وأنا أشاهد بعضا من صوري الشخصية في الماضي، أستحضر موقف "جون لوك" من إشكالية : الهوية الشخصية.بمعنى الوعي بنفس الإنيّة، وهي ذاتها بالرغم من تغيّز الزمان والمكان. فأنا أدرك أنني هو أنا ذاته. هذه العينية Mémeté تتحقّق بفعل الوعي من خلال الذاكرة التي تستحضر مجمل كينونتي كشخص ومن خلالها أنا مسؤول عن أفعالي في الزمن الماضي والحاضر بالرغم من " تماسفهما" Distantiation. فما دمتُ أنا هو هو من لحظة الماضي حتى لحظة وعيي بكينونتي حاضرا، فأنا شخص مسؤول عن أفعاله منذ أن وعيتُ أني أنا هو أنا، وبالمحصلة .وهنا يتم التمييز بين الإنسان والشخص. الإنسان كائن ينطبق على النوع الإنساني من خلال هيئته التي تميزه عن باقي الكائنات، أما الشخص فهو حالة تطلق على الإنيّة في بعده القانوني والأخلاقي، ومن ثمة تُنسبُ إليها أفعالها منذ أن وعت ذاتها في الماضي والحاضر.
الصورة أدناه ، من بداية تجربتي بالتدريس 82/81،فأنا هو ذات الشخص، ومعي أشخاص آخرين هم تلامذتي..ومنهم مَن أصبح مدرسا إلى جانبي بالثانوية، إضافة إلى أنني درّستُ أبناء مَن درّستهم وأصبحوا آباء، وتلك سنّة مرّ بها غيري كما سيمرّ بها غيرهم.
فتحية إلى تلامذتي الذين سيسترجعون معي الذكرى، ذكرى أضحت جزء من هويتي الشخصية ، وأعتز بكوني قرّرتُ المكوت بأفورار ضدا على آفة كان ضحيتها أبناء أزيلال، والمتمثلة في اعتبارها مجرد منطقة عبور، الأمر الذي أصبحت معه في زمن ما تحت رحمة " مدرسين متدربين"، لمّا يشتدّ عودهم البيداغوجي " يهربون" إلى المدينة متدرعين برغبتهم في بناء مستقبلهم في " فضاء حضاري"!!! بعيدا عن معيقات القرى والجبال النائية. وهذا يطرح سؤال طبيعة المواطنة.فهل بالفعل المكوث في القرى النائية انتحار للبعض أم هو قيام بالواجب ؟ لكن ما يُحيّرني أن كثيرا من أبناء المنطقة " يهربون" إلى المدن وكثير منهم نصحني بالانتقال طلبا لكثير من الامتيازات التي تفتقر إليها القرى، بحجة أن الأبناء قد يدفعون مستقبلا ثمن " غلطة" الآباء الذين تشبعوا بروح المواطنة الحقيقية وقرّروا تحقيق المعادلة الصعبة: التضحية والقيام بالواجب، مع توفير الضروري بالبحث عنه من موطئ القرية وليس بالتنكر إليها وهجرها، فتحية إلى كلّ الذين قدّموا مجهوداتهم المتواضعة لأجيال أفتخر حقيقة بأني في يوم من الأيام اقتسمتُ معهم تجربة التدريس بحلوها ومرّها.
ومع مضي الزمان، بدأتُ أحسّ بأن الريف الأفوراري يُعطيني أكثر من ما أعطيه، وخاصة تجربتي الفنية في التشكيل والنحت والبستنة وأشياء أخرى..بل أحسستُ بفهم أكثر لحقيقة الأشياء من موطء الريف لمّا أزور أيام العطل مختلف الحواضر.لكن سيحدث بالصدفة أن قرأتُ نصّا لهيدجر يفسّر فيه سبب حبّه البقاء في الأرياف، ومن قبله اختار ديكارت العزلة ليتفرّغ لتأملاته. يقول هيدجر:" غالبا ما يندهش أهل المدينة من انعزالي الطويل الرتيب في الجبال مع الفلاحين.إلا أن هذا ليس انعزالا، وإنما هي الوحدة. ففي المدن الكبيرة يستطيع المرء بسهولة أن يكون منعزلا أكثر من أي مكان آخر، لكنه لا يستطيع أبدا أن يكون فيها وحيدا، ذلك أن للوحدة القدرة الأصيلة على عدم عزلنا، بل إنه، على العكس من ذلك، ترمي بوجودنا بأكمله في الحوار الواسع مع جوهر الأشياء كلها." لقد أحسستُ بأن ممارسة التفلسف مع تلاميذ أفورار،بمختلف أصولهم العربية والأمازيغية،بأنها لحظة مُولّدة للوجود وصانعة للحياة، أسمع كل يوم صداها من جبال تزكرونت وغنين وتاسميط الشامخة ، صدى نبل وحقيقة ساكنة أفورا ونواحيها.