وجهة نظر ( خاصة بمسلك العلوم )
في أفق فتح باب الاجتهاد.
كيف نُبرّر للتلميذ الانتقال من مجزوءة الوضع البشري إلى مجزوؤة المعرفة؟ من بين المبررات، المذكرة 37 الخاصة بالإنشاء الفلسفي، والتي تنص على إمكانية امتحان المترشح في مفهومين من مجزوءتين، الأمر الذي يعني وجود علاقة بين المجزوءات تسمح بالجمع بينها ضمن إشكالية تقتضي استحضار تقاطع نفس الرهان بين المجزوءتين، بحجة أن الناظم بين المجزوءات الأربع هو الإنسان والذي يأخذ صيغا مختلفة حسب وضعيته الإشكالية: الشخص في الوضع البشري، الذات العارفة في المعرفة، المواطن في السياسة، الفاعل الأخلاقي في الأخلاق.
المبرر الثاني الممكن،ويقتضي التمهيد له في مجزوءة الوضع البشري، لحظة التحضير الكلي لجميع المجزوءات وإدراك مختلف تقاطعاتها وتكاملها في الإجابة عن السؤال الجوهري : ما الإنسان؟ وما شروط وجوده؟ كذات في علاقته مع غيره ومع أشياء العالم؟ وما هي تجليات هذه العلاقة ؟( الوجودية، والمعرفية والقانونية والأخلاقية) إذن ليست المجزوءات جزر منعزلة،،،،،،، بالرغم من اختلاف إشكالاتها، ولكنها تحتمل تعالقا وترابطا وإن اختلفت الموضوعات فكلها تصبّ في فهم حقيقة الإنسان في مختلف أنماط انوجاده.يتجلى المبرر الثاني إذن في كون الإنسان بعْد وعيه بإنيته وهويته... وكي يستكمل شرط وجوده، لابد من الانفتاح على الغير، والدخول معه في علاقة تحقيقا للوجود بالمعية، وهذه المعية لاتنفتح على شخص آخر فقط بل تنفتح على العالم الطبيعي. هنا على المدرس كما قلتُ سابقا أن يكون واعيا بمختلف التمفصلات بين المجزوءات، حتى لا ينكمش ذهن التلميذ ويسقط في تجزيئية اختزالية وانعزالية تجعله يدخل في لعبة " المقامرة" كأن يهتم بمجزوءتين فقط، وهو بهذا النهج يجهل مدى التكامل بين المجزوءات.
لكن كي نؤسس لمشروعية الشرط الثالث، لابد أن نستحضره في مجزوءة الوضع البشري. بالنسبة لتجربتي الشخصية، أوظف نص "أنطونيو غرامشي " ضمن محور : الشخص بين الضرورة والحرية، يقول غرامشي:"
"
عندما نطرح السؤال ما هو الإنسان ؟ فنحن إنما نريد أن نقول: ماذا يمكن أن يصير الإنسان؟ أي هل يستطيع الإنسان أن يسيطر على مصيره الخاص، وأن يخلق حياته؟ إن السؤال ما الإنسان متولد من تفكيرنا في ذاتنا وفي الآخرين، ومما نحن ومما يمكن أن نصير،وذلك لنعرف في الحقيقة ، وضمن أية حدود نحن صانعو ذواتنا، وصانعو مصيرنا؟
يجب أن نتصور الإنسان من جهة ما هو سلسلة من علاقات فاعلة ( وهي عملية وإن كان فيها للفردية أهمية كبيرة إلا أنها ليست مع ذلك العنصر الوحيد الذي يجب الأخذ به) لأن الإنسانية المترسمة في كل فردية مؤلفة من عناصر مختلفة هي :1) الفرد ذاته،2) الناس الآخرون،3) الطبيعة... إن علاقة الفرد مع الآخرين ليست علاقة تجاور وإنما علاقة عضوية، كما لا تقوم علاقة الإنسان بالطبيعة على مجرد كونه هو أيضا طبيعة، بل تقوم على كونه فاعلا صانعا ... وإذا كانت فرديتنا هي جملة تلك العلاقات ، فإن إبداع الشخصية يدل على اكتساب الشعور بتلك العلاقات ، ومعنى تغييرنا لشخصيتنا الخاصة هو تغيير مجموع تلك العلاقات.(غرامشي.مختارات .)
نحن أمام ثلاث مكونات وجودية للإنسان : الفرد، الناس الأخرون، الطبيعة.إذن يمكن اعتبار هذا النص تمهيدا لقضية مساءلة الإنسان للعالم الطبيعي الفيزيائي..كما أوظف حكما من نص ورد في امتحان 2009، يتعلق بمفهوم الغير،وسياقه يردّ على القائلين بالسولبسيزم، يوجد هذا الحكم في بداية الفقرة الثانية كالتالي:" وكما أنه ليس ثمة ذات بدون العالم، فإنه ليس ثمة ذات بدون الغير..." الشق الأول من الحُكم يُمكن أن يوظف في تبرير الانتقال من مجزوءة الوضع البشري إلى مجزوءة المعرفة.
بالمحصلة يجب أن يكون للمدرس (ة) استراتيجية واضحة المعالم يقوم من خلالها تبرير الانتقال من مجزوءة إلى أخرى، مثلا يمكن تبرير الانتقال إلى مجزوءة السياسية من مدخل العلاقة مع الغير، وهذه العلاقة لا تنحصر في الصداقة والصراع أو الغرابة والعداوة... بل تتأسس أيضا في مستوى أعلى وهو العلاقة المبنية على القانون في ظل دولة الحق والقانون( سواء كانت هذه العلاقة تعاقدية أو ضرورة عقلية)، وهذا ما جعل هيجل يقول:" أسمى واجب الأفراد هو أن يكونوا أعضاء في الدولة" ويضيف ما مفاده ،أن الذي لا يجد موقعه في الدولة فهو كائن لاتاريخي. هذا تتميم لإشكالية هوية الشخص وإشكالية العلاقة مع الغير. حتى في علاقته بالعالم الطبيعي فهي تحكمها قوانين الدولة التي تروم الحفاظ على البيئة من التخريب والفناء. وهذا الحفاظ على البيئة قضية سياسية وأيضا أخلاقية ترقي إلى مستوى الواجب، وليس فقط مع الأشخاص.
بهذه المقاربة، نُحبّب للتلاميذ التقرّب من المجزوءات من خلال فهم أنها بالفعل إشكالات متنوعة ولكنها تتكامل فيما بينها بحجة أنها إشكالات خاصة بالإنسان، هكذا نردّ التعدد الإشكالي لوحدة الموضوع وهو الإنسان.وهذا ما يبرر أن صيغ الامتحان يمكن أن تتضمن مفهومين من مجزوئتين.وبفهم التلميذ لهذا التكامل، يمكنه تأطير وأشكلة مفهومين من مجزوءتين بشكل عقلاني يسري على التحليل والمناقشة.وأكثر من ذلك هذا له تأثير على طريقة تفكير التلميذ في حياته اليومية،أقصد النظرة التركيبية لموجودات العالم.