأينا سابقاً كيف أن المدرسة الحنبلية قد ولدت في بغداد في فترة من فترات الأزمات السياسية والغليان الاجتماعي، وقد حافظت الحنبلية على الخصائص التي رافقت نشوءها على مدار التاريخ الإسلامي، فقد بقيت حركة متشددة وقتالية قريبة من الطبقات الشعبية في المدن والأسواق، وقد شكلت المتخيل الديني لهذه الطبقات البسيطة ورسخته. فمن المعروف أن فقهاء الحنابلة كانوا يتقنون لغة الشعب الأمي البسيط، وكانوا يتجنبون لغة المتكلمين ذات المفاهيم التجريدية الصعبة، كانوا يتقيدون بأداء الفرائض الدينية، واحترام التقاليد والطقوس القريبة من عقلية المؤمنين البسطاء، والتي يرى المؤمنون أنفسهم فيها لأنهم مندمجون فيها بشكل كلي. وفي أوقات الضعف التي حلّت بالخلفاء والأمراء والسلاطين، فإنهم حافظوا دائماً على حس الجماعة والأمة واحترام القانون الإله_ي والتقيد به. وهاتان هما المرجعيتان الكبريان في الإسلام اللتان تحفزان المؤمنين على معارضة السلطات القائمة إذا ما كانت باغية أو طاغية أو كافرة، أو إذا ما اعتبرتها كذلك. ومن زعماء الحنابلة الذين قادوا التظاهرات الشعبية في شوارع بغداد، في القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي، رجل اسمه البربهري. هذا فيما يخص قادتهم السياسيين، وأما فيما يخص علماءهم الدينيين فإننا نلاحظ أنهم قد حافظوا على استمرارية عقائدية مدهشة بدءاً من ابن حنبل ـ مؤسس المذهب، وانتهاء بمحمد بن عبد الوهاب[توفي عام 1202 هـ/1792 م]،
مروراً بابن الجوزي وابن تيمية، وكلهم دافعوا عن «حقوق الله»، وتموضعوا في جهة الجماهير الشعبية أكثر مما تموضعوا في جهة السلطة»(11). وقد أبى المناضلون الحنابلة أن لا يعبروا عن مطالبهم إلا باستخدام اللغة الدينية. و«نلاحظ أن أغلبية المناضلين السياسيين في هذه الحركات الإسلامية يأتون من الطبقات الدنيا ذات الثقافة التقليدية وغير القادرة على الوصول إلى الثقافة الحضرية الحديثة، وهم يطالبون بحق بعدالة أكثر وقمع أقل، وإمكانية المساهمة في صنع التاريخ الجديد، تاريخ مجتمعهم بالذات، ولكنهم لكي يعبروا عن هذا المشروع والآمال العلمانية أساساً فإنهم يستخدمون مفردات اللغة الدينية التي هي اللغة الوحيدة التي يحسنونها»(12).
ولا يحيد محمد عابد الجابري عن هذا الفهم القويم في مقاربته للإسلاميين المعاصرين، فهو كذلك ينظر إلى الحركات الإسلامية المعاصرة بمنظار «المدة الطويلة»(13)، حسب إحدى المصطلحات الرائجة عند زعيم مدرسة الحُوَليات الفرنسية Les Annales، فرناند بروديل، ويكشف عن الخيوط التي تربط الحاضر بالماضي ليستد الفهم ويستقيم. فلا مفرّ من فهم الماضي الذي يمتح الحاضر من جذوره ونسغه لفك مستغلقات هذا الحاضر، حيث يقول: «لنقل إذن إن فهم المحنتين، محنة ابن حنبل ومحنة ابن رشد، فهما يحمل معه معقوليته، سيمكننا من تعميق فهمنا لما يجري في عصرنا، وفي عالمنا العربي والإسلامي من صراع بين الدولة ورجالها، وبين ما يعرف في خطابنا المعاصر بـ الأصوليين أو الإسلاميين المتشددين»(14). فالنص يشدد على محنة ابن حنبل ـ الذي استعصى على التطويع من طرف رجل السلطة ـ باعتبارها رأس الخيط الهادي إلى فهم أدق للحركات الإسلامية، واستيعاب أعمق لـ الأجواء المكهربة بينها، وبين السلطة السياسية الحاكمة.
وأمام تناغم وتقاطع هذه النصوص المقتطفة، نلمس فعالية المنهجية التقدمية ـ التراجعية Progressive -Regressive Method، التي يستخدمها أركون في تناوله للحركات الإسلامية الراهنة، وهي المنهجية التي تلقفها واستعارها من المستشرق الألماني جوزيف فان إس J. Van Ess المعروف بموسوعته الرصينة عن المعتزلة. فثمرة الحركات الإسلامية الحالية من شجرة الحنبلية، أو المدرسة الحنبلية التي لا نجانب الصواب إذا قلنا عنها مع أركون بأن «ممثليها المتحمسين دائماً، اللامعين غالباً، قادوا المعركة ضد كل محاولة لتقريب السر الإل_هي الخفي بالنظر (المعتزلة، الفلاسفة)، أو بالغنوص (الشيعة)»(15).
إن ابن تيمية يمثل أعلى ذرى الفكر الحنبلي، وقد صفه إبراهيم مذكور بكونه «بطلاً شجاعاً في القول والعمل، لا يبالي بخصومة الآراء التي لا يرتضيها، ولم يتردد في أن يحمل السيف في وجه التتار، وهم أكبر قوة تصدت للإسلام والمسلمين في عهده»(16). فهو الحنبلي الأوزن بدون منازع، وكل مقاربة للحركات الإسلامية لا تومئ إليه ستجانب الصواب كثيراً، لأنه يعتبر المنظر الحقيقي لها، ومنه «خرجت الحركات الإصلاحية الحديثة»(17). فالحديث عن ابن تيمية، هو حديث عن أفكار يتبناها الإسلاميون إلى اليوم. إذ إن القضايا الرئيسية في مذهبه تشكل الوازع النظري الذي يفسر كافة الحركات الإسلامية. فمن المعروف أن الفقيه المتشدد يرفض الفلسفة بحجة اختلاف الفلاسفة في الإل_هيات، وهي عين الحجة التي استخدمها الغزالي ضد الفلاسفة في كتابه العمدة (تهافت الفلاسفة) الذي أنتج فيه عجز العقل حسب عبارة أحمد العلمي حمدان(18). ومن الملفت للنظر، بعد ذلك، أن يقول ابن تيمية بأن ابن رشد «أقرب الفلاسفة إلى الإسلام»(19). وإذا كان ابن تيمية يرفض مبحث الإل_هيات من الفلسفة، فإنه يرفض كذلك علم الكلام الذي ساهم في بناء الحضارة العربية الإسلامية. فـ«الفلسفة كلام بما هي أطروحات مؤمنة، والكلام فلسفة بما هي أطروحات بدعية»(20). وينقض المنطق في أكثر من كتاب، كـ (نقض المنطق)، و(الرد على المنطقيين) بدعوى أن المنطق يؤدي إلى الشك والحيرة(21). ويهاجم التأويل الذي وضعه في قفص الاتهام لأنه المسئول عن دق إسفين الخلاف بين المسلمين. أما التصوف فلم يشذ عن قاعدة هذا الرفض، إن لم يكن قد استأثر بحصة الأسد منه. ولا عجب في ذلك، ما دام أن وشائج القربى وحبائل الاتصال كانت منقطعة ومنعدمة تاريخياً بين أهل الظاهر (الفقهاء) وأهل الباطن (المتصوفة) الذين كان البعض منهم لا يلتزم بتأدية الشعائر الدينية حرفياً، ويحاول التحرر من المظاهر. ومن الملفت للنظر، بعد ذلك، أن يقول ابن تيمية «أن ابن عربي أقرب إلى الإسلام من غيره من صوفية الوحدة المطلقة كابن سبعين»(22).
وبالجملة، فأقل ما يمكن أن يقال عن موقف الشيخ المرحوم من القضايا السالفة الذكر، هو أنه يناصبها العداء حتى القمة. وفي كلمة واحدة توجز وتكثف، «فالنقل […] لا يفتقر إلى أية عقلنة»(23). ولذلك كان الرفض هو العملة المتداولة في مؤلفات ابن تيمية إزاء الفلسفة والتصوف والمنطق والتأويل، وهو الموقف عينه، والعملة ذاتها، الرائجة لدى الإسلاميين المعاصرين. فالحنبلية الجديدة ـ خلافاً للفكر السلفي ـ لا تكاد تنظر إلى مستجدات الأحوال إلا بنظارات التبديع، فترمي كل جديد في بئر البدعة الذي لا قاع له. و«هكذا نجد أن الفكر السلفي، ممثلاً في الشيخين جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومن اقتفى أثرهما، قد حاول أن يعيد تكييف النظر إلى العلاقة بين التحديث (=التبديع) من جهة، وبين العودة إلى الإسلام الحق (= العام الحعام) من جهة أخرى، وذلك بتوسط هو العمل على التجديد في أمور الدين، أو ما يتعلق منها بالعادات والمعاملات على وجه الخصوص. صحيح أن هناك تياراً إصلاحياً إسلامياً كبيراً قد دعا إلى إحياء العام الحق ووجوب العمل على إماتة البدعة، أو القول إنه لا سبيل إلى إعادة بعث العام بعثا جديداً إلا بإبعاد البدعة وإقبارها، وذلك هو التيار الوهابي. ولكن تشديد هذا الأخير في فهم معنى البدعة من جهة أولى، والتركيز على المناحي الاعتيادية من جهة ثانية، والوقوف في كل عمل التحديث أو الإصلاح التحديثي من جهة ثالثة، كل هذا جعل الدعوة صوتا بغير صدى بعيد، وهذا فضلاً عن المعطيات الإيديولوجية التي صاحبت نشأتها وسمحت بظهورها وانتشارها في مناطق جغرافية محدودة، وفي فضاء اجتماعي ظل محافظاً على العديد من مقومات البداوة ومكوناتها»(24).
إن التفكير في الظاهرة الدينية هي المسؤولية الجسيمة التي لا غنى للمفكر المعاصر من القيام بها على أحسن وجه، وذلك بإعطائها ما تستحق من الدراسة الأكاديمية والتحليل الرصين اللذان يهدفان إلى الفهم والإفهام. ونقصد بالمفكر المعاصر هنا المفكر العربي عموما، والمفكر المغاربي خصوصا. «ينبغي على المغاربة أن يفكروا بالظاهرة الدينية لا أن يفكروا بالإسلام مباشرة، لأن الإسلام ليس إلا أحد تجلياتها. وإذا ما عرفوا كيف يفكرون بالظاهرة الدينية بعيون جديدة، فإن الفكر المغاربي سوف يساهم ثقافياً وتاريخياً في البلورة الجارية حاليا للحداثة. ولا يعودون يذهبون لاستيراد قطع متفرقة من الحداثة من أجل تطبيقها على قطاعات مختلفة كالقانون، والجهاز الرسمي للدولة، والمؤسسات السياسية، والعمارة، والاقتصاد.. إلخ. إن الدول المغاربية الخمس إذ تستخدم الإسلام في الوظائف السياسية والمؤسساتية والدستورية ضمن سياق عالمي معجون كليا بالحداثة، تجد نفسها مضطرة لأن تفتح مناقشة حديثة حول الموضوعات التالية:
1ـ الإسلام بصفته أحد التجليات التاريخية للظاهرة الدينية وليس كل التجليات. فهناك أديان أخرى غير الإسلام كالمسيحية، والبوذية، واليهودية…
2ـ ينبغي تحليل طبيعة الظاهرة الدينية ومكانتها ووظائفها. وينبغي تأويلها ضمن إطار التحريات الميدانية من تاريخية وسوسيولوجية وأنتربولوجية.
3ـ ينبغي أن نعيد تحديد مكانة الإسلام المغاربي بالقياس إلى الإسلام الكلاسيكي التعددي الذي تجسد تاريخياً بين عامي [632م ـ 1406م]، كما وينبغي أن نعيد تحديد مكانة الإسلام المغاربي بالقياس إلى الظاهرة الدينية بشكل عام (أي بالقياس إلى الظاهرة الدينية في العالم. كيف تعيش الشعوب الأخرى الدين وكيف تفهمه؟ إضاءة كل ذلك عن طريق دراسة تاريخ الأديان المقارنة والخروج من القوقعة)…
4ـ ينبغي التفكير في الشروط اللاهوتية لصلاحية إعادة استخدام الإسلام في الوظائف السياسية والقانونية والاجتماعية والاقتصادية انطلاقاً من الدولة الحديثة. كما ينبغي التفكير في الشروط الفلسفية لإمكانية مثل هذا الاستخدام (بل هل هو ممكن؟ هل هو صالح؟ هل هو مستحب؟ وكيف؟..)»(25).
إن ما نروم الإبانة عنه من خلال إماطة اللثام عن المشروعية التاريخية للحركات الإسلامية المعاصرة، هو الكشف عن مدى البؤس العقلي والفكري والعلمي الذي تعاني منه العديد من الكتابات المرتجلة التي تدعي فهم الحركات الأصولية، بالتحويم على الأزمة الاقتصادية التي يجعل منها التحليل الماركسي عرسه الأكبر! وهذا ما ينبه إليه الباحث المغربي المتخصص في هذه الحركات محمد ضريف، عندما يحذر من فخ التعميم الذي تسقط فيه هذه الدراسات التي تركز على الأزمة الاقتصادية ـ بمعية غياب الديمقراطية وفشل التحديث ـ لتفسير نشأة الحركة الإسلامية، قائلاً: «لا تحترم الدراسات التي تعتمد مثل هذه الرؤية تفسير أسباب انبثاق الحركة الإسلامية وعوامل تطورها أحد الضوابط المعرفية: عدم السقوط في “التعميم”، لأن هذه الأسباب والعوامل يمكن اللجوء إ
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://philo.forumarabia.com
كمال صدقي
مدير المنتدى
كمال صدقي


ذكر
عدد الرسائل : 2399
العمر : 68
البلد : أفورار
العمل : متقاعد مُهتم بالدرس الفلسفي
تاريخ التسجيل : 20/12/2007

لماذا لا نفكر فلسفياً ؟ Empty
مُساهمةموضوع: رد: لماذا لا نفكر فلسفياً ؟   لماذا لا نفكر فلسفياً ؟ Clock10السبت سبتمبر 20, 2014 10:07 pm


الكلام..
الإعطاء، التسمية والاستدعاء(*)
جاك دريدا/ترجمة خالد العارف و مصطفى العارف
بدون أن أقِرَّ حقاً بإحساس بعدم الكفاءة، أعتقد أنه أبداً لم تعُزْني القوة بمثل هذا القدْر لمقاربة الإنتاجات الشاسعة لـ بول ريكور في شكل دراسة أو نقاش فلسفي. كيف يمكن أن نقتصر على حيِّز واحد أو محطة من المحطات فقط على طول مسار بهذه الشساعة، مسار جدّ غني، عبر العديد من المجالات، والمواضيع والإشكالات؛ من الأخلاق إلى التحليل النفسي، ومن الفينومينولوجيا إلى الهرمينوطيقا، وحتى التيولوجيا؛ ومن خلال التاريخ ومسؤولياته التي يتطلّبها منا كل يوم منذ عشرات السنين؛ من خلال تاريخ الفلسفة ومن خلال التأويلات المُبتكَرة لمجموعة من الفلاسفة، من أرسطو أو أوغسطين إلى كانط، ثم من ياسبرز وهوسرل إلى هيدغر أو ليفيناس، هذا دون أن نتحدث عن فرويد أو مجموعة من الفلاسفة الأنغلوسكسونيين، حيث كانت لـ ريكور الشجاعة وصفاء الذهن، النادرين في فرنسا، لقراءتهم وجعلهم مقروئين، وأخذهم بعين الاعتبار في أعماله التجديدية؟ يبدو لي الأمرُ صعباً إن لم نقل مستحيلاً، إذا لم نتحاشَ خيانةً تختزلُ، في بضع صفحات، وحدةَ الأسلوبِ والقصد والفكر، بل والولع والإيمان، إيمان مفكَّر فيه ومفكِّر، وبالتزام لم يتنازل منذ البداية عن نوع من الوفاء، عن وفاء للذات كما للآخرين.
أجدني أبتسم وأنا أعيد قراءة ما كتبتُه بعفوية قبل قليل (أي “صعب” و”مستحيل”). لقد لاحظت ذلك فيما بعد، ذلك أن الكلمتين كانتا في صلب نقاش بيني وبين ريكور قبل سنتين حول الشر والصفح (وهو سجال كان في أول الأمر خاصاً، خلال غذاء قرب حديقة مونسوري Montsouris، ثم تحول إلى سجال عمومي في مناسبتين؛ خلال مائدة مستديرة نُظمتْ من طرف أنطوان غارابون Antoine Garapon رفقة قانونيين، ثم في دار أمريكا اللاتينية المنظم من طرف آدلر لور Adler Laure لأجل مؤسسة France ـculture). ردّاً على عرضي ذي النزعة الإستغلاقية التي بموجبها يكون الصفح، في معناه غير السلبي، هو المستحيل عينه (l’im-possible)، «إننا لا نصفح إلا عمّا هو غير قابل للصفح، إذِ الصفح عما يُعدُّ بالفعل قابلاً للصفح، ليس صفحاً؛ وهذا لا يعني أن الصفح غير موجود، ولكن يعني أن على الصفح، كي يبدو ممكناً، أن يفعل المستحيل، كما يقال: أن يَصفح عما هو غير قابل للصفح»(2)، عارضَ ريكور لأكثر من مرة المقتَرحَ بعبارة أخرى: “الصفح ليس مستحيلاً، بل صعب”، ما الفرق يا ترى بين “المستحيل” (غير السلبي) و”الصعب”، العسير، المستعصي، أو الصعوبة، ما هو غير قابل للفعل حتى، وأين يختفي هذا الفرق؟ ما الفرق بين ما هو صعب جذرياً وما يبدو مستحيلاً im-possible؟(3) يرجع بنا هذا السؤال ربما، ولنقل ذلك باقتضاب، إلى الذاتية l’ipséité في عبارة “أنا أريد”. إنه حشوٌ يؤكده علم الاشتقاق. إن الذات l’ipse هي قدرة أو إمكانية الأنا «Je» (أستطيع، أريد، أقرر). المستحيل الذي أتحدث عنه هنا، قد يعني أنني لا أستطيع، ولا يجب عليّ الزعم إطلاقاً، أنه بمقدرتي أن أقول بمسؤولية وجدية “أنا أصفح” (أو أريد أو أقرر). إن الآخر وحده، أي ذاتي عينُها كآخر، هو ما يجعلني، في داخلي، أريد، أقرر أو أصفح، دون أن يُعفيني من أي مسؤولية مع ذلك.
منطق غريب لهذا التبادل بدون وفاق ولا خلاف، حيث يتبدى اللقاء التماسي، لقاءُ الميول، لقاءٌ منفلت ولكنه أيضا لقاء مراوغ في ظل قربِ ودي جداً. (لقد “رافقنا” بعضنا بعضاً، كما قال لي ريكور مؤخراً ذات يوم، حين كنا نحاول معاً تصور ما الذي حدث بيننا وما الذي لم يحدث خلال حياة بأكملها). “الترافق” (الطريقان المتوازيان اللذان قد يلتقيان عند اللانهائي، والمسار أو الإبحار جنباً إلى جنب وبشكل متقارب. إنه تحالف ضمني من دون صدام، لكنه يحترم الإختلاف الجذري)، سيكون إحدى الإستعارات الغنية الأكثر رُجْحاناً، حيث يمكننا محاولةُ ملاءمتها أو تعقيدها، أو حتى نقضها من أجل توضيح “مضمون” هذا “المنطق”. أعتقد أننا إذا ما بسَطْنا مثل هذا ال”منطق” عبر نصوص متعددة، آخذين بعين الاعتبار الصمت والانقطاع أسواءٌ كان عرضياً أو ضرورياً، مُعتبرينَ ما هو ضمني أو ما لا يمكن قوله، سوف نتمكن من التعرف، في قلب هذا المنطق، على القانون الدائم لحوار “متفرد” ما فتئ يغنيني منذ زمن بعيد. الحوار”المتفرد” هو إشارة سأعود فيما بعد للتذكير بسياقها.
من أجل تقديم شهادة عن إعجابي الثابت وصداقتي بـ ريكور، أو لنقل بجرأة أكبر، عن مودة متزايدة النمو، سمحت لنفسي بالعودة إلى بعض اللحظات العزيزة على ذاكرتي: بعض تلك اللحظات البارزة بالنسبة لي، حيث شاهدتُ أو استمعتُ إلى ريكور، أو التقيت به على امتداد ما ينوف على خمسين سنة، حين منحني شرف محادثته؛ وقد كان الأمر حدثاً بالنسبة لي في كل مرة. وبما أن الفلسفة لم تكن غائبة مطلقاً عن تلك الأقوال الحية، فإنها ستتمظهر دائماً، وهذا ما أتمناه، من خلال الحكي الموجز لتلك اللحظات المباركة.
هناك دائما لحظاتٌ للكلام، لأن في كل معاني هذا المفهوم، يبقى ريكور رجل الكلمة ورجل الكلام(4). عندما أبحرتُ مجدداً في كتاباتاه بطريقة تكاد تكون تائهة من أجل إيجاد طريقي، أي بالضبط طريق معين للكلام، وجدت بالفعل مقالاً(5)، يعود إلى 1967. اكتشفت أنني كنت قد سطرت، في الهامش، بخط أحمر على فقرة بكاملها يعطي فيها ريكور الحق لهيلمسليف (الذي كنت مهتماً به كثيراً حينها، متسائلاً أنا أيضاً بطريقة مغايرة عن بعض حدود “الإيديولوجيا” البنيوية، التي سيطرت على تلك الحقبة) حيث كتب ريكور:
“في هذا الإطار هيلمسليف على حق [...] فالاستعمال والتوظيف يكونان عند التقاطع بين اللسان والكلام. يجب إذن أن نستنتج أن الكلمة تسمِّي في الوقت نفسه الذي تحاول فيه الجملةُ قول شيء ما. إن الكلمة تسمي في موضع الجملة. في المعجم، مثلا، توجد فقط حلقة ممتدة من المصطلحات تتحدد بشكل دائري وتحوم داخل أسيجة المعجم. لكن في المقابل، لدينا هذه الحالة: حين يتحدث شخص ما، هناك من يتكلم ويقول شيئاً، فالكلمة تخرج من المعجم وتتحول إلى كلمة عندما يصبحُ الإنسان كلاماً، وحيث يصبح الكلام خطاباً، والخطاب جملةً. وليس من قبيل الصدفة أن تكون مفردة Wort {كلمة} بالألمانية هي نفسها Wort، أي الكلام (هذا مع الإشارة إلى أن Wort وWort ليس لهما نفس الجمع). فالكلمات هي، إذن، علامات في موضع الكلام. إنها نقطة تمفصُلِ السيميولوجي والدلالي في كل كلام باعتباره حدثاً [...] فالجملة، كما رأينا، تشكل حدثاً: وبهذا المعنى، فإن راهنيتها انتقالية وعابرة ومتلاشية. لكن الكلمة تُعمِّر أطول من الجملة؛ باعتبارها كياناً متنقلاً، فإنها تتجاوز الطابع الانتقالي للوضعية التلفظية للخطاب لتبقى جاهزة لأي استخدام جديد”.
قبالة هذه الجملة الأخيرة، كتبتُ بخط أحمر: “حين عودتها {الكلمة} إلى النسق”. ويسترسل ريكور: “وهكذا، فإن الكلمة، تعود إلى النسق محمّلةً بقيمة استعمالية جديدة، حتى لو كانت هذه القيمة هزيلة. وبعودتها إلى النسق، فإنها تُعطيه تاريخاً”.
في الهامش، كتبتُ بسرور نابع من إستشرافي لهذه النتيجة بشكلها الحرفي، وبرضىً ذاتي ساذجِ أزيد في تعميقه اليوم مجدداً باعترافي به، “هوذاك..”.
لقد مر نصف قرن على كل هذا حيث لن أستذكر سوى لقاءات وأحداث وأقوال تبدو عابرة، تحاول ذاكرتي أن تستبقيها حية كهدايا ثمينة. أول مرة رأيت فيها ريكور واستمعت إليه، كانت ربما في 1953، ولم أكن قد قرأته إلا قليلاً جداً. كنت وقتئذ طالباً في المدرسة العليا واقترح عليَّ واحدٌ من أعز أصدقائي الحضور بصحبته لجلسةٍ حوارية نظَّمتْها، فيما أعتقد، مجلة Esprit في شاتوناي مالابري Châtenay-Malabry. كان هناك مارو Marrou واستمعت إليه هو أيضاً لأول مرة. وأُعجبتُ بخطاب ريكور: خطاب واضح وأنيق وفيه قوة استدلالية وحِجِّية من دون سلطان، والتزام فكري. كان الأمر يتعلق، على نحو مبكِّر، بـ “التاريخ والحقيقة”(6)، وببعض الإشكالات الأخلاقية والسياسية لتلك الآونة أيضاً. في الصيف الموالي، قررتُ تخصيص بحثي للدراسات العليا لمشكل التكوين عند هوسرل(7)، ورحلت إلى منطقة البيار لعدة أسابيع قرأتُ خلالها كتاب Ideen 1 {أفكار1} لـ هوسرل(Cool. هذا الكتاب، كما هو معروف، ترجمه وعلق عليه وقدمه وأوّله ريكور، حيث خصّه بعُدّةٍ ثرية من الهوامش نوَّرت قراءتي له. وهذا صحيح اليوم أيضاً حين أعود إلى الكتاب. لقد كان إذن ريكور، هذا القارئ الكبير لـ هوسرل، هو من علَّمني، بصرامته التي فاقت صرامة سارتر وحتى ميرلوبونتي، قراءة “الفينومينولوجيا”، واستعملتُه نوعاً ما كمرشد منذئذ. أتذكر أيضاً مقالاته حول كانط وهوسرل وحول الأزمة إلخ، المقالات التي أصبحثْ فيما بعد بمثابة مراجع أساسية في مقدمتي لكتاب أصل الهندسة لـ هوسرل.
ابتداء من 1960، أصبحت أستاذاً مساعداً للفلسفة العامة في السوربون، حيث التقيت ريكور لأول مرة (بزمن قليل بعدها حسب ما أظن) بعد أن عُيّن هناك. في ذلك العهد، كان للأساتذةِ المساعدين مركزٌ غريب يصعبُ تصوره اليوم. لقد كنت الأستاذ المساعد الوحيد “للفلسفة العامة والمنطق”، وكنت حراً في تدبير محاضراتي وتنظيم حلقاتي الدراسية كما أريد، غير معتمدٍ إلا بشكل نظري جداً على كل الأساتذة الذين كنتُ قانونياً مساعداً لهم: سوزان باشلار، كانغيليم، بوارييه، بولان، ريكور وفال. نادراً ما كنت ألتقي بهم خارج قاعات الإمتحانات باستثناء باشلار وكانغليم ـ صديقي الأبوي المُبجّل ـ الذين كنتُ ألتقيهم في غضون نهاية مساري هناك. في يوم ما، على الأرجح في سنة 1962، زرت ريكور في Châtenay Malabry وخلال جولة في حديقته، تحدثَ إليّ بحماس عن كتاب “الكلي واللانهائي”(9)، والذي كان وقتئذ عبارة عن أطروحة دكتوراه كان ليفيناس سيدافع عنها في الأيام القليلة الموالية. لم يكن الكتاب قد صدر بعد. ريكور، الذي كان عضوا في لجنة المناقشة، كان قد فرغ للتو من قراءة الكتاب، وقال لي: إنه كتاب عظيم، إنه حدث. لم أكن أعرف عن ليفيناس سوى نصوصه حول هوسرل؛ ومرة أخرى، وانطلاقاً من كلمات ريكور التوجيهية، قرأتُ في الصيف الموالي كتاب الكلي واللانهائي وكتبتُ “العنف والميتافيزيقا”(10)، وهي أول دراسة خصصْتُها لـ ليفيناس ضمن سلسلة من الدراسات امتدت لثلاثين سنة. إنني هنا مدين نوعاً ما لـ ريكور على الصداقة القيِّمة التي ربطتني منذئذ بشخص ليفيناس وأعماله، وقد كان ذلك الأمر أيضاً فرصة من فرص حياتي.
إلى تلك السنوات في السوربون، ولكن أيضاً تلك السنوات الموالية لالتحاقي بالمدرسة العليا، ترجع أيضاً اللقاءات في حلقات الدرس المنظمة من طرف ريكور، الذي كان مديراً لأرشيف هوسرل (الذي يضم أيضاً الأفلام القصيرة التي كانت في باريس)، حيث كان يستقبل الطلبة والباحثين والزملاء لإعطائهم الكلمة. أتذكر أنني خلال تلك السنوات ألقيتُ عرْضاً هناك في باريس والتقيتُ بعددٍ من المهتمين بـ هوسرل، بالإضافة إلى ليفيناس. بفضل ريكور، كانت الروح السائدة في تلك الحلقات الدراسية نموذجية: هدوء، حرية، نقاشات ودية وصرامة واستشراف لأبحاث حقيقية.
سنوات بعد ذلك وبالضبط في سنة 1971 في موريال، كانت لي مع ريكور أول وأطول محادثة شفوية تم نشرها حتى الآن(11)؛ لقد فرغت للتو من قراءتها لأول مرة بعد أكثر من ثلاثين سنة. كان ريكور قد قدم المحاضرة الإفتتاحية تحت عنوان “الخطاب والتواصل.” بعده مباشرة، قدّمتُ مداخلتي حول “التوقيع، الحدث، والسياق”. بعدها، كانت هناك مداخلات أعقبتْها مائدة مستديرة دامت لمدة ساعتين. أُنفقَ وقتُ المائدة بشكل كبير في ما سمّاه رئيس الجلسة “نزالاً ودياً متفرداً” بيني وبين ريكور، وهو نزال يغطي أربعين صفحة لن أحاول أن أعيد تشكيلها هنا بسبب ضيق المقام ولأنه لا مجال لفتح نقاش فلسفي عميق في هذه الشهادة.
لكن اليوم، بما أن هذه الأعمال هي الآن جزء من أرشيف بعيد المنال شيئاً ما، أرشيف أضحى عملياً غير منشور، أرجو أن يُسمح لي بالإنصياع للرغبة في اقتباس مقتطف من النسخة الصوتية (التي ستكون من دون شك مشوبةً ببعض الأخطاء هنا وهناك)، اقتباس متتالية وجيزة وحماسية. إنها تبدو لي، ولذلك تجرأت على اقتباسها، تُميّز هذا النوع من التجاذب الحماسي على حافة هوّة، أو لنقل فوقها. هذا التجاذب الحماسي يرسم ربما صورة دقيقة ودائمة لحوارنا “المتفرد”، سواءٌ أكان حوراً منطوقاً، أو مكتوباً أو صامتاً. (التجاذب الحماسي لا يعود إلى “الترافق”، ونحن لم نستنفذ استعاراتنا). تقودنا هذه المتتالية، عدا ذلك، إلى التساؤل الذي ذكرتُه سابقا، ذاك المرتبط بالسيميولوجي والدّلالي، بالكلمة، بالجملة والتسمية والكلام والحدث.
ـ ريكور: [...] إذن أنت مضطر لإثقال نظرية الكتابة بكل ما لم يتم القيام به في المكان المناسب، باعتبارها نظرية في الخطاب. فإذا كانت نظرية الخطاب قد أُقيمت، فسيكون بوسعها أن تأخذ بعين الإعتبار خصائص الكتابة التي بينتًها، لأنه داخل الخطابية نفسها توجد جميع الصفات التي نسبتَها للكتابة. إن هذا المشكل هو ما أودّ، من جهتي، أن أناقشه معك قليلاً.
……..
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://philo.forumarabia.com
كمال صدقي
مدير المنتدى
كمال صدقي


ذكر
عدد الرسائل : 2399
العمر : 68
البلد : أفورار
العمل : متقاعد مُهتم بالدرس الفلسفي
تاريخ التسجيل : 20/12/2007

لماذا لا نفكر فلسفياً ؟ Empty
مُساهمةموضوع: رد: لماذا لا نفكر فلسفياً ؟   لماذا لا نفكر فلسفياً ؟ Clock10السبت سبتمبر 20, 2014 10:08 pm


موقف الجابري من العلمانية

محمد بنحماني
تقديــم
يعتبر مفهوم العلمانية من أكثر المفاهيم إثارة للجدل في الساحة الفكرية العربية المعاصرة. ويرتبط هذا الجدل في جزء كبير منه بالمناقشات الجارية الآن في أوروبا فيما يخص مراجعة مفهوم العلمانية انطلاقاً من المستجدات المعرفية والفلسفية لمابعد الحداثة. وهذا معناه أن الفكر العربي المعاصر لم يكن لامبالياً إزاء هذه المراجعة بل ساهم فيها من موقعه الخاص. وهذا ما يفسر حضور هذا المفهوم في قاموس هذا الفكر تحت مسميات متعددة ومتضادة، حتى عند نفس المفكر. وهكذا نجد مثلاً محمد آركون يتحدث عن العلمانية المنفتحة والعلمانوية الضيقة، أما المفكر عادل ضاهر فيميز بين العلمانية الصلبة والعلمانية اللينة، ومحمد المصباحي يتحدث عن العلمانية ومابعدها، كما أن ناصيف نصار يتحدث عن ثلاثة دلالات للعلمانية هي: العلمانية السياسية أوالضيقة، والعلمانية التنويرية أوالموسعة، والعلمانية كخروج من هيمنة الدين.
هذا ورغم دعوة الجابري إلى شطب هذا المفهوم من قاموس الفكر العربي الحديث والمعاصر، واعتباره عنواناً لذلك الشعار الزائف والملتبس في هذا الفكر، فإن هذه الدعوة مع ذلك يمكن تأطيرها هي بدورها ضمن حملة مراجعة مفهوم العلمانية هاته، حتى وإن كانت تتخذ كمرجعية لها التراث العربي الإسلامي والحداثة، وليس مابعدها. تلك الحداثة التي تشكل العلمانية عنوانها الأبرز في بعدها السياسي، وذلك إلى جانب كل من الديمقراطية والعقلانية. فما هي إذن مظاهر لبس شعار العلمانية في الفكر العربي الحديث والمعاصر حسب الجابري؟ وكيف يمكن اعتبار شعار العقلانية والديمقراطية بديلاً عن شعار العلمانية وليس مرادفاً له؟ وإلى أي حد تجاوز هذا الأخير التباسية هذا الشعار وسوء التفاهم حوله؟
I. العلمانية كشعار ملتبس
إن التباسية شعار العلمانية في الفكر العربي الحديث والمعاصر، حسب الجابري، تعبر عن نفسها أولاW في ترجمة كلمة “لائيكية” الفرنسية بكلمة “علمانية”، وهي ترجمة عربية غير موفقة. فكلمة “لايك” لا علاقة لها من الناحية الاشتقاقية بكلمة “علم” التي اشتق منها لفظ “علمانية “. فهي كلمة مشتقة في الأصل من كلمة “لايكوس” اليونانية، ومعناها ما ينتمي إلى الشعب أي عامة الناس، في مقابل “الإكليروس” أي الكهنوت أو رجال الدين (المسيحيون) كخاصة المجتمع. فالمعنى الأصلي لـ “اللايكي هو كل من ليس كهنوتياً، من لاينتمي إلى رجال الكنيسة”(1)، لكن هذه الكلمة استعملت في غير هذا المعنى في اللغة الفرنسية بحيث أصبحت تدل على العداء للدين ورجاله. هذا مع العلم كما يقول جان لاكروا أن “فكرة اللايكية ليست المقابل المعارض لفكرة الدين، ولكنها تستدعي على الأقل التمييز بين ما هو دنيوي وما هو مقدس. إنها تفترض أن جانباً من الحياة البشرية لا يخضع لقبضة التعاليم الدينية، أو على الأقل يقع خارج سلطة رجال الدين”(2)، فإذا كان ممثلو هذه السلطة (رجال الكنيسة) قد اختصوا بتلقين التربية الدينية في الكنيسة، فإن الدولة قد اختصت بتدريس العلوم الرياضية والطبيعية والإنسانية. ومن هنا سيتم ربط اللايكية بتدريس العلم ومن هنا جاءت “العلمانية” كعنوان لكل ما هو علمي وعقلي ودنيوي، والمتميز عن ما هو ديني ولاهوتي.
لكن سواء أخذنا العلمانية باعتبارها هي ما ليس كهنوتياً، أو بما هي النقيض المباشر للدين، فهي في نشأتها مرتبطة بخاصية مميزة للمجتمع الأوروبي في عصر النهضة هي الصراع حول الحكم بين مؤسستين هما الكنيسة كرمز للسلطة الدينية وكوسيط مفترض بين الفرد والله، وبين الدولة كرمز للسلطة الدنيوية. صراع رفع فيه العلمانيون الأوروبيون شعار الفصل بين الدين والدولة كطريق ملكي مؤدي إلى الحداثة السياسية. لكن وجه اللبس الآخر بالنسبة للعلمانيين العرب هو أنهم رفعوا نفس الشعار في مجتمع لا وجود فيه لمؤسسة دينية تتوسط بين الفرد والله وبالتالي لا وجود فيه لثنائية الدين والدولة تقتضي فصل أحدهما عن الآخر. فـ “الإسلام ليس كنيسة حتى نفصله عن الدولة”(3). حقيقة بأن هذا الشعار رفع لأول مرة في منتصف القرن التاسع عشر من طرف مفكرين مسيحيين من الشام، من أجل المطالبة باستقلال البلدان العربية الخاضعة للخلافة العثمانية التي كانت تمارس الاضطهاد الديني والسياسي على أقليات دينية وطنية وعلى رأسها الديانة المسيحية. وبذلك خلط هؤلاء بين شعار العلمانية وشعار الاستقلال والوحدة(4). فهذه البلدان العربية كما يقول الجابري: “كان من المقبول تماماً أن تطرح المسألة على أنها مسألة دين ودولة، ونوع العلاقة الواجب إقامتها بينهما، ولكن لا على أنه مشكلة “العلمانية” بالمفهوم الأوروبي للكلمة، بل على أنه مشكل الديمقراطية، أعني مشكل تنظيم السلطة داخل دولة وطنية حديثة”(5). وقد تم تكريس نفس اللبس في القرن العشرين بعد استقلال الدول العربية، فقد تم طرح شعار العلمانية من جديد، وخاصة في الأقطار العربية التي توجد بها أقليات دينية، وذلك من
أجل المطالبة ببناء الدولة العربية على أساس ديمقراطي عقلاني، وليس على أساس الهيمنة الدينية(6)على جميع المجتمعات العربية، دون مراعاة خصوصياتها وكذا المراحل التاريخية المتباينة فيما بينها، وكأن هناك نموذجاً واحداً للتقدم والتحديث يمكن تعميمه على كل هذه المجتمعات هو النموذج العلماني.
وهكذا ففي الحالتين معا فإن أنصار العلمانية عبروا عن مطلبي الديمقراطية والعقلانيته لكن تحت شعار العلمانية، الشيء الذي أفقد هذين المطلبين معقوليتهما وضروريتهما وكذلك مشروعيتهما.(7). وتجاوزاً منه لهذه الالتباسات يرى الجابري بأن المطلوب شطب مفهوم العلمانية من قاموس الفكر العربي الحديث والمعاصر، مادام لا مجال للحديث في المجتمع العربي الإسلامي لا عن ثنائية دين/دولة، ولا عن حاجة الفصل بينهما كسلطتين متصارعتين، ولا عن طريق واحد للتقدم والتحديث يوحد المجتمعات العربية فيما بينها، أوبينها وبين المجتمع الأوروبي. فإذا كان المشكل الجوهري في المجتمع العربي الإسلامي ظل وسيظل هو شكل الدولة وطبيعتها، فإن الحفاظ على هذا المشكل وطرحه كما هو وفي وضوحه وبساطته، يفترض التعبير عنه برفع شعار العقلانية والديمقراطية وليس شعار العلمانية(Cool.
ولابد من الإشارة هنا إلى أن هذا الموقف الجابري النقدي من العلمانية، هو موقف لا يمكن استيعابه إلا إذا أخذنا بعين الاعتبار الرؤية فلسفية الصادر عنها. تلك الرؤية التي وفقها يعمل صاحب نحن والتراث على إعادة بناء علاقة الحداثة، والتي تشكل العلمانية إحدى تجلياتها، بالتراث، لتصبح علاقة فصل ووصل، بموجبها يكون كل منهما مناسبا للآخر متفاعلاً معه. إنها إعادة بناء تروم كما يقول المصباحي، تخليص الفكر العربي المعاصر من استلابه المزدوج، أي استلابه اتجاه الفكر الحداثي الأوروبي، واتجاه التراث العربي الإسلامي معاً. وبذلك فإعادة البناء التي يدعو إليها الجابري هنا سوف لن تتجه رأسا إلى تأصيل مفهوم العلمانية، كمفهوم حداثي، في التراث، وإنما تتجه إلى الحاجات التي يحيل عليها هذا المفهوم، للتمييز بينها وبين الحاجات الملحة بالنسبة للعالم العربي. فالعلمانية شعار يعبر عن الحاجة إلى الحداثة السياسية من منطلق فصل الدين عن الدولة وهذا ما لا يتقبله تراثنا العربي والإسلامي ولا حاضرنا التواق إلى الحداثة. فهذه الحاجة للحداثة السياسية تفقد معقوليتها وموضوعيتها وأصالتها في العالم العربي عندما يتم التعبير عنها من خلال هذا الشعار. لذلك المفروض مراعاة خصوصياتنا الحضارية الإسلامية للتعبير عن حاجتنا لهذه الحداثة. هذه الحاجة التي لا يمكنها أن تحافظ على معقوليتها وموضوعيتها إلا برفع شعار بديل هو شعار الديمقراطية والعقلانية. والذي تحت رايته يمكن حل مشكل الفصل بين الدين والدولة بالنسبة للدول العربية التي تعاني منه.إنه فصل لا يمكنه أن يحل إلا في إطار نظام حكم ديمقراطي وعقلاني. لأن “الديمقراطية تعني حفظ الحقوق، حقوق الأفراد وحقوق الجماعات، والعقلانية تعني الصدور في الممارسات السياسية عن العقل ومعاييره المنطقية والأخلاقية وليس عن الهوى والتعصب وتقلبات المزاج”(9).
وتجسيداً منه لعملية إعادة البناء هاته لعلاقة الحداثة بالتراث، فإن الجابري سيعمل أولاً على رصد كيفية طرح علاقة الدين بالدولة في ما يسميه بالمرجعية التراثية السياسية والفكرية الرسمية، كما سيعمل ثانياً على تحليل عناصر الموقف الذي تتبناه هذه المرجعية إزاء هذه العلاقة وبالتالي إزاء طبيعة السلطة السياسية في الإسلام، وثالثاً العمل على رصد الكيفية التي طرحت بها علاقة الدين بالدولة في المرجعية النهضوية العربية الحديثة والمعاصرة، ورابعاً وأخيراً تحديد موقع هذا الحل النهضوي لهذه العلاقة بالواقع العربي الراهن، وما يطمح إليه من حداثة سياسية قوامها العقلانية والديمقراطية.
II. كيفية طرح علاقة الدين بالدولة في المرجعية التراثية الرسمية.
إن المرجعية التراثية المقصودة هنا هي التاريخ الإسلامي السياسي والفكري، الرسمي بالخصوص. والذي يمتد من ظهور الإسلام إلى أوائل القرن الماضي(10)، وهو يشكل فترة تاريخية كان فيها الإسلام، حسب الجابري، يجسد هوية حضارية مستقلة بذاتها، في إطارها فكر المثقفون العرب والمسلمون. والمبدأ المؤسس لهذه المرجعية هو كون كل ما يوضع في مقابل الإسلام (كالدولة مثلاً) فليس من الإسلام أي أنه يهدد هوية المسلمين الحضارية. من هنا فهذه المرجعية لا تحتمل في نظر صاحب “نحن والتراث” الحديث عن ثنائية دين/دولة، ولا طرح السؤال عن طبيعة العلاقة بينهما، لأنه لم يكن هناك في التاريخ الإسلامي بمجمله “دين” متميز أو يقبل التمييز والفصل عن الدولة، كما لم يكن هناك قط دولة قابلة للانفصال عن الدين. فكل طرح لثنائية الدين والدولة قوامها الفصل بين الطرفين في هذه المرجعية التراثية، كان سيفهم كاعتداء على الإسلام ودعوة للقضاء عليه. كما سيفهم منه الآن نقل مشكلة علاقة الدين بالدولة، كما طرحت إبان عصري النهضة والأنوار بأوروبا، نقلا حرفيا إلى المجتمع العربي الإسلامي(11)، وينبهنا الجابري هنا بأن الاقتناع التام الذي كان سائداً في تاريخ الإسلام بأن هذا الأخير دين ودولة، هو اقتناع يجد تفسيره في كون شكل الدولة “لم يحدد لا بنص قرآني ولا بحديث نبوي [...]، فقد ترك الإسلام المسألة لاجتهاد المسلمين”(12). وفي غياب هذا النص تبقى تجربة الحكم في التاريخ االعربي الإسلامي، هي حصيلة اجتهادات محكومة بما تمليه المصلحة والمنفعة حسب مقياس كل عصر.(13)
وهكذا فإن السؤال الذي سيطرح في إطار هذه الاجتهادات ليس هو، هل الإسلام دين ودولة؟ أو أية علاقة يجب أن تكون بين الدين والدولة في الإسلام؟ كما يعتقد ذلك العلمانيون من العرب، بل هو سؤال: ما طبيعة السلطة الحاكمة في الإسلام؟

III. الإجابة التي تقدمها المرجعية التراثية الرسمية بشأن السؤال حول طبيعة السلطة السياسية في الإسلام.
إن تحديد الإجابة التراثية على هذا السؤال تقتضي حسب الجابري الوقوف عند الاعتبارات التالية: الاعتبار الأول هو أن الإسلام في هذه المرجعية ظهر في مجتمع لاوجود فيه للدولة، وأن الدولة العربية الإسلامية نشأت بتواز مع نشر الدعوة الإسلامية وما رافقها من فتوحات أظهرت العرب كقوة عالمية، فنشوء هذه الدولة كان إذن تدريجيا لكن بوتائر سريعة(14)، وبموجب هذه المعطيات التاريخية يتضح بأن النبي محمد لم يكن من أهدافه الأولى إنشاء دولة، إذ لا وجود لأي حديث نبوي يؤكد هذا، بل إنه قد أخبر عنه بأنه رفض منصب الرئاسة أو الزعامة مقابل التخلي عن هدفه الأساسي الذي هو نشر الدعوة الإسلامية. الاعتبار الثاني هو: إنه لا وجود في القرآن ما يفيد بأن الدعوة الإسلامية هي دعوة لإنشاء دولة. الاعتبار الثالث هو كون “القرآن يتضمن أحكاماً يأمر المسلمين العمل بها وأن من بين هذه الأحكام ما يتطلب سلطة تنوب عن الجماعة في تنفيذه، كالسرقة مثلاً”(15)، والاعتبار الرابع ويتعلق بتنفيذ هذه الأحكام والذي أدى إلى تطور الدعوة الإسلامية إلى دولة منظمة ذات مؤسسات تطورت واتسعت مع اتساع رقعة العالم الإسلامي(16). إن هذه الاعتبارات السالفة الذكر تتضافر مع التجربة التاريخية الإسلامية حول مسألة الخلافة وما أثارته من نقاشات كلامية وفقهية يستخلص منها الجابري كونها لم تثر بصددها أبداً مسألة علاقة الإسلام بالدولة، بل أثير بدلاً عنها مسألة “ولي الأمر” كموضوع لاجتهادات ستختلف باختلاف العصور. لأن «مفهوم “ولي الأمر” في الإسلام مفهوم متسع يصدق على رئيس العائلة وعلى رئيس القبيلة كما يصدق على الفقيه وعلى الحاكم المسلم في دار الإسلام سواء كان والياً أو أميراً أو خليفة»(17). وتحول مسألة “ولي الأمر” إلى موضوع للاجتهاد، إنما يعني أن الأمر الجوهري بالنسبة للمرجعية التراثية الرسمية كان هو طبيعة الحكم في الإسلام وليست علاقة الدين بالدولة كما يعتقد أنصار العلمانية. لكن بما أن الأمر يتعلق في هذه المرجعية بتسفيه لشعار العلمانية، فهذا لا يعني كما يدعي أنصار الفكر الإسلامي المعاصر بأن الشعار البديل الذي كان مطروحاً في التراث السياسي هو “الإسلام هو الحل”. فهذا الشعار نفسه كان غير ذي موضوع بالنسبة للإنسان المسلم “إذ كيف يمكن أن يكون الشخص مسلماً دون أن يعتقد أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان وأنه هو الحل دائماً”(18)، وبما أن هذا الشعار كان وسيظل غير ذي موضوع بالنسبة للمسلمين، فإن طرحه سيتخذ شكل شعار سياسي وإيديولوجي في مواجهة شعارات أخرى وعلى رأسها شعار العلمانية اليوم. وهنا يصبح التساؤل مشروعاً عن مضمونه، أي عن نظام الحكم الذي يبشر به في ارتباطه بمرحلة تاريخية معينة، بما في ذلك مرحلتنا المعاصرة وما تحيل عليه من مشاكل وقضايا. وهنا كما يقول الجابري يفاجأ المرء بفراغ. حقيقة أن رافعي هذا الشعار يقولون بأن ما يقصدونه من شعارهم هذا هو نظام الحكم الإسلامي المجسد لقيم الشورى والعدل والإخاء، لكن هذه قيم إنسانية كونية وخالدة وليست فروضاً أو واجبات مطروحة على الحاكم. وهذا ما يفسر طرحها في كل الديانات وكذا في كل المذاهب السياسية والاجتماعية(19). من هنا يجب أن يرتبط هذا الشعار “الإسلام هو الحل” باجتهادات حول نظام الحكم. وعندما يقول الجابري هنا “اجتهادات” فذلك ارتباطاً بما يسميه بـ “الفراغ الدستوري” أو”الثغرات الدستورية” في نظام الحكم في الإسلام عبرت عن نفسها في غياب أي نص تشريعي ديني ينظم مسألة الحكم لا في الكتاب ولا في السنة. كما قلنا سابقاً. كما أن النبي لم يترك بعد وفاته وصية تحدد من سيخلفه ولا كيفية طريقة تعيينه ولا اختصاصاته ولا مدة ولايته. لذلك فقد بقيت مسألة الحكم في الإسلام تنتمي إلى جنس المسائل التي يصدق عليها قول النبي: «أنتم أدرى بشؤون دنياكم، فهي إذن متروكة لـ “الدراية” و”الاجتهاد”»(20). وهكذا فإن هذا الاجتهاد وما أدى إليه من بلورة لمجموعة من المبادئ الأخلاقية في الفكر السياسي التراثي، هو ما سيشكل دروساً تراثية في السياسة يفترض استثمارها في الحاضر العربي لمواجهة أنصار العلمانية.
….. التتمة في العدد
أفلاطون وفكر الاختلاف

نزهة الحلواني
إن الانتصار للمفكرين المعاصرين باعتبارهم مبتكري فكر الاختلاف الوحيدين يحجب حقيقة تاريخية وهي أنهم ورثة تاريخ إشكالي يمتد إلى الفلسفة الأفلاطونية ولعلّ فهم الأفلاطونية بأنها الفلسفة التي تميز بين عالم الماهيات وعالم المحسوسات يغيّب أصالة فلسفة ربّما تكون أقل عمقاً من فكر الماقبل سقراطيين وأقل شجاعة من مواقف الخطباء السفسطائيين، ولكنها توصلت إلى الكشف عن السؤال الأصيل للفلسفة وهو سؤال الفلسفة عن إمكاناتها من خلال تفكرها في طبيعتها وفي المفاهيم والمناهج التي تحددها وقد نبهت ديكسو إلى ضرورة التخلي عن استصدار أحكام متسرعة والتوجه عوضاً عن ذلك نحو اقتفاء وتيرة الفكر الأفلاطوني الذي إذا كان دشّن بالفعل سؤال الفلسفة الأصيل فلأنه أقامه على مبدأ يعترف بضرورة الكثرة والاختلاف حيث نجح أفلاطون في شد كل المتناقضات والجمع بينها جمعاً لا يحتمل الفرق والفصل لكن دون صهر ودون إذابة لما بينها من فروق.
بصفة أخرى وكما يقول جامبي: “لا يجب أن نبحث عند أفلاطون عن حقيقة ايجابية”(1). حضور السلب عند أفلاطون تمثل في صراع الأضداد، فعندما طرح أفلاطون سؤال الكينونة فأنه واجهه بمبحث اللاكينونة كما أن البرهنة على عالم المثل تطلبت الاعتراف بضرورة مشاركته للعالم المحسوس. أما في المجال الإبستيمولوجي فإن الاختلاف هو شرط كلّ معرفة ممكنة حيث يقول أفلاطون في التيتاوس(209 A):
“la raison, c’est l’expression de la différenciation”
“إن اللوغوس هو التعبير عن التفرقة” لقد استعمل اللسان الاغريقي hermereia للدلالة على expression كما استعمل diaphoratetos للدلالة على differenciation وتحتوي لفظة diaphoro على جزئين البادئة dia التي إذا ما دخلت على لفظ إصابته بمعاني الفصل والتمييز والجذر phora وهو من فعل phernein ويدل على الواسطة، ومن معاني ديافورا اليونانية الاختلاف ومنه التباين والتنوع والتكثر والتغاير ومن اللافت للانتباه إن أفلاطون يماثل بين الغيرية Alterité /heterotes والاختلاف، وقد تكثف حضور مفهوم الديافورا خاصة في محاورات السياسي والسفسطائي والتيتاوس. فطرح الاشكال الأبستيمولوجي متعالق مع فعل إدراك الاختلاف ذاته. إذ أن مجال اللوغوس هو مجال العلاقات والكثرة والاختلاف لذلك فإن المأزق النظري الذي واجهته الأفلاطونية عند محاولة البرهنة على الوحدة الخالصة تمثل في عجز اللوغوس عن معرفة الواحد رغم أنه انطولوجيا يعبر عن أصالة وحقيقة الكينونة إلا أن الوحدة الخالصة من كلّ غيرية والمنعزلة عن بقية الأشياء لا يمكن أن تنقال في مستوى الخطاب الفلسفي، كما أن اللوغوس يعجز عن معرفتها إذ: “لا يمكن للأسماء أن تنتمي إليه ولا التحليلات (اللوغوس) أو العلوم (الابستماي) أو الإدراك… فلا يمكن إذن لأي كان ان ان يعرفه”(2).
إن حمل اللوغوس على ضرورة إدراك الاختلاف والكثرة في الفكر الأفلاطوني كان محرجاً لفيلسوف ابدى الكثير من الارتياب اتجاه المحسوس في بحثه عن الاشياء في ذاتها ولكن التمشيات الفلسفية الأفلاطونية تضمنت عناصر نقدها الذاتي عندما جعلت من اقتضاءات الجدل داخل المحاورات هو التعريف، والتعريف (définition) عبّر عنه اللسان الاغريقي بـ (horismos) أي الاعتراف بالحد (horoi) الذي يفصل بين الاشياء للاقرار بتمايزها، فلا غرو أن يكون في اختلاف مواضيع الجدل أساس فعل التفلسف ذاته. وعلى هذا النحو موضع أفلاطون الكثرة في صميم الحوارية بحيث لا فكاك بين طبيعة الخطاب والاختلاف.
إن اعتراف الأفلاطونية بالمختلف تطلّب تمرداً على الأب بارمنيدس وقتله. ولكن دخول الفلسفة الأفلاطونية في مجال العلاقات زعزع الهمّ الأفلاطوني الباحث عن الثبات والاستقرار. فمجال العلاقات يتسم بالحركية والديناميكية ويفضح الانشطارات والتحولات داخل المواقع التي اعتبرت مواقع الانسجام والوحدة ليغدو تمجيد الاتصال والوحدة تمجيدا للصيرورة خاصة وإن الفكر الأفلاطوني يعجز في كثير من الأحيان عن إحكام قبضته على هذه المتناقضات، فتنقلب الأدوار ويصبح المتخيل أو اللاكينونة، الأسطورة أو الحسي، الرغبة والانفعالات، أساساً للتفكير الفلسفي.
إذن، قد لا يسع هذا العمل الوجيز الوقوف عند كلّ اللحظات التي حاورت فيها الأفلاطونية المغاير والمختلف لذلك سنركز على جانب من أنطولوجيا أفلاطون حيث بدى لنا من السديد الكشف عن اعتراف أفلاطون بالمغاير والمختلف عند البحث عن ماهية الكينونة. لنخلص الى المنزلة الفعلية للسيمولاكر في فلسفة استشعرت مخاطر صراع بات محتوما بين المتناقضات.
أ. الكينونة والغيرية
إن التطرق لأنطولوجيا أفلاطون في محاورة السفسطائي يحتم علينا النظر في مقولة الأجناس الخمسة التي انتقل أفلاطون من خلالها إلى فحص طبيعة مشاركة الأجناس فيما بينها. فبعد اعتراف أفلاطون باللاكينونة، كان لابد من توضيح طبيعة مشاركتها للكينونة. وقد أدرك أفلاطون ضرورة إعادة بناء السياق الفلسفي لهذه الأنطولوجيا التي أصبحت مكونة من خمسة عناصر أساسية وهي الحركة والسكون والكينونة والهوهو والغيرية إذ يقول الغريب: ” [...]لأننا اتفقنا أن هناك خمسة أنواع وفي المجال الذي اقترحنا أن نصنع التحقيق عنه”(3).
لقد جذرت الفلسفة الأفلاطونية الاختلاف في سؤال الكينونة خاصة بعد يتم الأفلاطونية أثر “موت الأب” وقد كان هذا اليتم حافزاً للفكر الأفلاطوني حتى يدخل في صراع العمالقة بين “أصدقاء المثل” و”أبناء الأرض” ولكن معاني الكينونة لا يمكن أن تختزل في الوحدة أو الكثرة ولا في الثبات أو الحركة كما أنها ليست “الكل” الذي يجمع الأضداد إذن: ما الكينونة؟
لقد اعتبرت ديكسو أن: “سؤال الكينونة من زاوية ما يمكن أن تغيبه يمثل الصيغة الوحيدة المقبولة لهذه المسألة، ولكن هذا السؤال ليس أنطولوجيا ولا منطقيا، انه سؤال الفلسفة”(4). فعندما طرحت الأنطولوجيا سؤال الكينونة في الكتاب الخامس من الجمهورية قدمت تصنيفاً وترتيباً لأنماط الكائنات ولكن هذا الترتيب لا تتخلله وسائط بين مختلف أنماطه، فقد أغفل هذا التصنيف الأسلوب الخاص للكائنات التي تتضمن في تنوعها واختلافها التغاير كما التقابل الذي يكسب الاختلاف معنى ايجابياً وقد تفطنت محاورة السفسطائي إلى هذه الدلالات بحيث لم تعد الكينونة مبدأ للتصنيف والترتيب وفق درجات أنطولوجية، لأن هذا المبدأ يقوم على سوء فهم لمعاني اللاكينونة التي لا تقل وجوداً عن الكينونة، بل يجب أن تفهم اللاكينونة على أنها “غير” وعلى هذا الأساس يجب فهم العلاقة بين المعقول والمحسوس أيضاًً، فالمعقول والمحسوس لا يختلفان من حيث منزلتهما الأنطولوجية، المحسوس لا يقل وجوداً عن المعقول الذي يتميز عن المحسوس باعتباره خاضعاً لمبادئ اللوغوس، وقد أكدت ديكسو ذلك بقولها: “إن أفلاطون وكما فهمه أفلوطين جيداً لم يماه بين الكينونة والقيمة ولكنه، وهنا أساء أفلوطين فهمه، لم يماه بين الكينونة والعالم المعقول”(5).
فالكينونة باعتبارها جنساً ضمن بقية الأجناس هي غير ولا تتميز عنها لا من حيث المرتبة أو الشرف وقد ورد على لسان الغريب في محاورة السفسطائي قوله: “الغريب: ويمكن أن يقال إن الكينونة نفسها تكون غيراً من الأنواع الأخرى [...] يمكننا أن نستنتج أن الكينونة لا تكون إذن، فيما يخص أشياء أخرى عديدة كما يكون وجودها، لأن اللاكينونة لهذه تكون هي نفسها واحدا ولا تكون الأشياء الأخرى التي هي غير محدودة في العدد”(6).
وقد نعثر على امتياز للكينونة في محاورة السفسطائي يتمثل في أن الكل يشارك في الكينونة ولكن هذا الامتياز يعود على “الغيرية” وعلى “الهو هو” اللذين يشارك الكل فيهما أيضاًً. أما فيما يخص الحركة والسكون فإن علاقتهما بالكينونة مختلفة عن بقية الأجناس، فالحركة توجد مثلما السكون يوجد، ولا يمكننا القول بأن الحركة هي السكون ولا يمكننا القول كذلك بأن الكينونة هي الحركة والسكون وذلك لأن الكينونة خارجة عن هذه الأمية . فالكينونة هي إذن غير الحركة وغير السكون وهي الجنس الثالث ولأنها خارجة عن الحركة والسكون فالكينونة لا يمكنها أن تتحد لا بالحركة ولا بالسكون لأنها لا تتماهى مع الحركة والسكون، فإذا ما تماهت مع أحدهما فإن الحركة والسكون يصبحان شيئاً واحداً في حين أنهما متقابلان بإطلاق.
إذن، وكما يقول ريكور: “الكينونة هي ما يسيطر على ذلك التقابل بين الحركة والسكون، ففي لغة أفلاطون هذان مثالان متنافرن ولكن الكينونة “تتدخل” (se mêle) فيهما، فالحركة والسكون يشاركان في الكينونة”(7).
فلسفات الحركة والثبات لم تتفكر بعد في الكينونة لأنها بقيت في حدود الكائن الأنطيقي ولم تستطع الارتقاء نحو المسائل الأنطولوجية. لذلك، فإن هذه الفلسفات سرعان ما تتهاوى أمام أول خصومة أنطولوجية تواجهها. ولكن من أين ينشأ الجنس الرابع والخامس أي عين الذات والغير؟
إنهما ينشآن بلا منازع من خلال علاقة الأجناس الثلاثة السابقة، فكل من الحركة والسكون والكينونة هو عين ذاته وهو غير بالنسبة إلى الآخرين، إذ أن التفكر في الأجناس الثلاثة السابقة لا يتم إلا من خلال الهوية والغيرية اللذين على عكس الحركة والسكون يمكن أن يتشاركا فيما بينهما ويمكن للكينونة أن تشاركهما معاً دون الوقوع في التناقض كقولنا: الكينونة هي عين ذاتها وهي غير. فهذه القضية صادقة باعتبار أن الكينونة هي عين ذاتها لأنها مطابقة لذاتها حتى تحافظ على هويتها وهي غير مقارنة بالأجناس الأخرى.
وما ينبغي أن ننبه إليه وقد تفطن إليه ريكور هو: ” [...] إن للغير امتيازاً على الكينونة كما هو الشأن منذ قليل في علاقة الكينونة بالحركة والسكون. فللغير خصوصية متميزة مكنته من أن يكون المقولة التي تنعكس على علاقة كل المقولات”(Cool.
فالكينونة هي الجنس الثالث بشرط أن يكون هنالك جنس خامس، الكينونة مشروطة بالغيرية أي أن كينونة شيء ما مشروطة بلا كينونتها، فأن يكون شيء ما مطابقاً لذاته يستلزم ذلك أن يكون مغايراً للأشياء الأخرى، فالعلاقة التلازمية بين الكينونة واللاكينونة دعمها القول الأفلاطوني في محاورة السفسطائي: “الغريب: لا تدع أي شخص يقول إذن، إن اللاكينونة التي جازفنا لنؤكد وجودها الحقيقي أنها تكون مضادة للكينونة، لأنه مثل ما إذا وجد تضاد للكينونة، فلقد قلنا وداعاً لذلك التساؤل منذ زمن ـ يمكنها أولاً يمكنها أن تكون أو يمكنها أو لا يمكنها أن تكون قادرة على أن تعرف. لكن فيما يتعلق بحسابنا الحاضر عن اللاكينونة، دع إنساناً يقنعنا بالخطأ، وإذا لم يستطع، فيجب عليه أن يقول أيضاً كما كنا قائلين، أن هناك مشاركة للأنواع وأن الكينونة والفرق والغير يعبر ويخترق كل الأشياء بشكل متبادل. هكذا كي يشارك الغير في الكينونة وبسبب هذه المشاركة فهي تكون، ومع ذلك فهي لا تكون في ذلك الذي تشارك، بل غيرا من الكينونة، فإنه لمن الضروري أنها لا كينونة بوضوح وتصبح الكينونة مرة ثانية من خلال مشاركتها في الغير، يصبح نوعاً غيراً من الأنواع الباقية، وكونه غيراً منها جميعاً، لا تكون كل واحد منها، ولا يكون كل الباقي”(9).
على هذا النحو فإن طبيعة العلاقة بين الأجناس الخمسة تمكننا من فهم حركة المعقولات أو المثل التي تقتفي أثر حركة الديالكتيكا في عملية القسمة والتجميع مما يولد حركة وتغيراً للمثل تصبح بمقتضاها مختلفة عن عين ذاتها ولكن غيريتها لا تعني أنها أصبحت أقل مرتبة أنطولوجيا بل هي دليل على أن المثل تحمل طاقة متجددة من المعاني والدلالات. فالغيرية أو اللاكينونة والكينونة متلازمان حتى تتمكن الفلسفة من التفكر في الأنطولوجيا، وقد اعتبرت ديكسو: “حتى تكون مثل هذه الحركة ممكنة وحتى تتمكن الديالكتيكا باعتبارها نشاطا للفكر وحياة للمعقولات، يجب أن تكون الكينونة والغير مبثوثتان في كل مكان”(10).
إجمالاً، إن أنطولوجيا أفلاطون لا تخلو من خصومات وفواصل وعثرات، أما تفكرها في الكينونة فقد اشترط حضور اللاكينونة أو الغير ليصبح الاختلاف هو ما يشد وحدة الأنطولوجيا ضمن حركة الانفصال والتصدع. ولكن أفلاطون فهم هذا الاختلاف رغم ضرورته على أنّه حركة نحو التوحيد والاتصال ويهدف للحفاظ على مفهوم منسجم ومتناغم للأنطولوجيا والإبقاء على اللوغوس كدوام واستمرار واتصال ضمن حركة الجدل.
….. التتمة في العدد
الفلسفة النسوية وإشكالية المنهج
جدل فلسفي بين
«پاثلر»، «بنحبيب» و «فريزر»
عزيز الهلالي
عرفت السيرورة الانتاجية للتفكير النسوي إرثا هاما داخل مربع زمني قصير،بالنظر إلى الهيمنة المعرفية والعلمية والثقافية، الذي دشنه الخطاب الذكوري بوصفه قطباً مركزياً. ومع ذلك إذا شئنا أن نتحدث بلغة التأصيل الفلسفي، فإننا نجد فيلسوفات لامعات سجلن حضورهن منذ فجر الفلسفة في القرن السادس قبل الميلاد وساهمن في تطوير الحركة الفلسفية، مثل «ثيانو Theano زوجة فيتاغوراس وبناتها الثلاث: اريجنوت Arignote ومييا Myia ودامو Damo اللاتي قمن برئاسة المدرسة الفيتاغورية بعد وفاة مؤسسها فيثاغورس»(1). وكامتداد للمدرسة الفيثاغورية حلَّت بعدهن الفيلسوفة إيزارا Aesara. كما نذكر حركة فلسفية نسوية مثلثها كل من جوليا دونا وديوثيما وهيباشيا وماكرينا في الفترة السقراطية والأفلاطونية والأرسطية.
لقد انتعشت في نهاية القرن 19 الحركة الفلسفية النسوية كنظرية مقاومة تعمل على ربط جسور التضامن بين أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية في إطار تصنيف تاريخي يعرف بالموجات الثلاث. وعلى هذه المساحة من الفعل النضالي والأكاديمي راكمت الحركة النسوية نظريات عديدة تقارب من خلالها إشكالات الإقصاء والعدالة والكونية والإنصاف والمساواة والاعتراف.
ويبدو أن التحولات العميقة في مسار الحركة النسوية دشنته من جهة، النظرية النقدية كمدرسة لها امتداد فلسفي وتاريخي منذ كانط مروراً بهيغل، وصولاً إلى مدرسة فرانكفورت. ومن جهة أخرى، نظرية مابعد الحداثة التي تمتد أولى حلقاتها من الفلسفة النيتشوية. ومن ثمة، سيتوج زخم مسارها مع المدرسة الفلسفية الفرنسية وبالضبط مع لاكان وفوكو ودريدا وبودريار.
ونظرا للأهمية التي تكتسيها كل من النظرية مابعد الحداثة والنظرية النقدية في معالجة إشكالات كبرى تتعلق بالقضايا النسوية، ارتأينا أن نركز على سؤال المنهج لكونه يشكل إحدى الإنشغالات الرئيسية لدى التيارات الأكاديمية النسوية. ويمكن اعتبار تعدد المناهج (المنهج الليبرالي والماركسي والوجودي والبنيوي) في مقاربة الهويات السياسية استراتيجية منظمة للكشف عن الإحراجات النظرية والمغالطات التصورية. ومن هذا المنطلق، سنعمل على عقد حوار منهجي بين سيلا بنحبيب (1950) أحد رواد مدرسة فراكفورت في نسختها الثالثة ومع يوديث باثلر (1956) التي تعتبر رقماً صعباً في المعادلة الفلسفية للفكر الفرنسي مابعد الحداثي. وبالرغم من أن الفيلسوفتين تحملان الجنسية الأمريكية، فإن الانتساب إلى هذه المدرسة أو تلك يتجاوز الرقعة الجغرافية بالنظر إلى أن الفكر في حالة ترحال دائم في فضاء المخيال اللاحدودي.
ينطلق هذا الحوار المنهجي من الأسئلة التالية: ما المنطلقات الفلسفية للمنهج النقدي والمنهج ما بعد الحداثي؟ ما أوجه التقاطع والاختلاف بينهما؟ وما الإضافات النوعية التي عزز بهما البناء النقدي النسوي؟
نسجل في هذا الحوار مساهمة الفيلسوفة نانسي فريزر، لكونها لم تكن خارج هذا السجال المنهجي.وإن التمعن في أطروحتها الفلسفية يوحي إليك بسؤال التصنيف وصعوبته. في الواقع يتعذر علينا تصنيفها، لأنها تنفلت من مقاييس التصنيفات المنهجية. تقع فريزر خارج ثنائية المنهج النقدي وما بعد الحداثي. تنزلق تارة في اتجاه النظرية النقدية فيمسك المؤرخون بتلابيب هذا الانفلات ويضعونها ضمن تيار النظرية النقدية. ونجدها تارة أخرى، تدافع عن تيار مابعد البنيوية حتى يعتقد أن فريزر تمثل أحد الوجوه البارزة لهذا التيار.
ومن منطلق هذا الانفلات المنهجي يمكن أن نتساءل: إذا كان من الصعب تصنيف فريزر بالنظر إلى المقاييس المعمول بها، فهل تنجح نظريتها السياسية في تأسيس براديغم منهجي جديد؟ ثم، ماذا يعني الوقوف عند عتبة النظرية النقدية وما بعد الحداثة؟ هل التنازع بين النظريتين يعد إقراراً بمبدأ الانتصار المنهجي وسيادة صلاحياته في الفضاء الأكاديمي النسوي؟
I. مسارات ذاتية وفكرية
تنحدر سيلا بنحبيب (Seyla Benhabib) من أصول يهود الأتراك. بدأت مشوارها التعليمي في إسطنبول حيث ولدت. حصلت على دبلوم الإجازة في الإنسانيات بإعدادية الأمريكية الخاصة بالبنات، كما حصلت على دبلوم الإجازة في الفلسفة بجامعة براديز بالولايات المتحدة الأمريكية ودكتوراه الدولة من جامعة يال، حيث تدرس الآن العلوم السياسية والفلسفة. ولقد سبق لها أن درست الفلسفة بجامعة بوستون وفي المدرسة الجديدة من أجل البحث الاجتماعي وبجامعة هارفرد. وتعرف باهتمامها بتاريخ النظرية النقدية السياسية المعاصرة والنظرية النسوية. وبحكم انشغالاتها المتعددة اشتغلت مع هاربت ماركيوز (1889ـ1979). أما بخصوص قضايا النوع الاجتماعي فقد عملت إلى جانب كبار الفلاسفة والمفكرين بصيغة المؤنث مثل: يوديث شكلاك Judith Shklak، ودورسيل كوريل Durcell Corell، ويوديث ريسنيك Judith Resnik…
عملت كذلك مديرة برنامج الأخلاق والسياسة والاقتصاد (2002ـ2008). وكانت رئيسة لجمعية الفلسفة (2006ـ2007) للجهة الشرقية من أمريكا. كما أنها عضوة بالأكاديمية الأمريكية للفن والعلم منذ سنة 1995.حصلت بنحبيب على جائزة Ernest Bloch سنة 2009.
وتعتبر بنحبيب من الجيل الثالث لمدرسة فرانكفورت الألمانية، إلى جانب أكسيل هونت. وما يميز هذا الجيل هو الاهتمام بقضايا تخص التعددية الثقافية والكونية والصراع من أجل الاعتراف والإجماع والعدالة الاجتماعية…
تنطلق بنحبيب من إشكالية أساسية: كيف يمكن إدماج الهويات الثقافية في بنية الديموس؟ بمعنى آخر، كيف يمكن المصالحة بين مطالب الهويات المتعددة والمواثيق الدولية؟
يأتي هذا الإشكال في سياق معاناة ذاتية تحولت إلى أسئلة فلسفية كبرى: “من أنا؟” سؤال كان يتوارى خلف أمكنة عديدة ارتحلت إليها بنحبيب مع عائلتها. فمنذ 1492 وعناوين الهجرة والترحال يطبع مسار عائلتها، حيث بدأت أولى حلقاتها من إسبانيا على إثر حملة محاكم التفتيش التي تجبر المختلف عقائدياً على تغيير معتقداته الدينية. أمام هذا الوضع ارتحلت عائلة بنحبيب، خوفاً من المجازر وسياسة التعذيب، إلى تركيا إبان الحكم العثماني. كبر السؤال مع تفاصيل الحياة وبات هاجساً يرافق بنحبيب. ففي لقاءات فكرية يتم تقديمها على أنها فيلسوف(ة) يهودية وأنها تجيد التحدث بخمس لغات. يعكس هذا التقديم سؤال الهوية الجنسية والعرقية واللغوية. ولتعميق النظر في هذه الإشكالات تبنت بنحبيب إستراتيجية إعادة بناء النظرية النقدية وفق معايير أخلاقية، وفي نفس الآن، مارست الإجهاز على إحراجات نظرية تتعلق بفكرة السيادة والقانون والسياسة من جهة، وحقوق المرأة واللاجئ والمهاجر.. والعالم المعيش من جهة أخرى.
أما بخصوص أعمالها نذكر:
ـ Critique; Norm; and Utopia: A study of the Foundation of Critical Theory” (1986).
ـ “Democracy and Difference” (1996).
ـ “The claims of culture” (2002).
ـ “The Reluctant Modernism of Hannah Arendt”, (2003).
ـ “The Rights of others; Aliens; Residents and Citizens” (2004).
ـ “Transformations of Citizenship ” (2000).
ومن خلال هذه الأعمال تكون بنحبيب قد أرست دعائم أطروحتها إزاء إشكالية الاندماج الثقافي للهويات المنبوذة ونبذ “ثقافة الخالص” وفتح مسارب جديدة في فضاء الكونية الأخلاقية من خلال آلية السيادة والحدود. أما الحدود التي تدافع عنها فهي حدود مرنة ومفتوحة في وجه الهويات المتعددة.
أما يوديث باتلر Judith Butler فقد ولدت بـ كليفلاند Cleveland، حيث بدأت مشوارها التعليمي والفلسفي. حصلت على دكتوراه الدولة في الفلسفة من جامعة يال سنة 1984. تشتغل الآن منصب أستاذة البلاغة والأدب المقارن في جامعة بركلي بكاليفورنيا.تتوزع اهتماماتها بين الفلسفة والسياسة والأدب والقانون وعلم الاجتماع ودراسة الأفلام السينمائية.
لقد حصلت على جائزة أدورنو تقديراً لعملها حول “النظرية السياسية والفلسفة الأخلاقية ودراسات النوع الاجتماعي” (2012). تناولت في بعض أعمالها الفلسفة اليهودية، وبهذه المناسبة تتوجه بنقد شديد للصهيونية وهولوكوست الدولة العبرية. كما أنها عضوة بالمجلس الاستشاري لمنظمة “الصوت اليهودي من أجل السلام”. ولعلها من مؤيدي فرض عقوبات على إسرئيل ومقاطعتها من منطلق أن “اليهودية لا ترتبط بعنف الدولة” وأن “إسرائيل لا تمثل كل اليهود”.
تولد لدى باتلر اهتماماً خاصاً بالفلسفة في سن مبكرة. فهل من علاقة بين هذا الاهتمام الفلسفي وإرث هولوكست التي تحمله كطفلة يهودية؟ لقد حملت معها ندوباً وخدشاً في الروح من جراء عنف متعدد المصادر.فالسياق العام الاجتماعي والتاريخي مطبوعاً بالعنف الاجتماعي. وفي ظل هذه الأجواء كانت الطفلة يوديث تكثر من قراءة هيغل. فما علاقة هيغل بالعنف؟ وما معنى العودة إلى الفلسفة الهيغيلية في سياق العنف؟
يعاد إنتاج عنف هولوكست التي تحمله في ذاكرتها متسللاً، هذه المرة، عبر قنوات مفاهيمية مرعبة، مثل: معيار النوع. فهل بسبب النوع يطال الجسد عنفاً رمزياً ومادياً؟ فهل الاختلاف على مستوى النوع يقتضي الزج بالجسد خارج نسق الإنسانية؟
من أجل حرية النوع تصر باتلر على المقاومة من أجل البقاء. إن «هدف {ها} الفكري هو البقاء»(2). تقاوم العنف واللاعدالة من أجل الحياة. فجدلية العنف والبقاء تتولد من مقاييس مزعجة تمس المعايير السائدة، إنها معايير الغيرية الجنسية. أن تكون رجلاً أو امرأة هو تعاقد أخلاقي وإلزام قانوني وطبي. هنا تتداخل المعارف الطبية والقانونية والدينية لإضفاء الشرعية على الجنس. وما يزعج في هذه المعارف كونها تتشكل كسلطة. تتساءل باتلر: إذا كانت الرغبة تميل نحو نوع محدد فهل إمكانية البقاء بعيداً عن العنف أمر ممكن؟ أو بمعنى آخر، ما مصير النوع الذي لا يقع داخل الانغلاق المؤسساتي؟
تعلن باتلر عن نوعها بوصفها سحاقية، وتروي حكاية المعاناة والاضطرابات النفسية التي عاشتها وهي في سن السادسة عشر من عمرها. فهل تعترف سلطة المعيار بإنسانيتيها؟ أين تتموقع رغبتها وجسدها؟ أين يقع جسد الاختلاف؟ هل يمكن تحديد النوع اجتماعياً ليصبح أخلاقياً قابل للحياة؟ هل يمكن لمعيار الغيرية الجنسية أن يستوعب اختلاف النوع؟
تحمل باتلر أسئلتها وهي تستحضر صوراً شاحبة تكبدت مرارتها من جراء فقدان أصدقائها وعملها. كان ذلك تماماً مثل حال خالها الذي اعتقل بسبب “شذوذ جسده”. كما تتذكر باثلر “أجساد شاذة” هاجرت أماكنها ومساكن أسرها بسبب حملات العنف الممارس ضد رغباتهم. هذه الأحداث وغيرها دفعت باتلر إلى تكثيف مشاركتها في تعزيز حركات اجتماعية وممارسة التخصص في الجامعات الأكاديمية. كما أنها عاشرت فضاء الخمارات والنوادي الليلية حيث تمكنت من لقاء مختلف الأنواع. ويعتبر كتابها Gender Trouble (1991). خلاصة هذه التجربة التي تجمع بين الأكاديمي والنضالي والمجتمعي.
تنطلق باتلر من سؤال أساسي: “ما المقصود بالمرأة؟”. بعد أن كان السؤال يطرح بالصيغة التالية: “ماذا عن المرأة؟”. وفي لعبة السؤال تكون باتلر قد قامت بتفكيك ثانية الجنس مقابل النوع. الجنس مقولة بيولوجية أو لنقل قدر بيولوجي، في حين أن النوع هو بناء ثقافي. فإذن الجنس يتماهى مع تأويلات خارجية ترسم توابث المعنى. فمجمل التعاريف التي تتبنها الحركات النسوية لا تخرج عن هذه الثنائية.
تدفع باتلر بالقطيعة إلى حدودها القصوى ممركزة جهدها النظري حول مفهوم الرغبة والاعتراف. فالرغبة لا علاقة لها بالمعطى البيولوجي ولا يمكن اعتقالها في أسر معايير مغلقة. تسعى باتلر إلى ردم الحدود بين الجنس والنوع. فالهوية الجنسانية ليست قوالب أو تشكيلات نهائية. الهوية رغبة انسيابية تتحرك بحرية خارج قواعد الانضباط الجنساني. إنها فعل يخترق قواعد المعرفة والسلطة وقواعد المراقبة والعقاب وتطويع الجسد. لا يخضع النوع لإرادة الإلزام الأخلاقي ولا للأوامر المجتمعية. تقوم استراتيجيته على مقاومة الاحتقار والعنف التي ترسم دوائر العزل من خلال مفهوم “اللاطبيعي” و”المنحرف” و”الشاذ”..إن النوع يتشكل كإنجاز لغوي في إطار ممارسات طقوسية تكرارية لا تقف عند إشارة الحدود الوهمية. ومن ثمة، تميز باثلر بين مفهومين أساسين: الإنجازية Performativity والإنجاز Performance. الأولى تراهن على الحركية الزمانية حيث يتشكل البناء الثقافي ويتجدد بالنظر إلى أن النوع سيرورة وليس ماهية. في حين أن الثانية تعني ما هو ملموس وواقعي ونهائي أي ما يتشكل من خلال أفعال باعتباره “ماهية النوع”. وهنا تتحدث باثلر عن “أسلبة الجسد” Stylization of The Body. ويبدو أن الصورة التي رسمها كافكا في عمله “قبل القانون” (Before Low) يعبر بشكل جيد عن مضمون “أسلبة الجسد”. ما معنى أن ينتظر المرء خلف باب القانون سنين عدداً، ولما تساءل عن عدم وجود أناس إلى جانبه ينتظرون دورهم من أجل الدخول.أجابه الحارس البوابة أن هذا “المدخل معمول لك فقط. والآن علي بالرحيل وقفل الباب”. فقانون النوع انتهت مهمته بمجرد انتهائه من رسم مساطر الضبط المعياري بمنأى عن الآخر. والآخر لرفع شكواه يجب أن ينتظر الذي يأتي ولا يأتي. وبذلك يمتد مسلسل رحلة المعاناة الجسدية.
إن القضية التي انتدبت لها باثلر جهدها لا تروم الدفاع عن نوع ثالث مستقل، بل تقاوم من أجل الاعتراف بهويات خارج شرعية الغيرية الجنسية.
ويمكن أن نشير إلى أهم أعمال باثلر: Gender Trouble (1990) الذي حظي بانتشار كبير وكان محط اهتمام حركات ونظريات نسوية. وقد ظهر هذا الكتاب في وقت كانت فيه الحركة النسوية تحت تأثير أعمال نسوية ماركسية، مثل أندريا دووركين Andrea Dworkin وكاترين ماكينون Catherine Mackinnon. ثم، هناك أعمال أخرى تحمل العناوين التالية: “Bodies That Matter” (1993). و Excitable speech (1997). وUndoing Gender (2004). وSubjects of sex; Gender; Desire (2005)…بالإضافة إلى أعمال تندرج تحت إطار أعمال مشتركة.
أما نانسي فريزرNancy Fraser فإنها قضت سنواتها الأولى الجامعية في براي ماور Bry Mawr في فيلاديليفيا حيث تتواجد بكثرة الحركات النسوية. ثم تابعت رحلتها العلمية للحصول على شهادة الدكتوراه بنيويورك، وهناك بدأت تدرس الفلسفة الكلاسيكية.وفي نفس الآن، تأثرت بأعمال فوكو وبأعمال الفيلسوف ريتشارد رورتي ممثل الفلسفة التحليلية. تشتغل الآن كأستاذة العلوم السياسية والاجتماعية والفلسفة بالمدرسة الجديدة بنيويورك. كما أنها أستاذة زائرة لجامعات أوروبية كفرنسا وألمانيا وهولاندا وبلجيكا… أعمالها تتمحور حول قضايا العدالة الاجتماعية والنسوية وسياسة الهويات وكذلك حول الحقوق الاجتماعية العالمية.
تشير فريزر إلى أن السياق الذي عاشته كان مطبوعا بسيادة الفكر الماركسي كأداة لهدم الاستغلال والاستعباد والسيطرة. ولكن في إطار التحولات الهامة التي سيعرفها المجتمع الأمريكي كان من الصعب أن تتمسك الحركات المدنية اليسارية بالأطروحة الماركسية.ولهذا تشير فريزر في حوار لها بأنه «حصل منعطف بالولايات المتحدة الأمريكية بين 1980 و1990 حيث اليسار الأمريكي انقسم إلى تيارين»(3). تيار يمثل الخط التقليدي، لكونه تمسك بالرؤية الاقتصادية. وتيار انتقل من براديغم الاقتصاد إلى براديغم الاعتراف.
وفي خضم هذه التحولات السياسية اختارت فريزر الانشغال بالحياة الأكاديمية على حساب الفعل النضالي في صفوف منظمة “المجتمع الديمقراطي” حيث كانت عضوة بصفوفها. وفي فضاء البحث الأكاديمي تبلورت لديها أطروحتها الفلسفية كإجابة عن الانقسام الذي أصاب الحركة اليسارية. تنطلق فريزر من فكرة أن المجتمع يتطلب عملية تشريح للكشف عن ميكانيزمات اللاعدالة. وفي تقديرها فإن مفهوم العدالة هو مفهوم معقد ويجب تناوله في الأبعاد التالية:
ـ في بعده التوزيعي للموارد الاقتصادية.
ـ في بعد الاعترافي بالأطراف المتعددة والمختلفة.
ـ في بعده التمثلي اللساني والرمزي.
فمن خلال هذه الأبعاد، نلمس أن فريزر لا تختزل البنية الاجتماعية في المعطى الاقتصادي، ولا في فضاء الاعتراف. وبذلك تكون قد حددت لها موقفا خارج تصنيفات أحادية الجانب.تعيب فريزر على أكسيل هونث (1949) أنه نظر إلى الاعتراف كبنية اجتماعية شمولية. في حين أن بنية الاعتراف كما تراها فريزر شأنها شأن باقي البنيات الأخرى. ومن ثمة، فكل أشكال اللاعدالة والهيمنة لا تخرج عن “نظام الاعتراف” الذي يقوم على علاقات بينذاتية، وبين “نظام السوق” الذي “يمأسس هرمية القيم”. ولا يمكن الادعاء بأن أحد النظامين هو المهيمن دون الآخر، فالعلاقة يجب أن تدرك على أنها تفاعلية بين النظامين.
نشير إلى أهم أعمال فريزر التي من خلالها تدافع عن أطروحتها، نذكر كتاب الأساس بالاشتراك مع أكسيل هونث:
ـ Redistribution or Recognition, (2003).
_ Justice Interruptus, (1997).
_ Unruly Practices, (1989).
_ The Radical Imagination: Between Redistri-
bution and Recognition, (2003)
ما يمكن استنتاجه، هو أن القاسم المشترك الذي يجمع بين بنحبيب وباثلر وفريزر يكمن في العمل النضالي على الواجهة الحقوقية والسياسية في إطار الحركات اليسارية. لقد عايشن باهتمام أحداث التدخل الأمريكي في الفيتنام، وقد كان محط إدانة من طرفهن. تحكي بنحبيب عن الحرب الأمريكية ـ الفيتنامية التي تتبعت أطوارها عن قرب، من خلال أساتذة أميركيين فروا من أمريكا إلى اسطنبول ضداً على الحرب. أما المنظمة الطلابية “المجتمع الديمقراطي” التي دشنت مسارها بعناصر قليلة، من بينهم فريزر، أصبحت قوة مدنية مؤثرة في السيرورة السياسية والاجتماعية الأمريكي. إن المنظمة لم تكف عن إدانة التدخل الأمريكي في الفيتنام سنة 1963.كما أن الأحداث الط
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://philo.forumarabia.com
 
لماذا لا نفكر فلسفياً ؟
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» لماذا لا أحد يجيب على الأسئلة
» لماذا يتكرر السؤال ما الفلسفة؟
» الفسفة والحاجة إليها كفن للعيش.لكن لماذا؟

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
فيلوصوفيا :: دراسات فلسفية :: مقالات فلسفية-
انتقل الى: