الدرس الافتتاحي للسنة الثانية بكالوريا علوم حياة وأرض.
إدراك تقاطعات الكلي كمدخل لفهم الجزئي
من بين إمكانات اللقاء الأولي مع التلاميذ ، إخبارهم بمختلف مجزوءات البرنامج الفلسفي، مع مفاهيمها وذلك بكتابتها قبليا على السبورة. السؤال ، ما هي مبررات هذا الاختيار؟ لكن يجب أن يكون الآتي واضح ذهنيا لدى الأستاذ قبل المتعلم. وكل مدرس يُكيّف ما سأطرحه حسب ملابسات الفصل ومدى قابلية التلاميذ للتفاعل وتحمل المسؤولية في الفهم الكلي والشمولي لرهانات البرنامج الفلسفي، على الأقل توريطه في العلم بالكلي قبل الجزئي.
أولا، لإعلامهم بأن مطلوبات الامتحان الوطني تقتضي إدراك مختلف العلائق بين إشكالات المجزوءات باعتبارها ليست جُزرا معزولة، بل هي تتضافر وتتكامل ، وقد تتفارق، في أفق بناء تصوّر مركّب وشامل عن حقيقة الإنسان ، مع ذاته ومع الآخرين ومع العالم الطبيعي (كما في مجزوءة المعرفة) ومن خلال المجالات التي يتمظهر انوجاده من خلالها.
في هذه الحالة قد يكون مطلوب الامتحان الوطني مساءلة مفهوم واحد ضمن المجزوءة.وقد يكون المطلوب مساءلة والتفكير في مفهومين من نفس المجزوءة. والإمكانية الثالثة هي مساءلة مفهومين من مجزوءتين مختلفتين ممّا يعني أن هناك تعالقا إشكاليا يخترق كل المجزوءات. هذا الإكراه المؤسسي، يُحتّم على المدرس إعلام التلاميذ بهذا الوضع، في أفق الربط بين مختلف إشكالات المجزوءات ومواطن التكامل بينها مادامت كلها تتمحور حول " الإنسان " كموضوع رئيسي يخترق جل المجزوءات.
ثانيا، وبالعلاقة مع إكراه التقويم، تمكين المتعلّم من تنظيم سيرورة تعلّمه طيلة السنة،وذلك من خلال إدراك مبررات توظيف أطروحات الفلاسفة في سياق التعالق الميكروسكوبي داخل نفس المجزوءة، والتعالق الماكروسكوبي بين المجزوءات.
بخصوص التعالق الميكروسكوبي للمجزوءة، أولا، يبدو من الناحية المنهجية مساءلة التلاميذ عن طبيعة العلاقة الإشكالية مثلا بين التعبيرات التالية : الوضع البشري، الشخص، الغير، التاريخ.ثانيا من المطلوب إدراك العلاقات المؤسسة والرابطة بين محاور المفهوم. مثلا بالنسبة لمفهوم الشخص: الشخص والهوية، الشخص بوصفه قيمة، الشخص ين الضرورة والحرية. السؤال، ما هي مبررات العلاقة بين الشخص والوضع البشري، وما هي مبررات التعالق بين الشخص وإشكالات محاوره الثلاث.؟
نفس المسار التساؤلي نطبّقه على مفهوم الشخص، أولا في سبب تعالقة مع الوضع البشري، وثانيا في تعالقه مع مفهوم الشخص. بالتالي ماذا يمثل كل من الشخص والغير بالنسبة للوضع البشري.؟
لن يستطيع التلميذ إدراك مختلف هذه التعالقات بين المفاهيم والمجزوءة، وبين المفهوم وإشكالات محاوره،إلا من خلال أشكلة عنوان المجزوءة. مثلا، نطرح السؤال على التلاميذ كالتالي: الوضع البشري قضية معطاة لا توحي بمشكلة، وضمن هذه المجزوءة تحضر مفاهيم، السؤال، ما هو رهان مجزوءة الوضع البشري؟ وبأي معنى يحضر المفهومين ضمن هذا الرهان؟ وماذا يمثل كل مفهوم بالنسبة لقضية الوضع البشري. هذه المساءلة تسري على كل المجزوءات، ليكون المدخل الكلي طريقا لفهم الجزئي ومن خلال مقاربة الفلسفة.
بخصوص التعالق الماكروسكوبي بين المجزوءات، من الضروري إقناع التلميذ بإمكانية هذا التعالق الإشكالي بين مختلف المجزوءات وإلا كيف سنبرّر صيغة الامتحان الوطني : التفكير في مفهومين من مجزوءتين؟
مثلا، أيّ نوع من العلاقة يمكن ربطها إشكاليا بيت مفهوم الغير ومفهوم الدولة؟ إذا كان الغير أحد شروط الوضع البشري فإن الدولة هي الأخرى مُكمّلة لهذا الشرط، من منطلق أن الوجود بالمعية يقتضي تدبير هذا الوجود بالقانون، وهذا الأخير يحتاج إلى مؤسسة تسهر على تدبير الشأن العام باعتباره هو في ذاته مجمل العلائق بين الناس. فالدولة نوع من الاجتماع البشري الذي يجسّده مفهوم الغير من خلال إشكالية العلاقة مع الغير، هي ليست بالضرورة علاقة الصداقة والعداوة، بل هي أيضا علاقة مبنية على قواعد قانونية وأخرى أخلاقية، وهذين الشرطين يطرحان إشكالية مدى حرية الشخص تجاه هاتين القاعدتين.
....بالمحصلة، يجب إفهام التلميذ أن درس الفلسفة ليس مادة جاهزة للحفظ من خلال أطروحات جاهزة ومعطاة ومرتبة على طريقة الطبّاخة " شوميشة " كمقادير !!!! ومبثوثة في إطارات تقصر وتطول بحسب نوع الطّبخة وكأننا أمام درس مُعلّب!!! بل الدرس الفلسفي درسي حيوي وجدلي وعلائقي ينمو ويتطور من خلال تنوّع واختلاف تجليات الوجود الإنساني، إنه سفر ممتع في عالم متحرك ومفتوح على كل الاحتمالات والممكنات...الدرس الفلسفي درس مسكون بالغرابة والصدمة والقلق/ كما الحرية والتحرر من سلطة التقرير والبداهة...المجزوءات أشبه بحقل من مختلف الأزهار، والمدرس بمعية التلاميذ أشبه بالنحلات تستخرج عسلا من رحيق الأزهار بعد مشقّة العمل والبحث الدؤوب.
طبعا هناك مَنْ سيختار الأسهل والأبسط ... وتلك حكاية أخرى، سنرويها حين تسمح المناسبة.