أفول الروح الفلسفية للدرس الفلسفي لصالح الديداكتيكي الوضعي
كُنتُ أتساءل دائما كلما تقدمتُ في الزمن التدريسي حول الهدف من تدريس الفلسفة.وهل بالفعل مدرسي الفلسفة غالبا ما ينزلقون نحو شكليات التدريس برؤية وضعية على حساب طبيعة الفلسفة كما سأُبيّن لاحقا.بمعنى إهمال ممارسة التفكير الفلسفي والانزياح نحو الاهتمام المُفرط بالعمليات البيداغوجية والديداكتيكية باعتبارها آليات تُحقّق ممارسة التفكير الفلسفي وليس إجراءات "دَعويّة " احترافية مِهنية لذاتها . إذن هل بالفعل تلامذتنا يتعلمون آليات التفكير الفلسفي ومضامينه، أم هم بصدد الاحتفاظ ب " قشور " ديداكتيكية تتلخص في الأهداف المعروفة : الأشكلة والمفهمة والحجاج، ومراحل الكتابة الإنشائية من دون وعي بأفق هذه الأهداف تحت سقف الفلسفة، مع العلم أن جميع الحقول المعرفية والحقوقية تنطلق من الإشكال وتنبني مفاهيم وتُحاجج، لكن ما الذي يميّز التفكير الفلسفي عن التفكير الحقوقي الذي يوظف هو الآخر تلك الأهداف،
جرت العادة الاهتمام بموضوعات ديداكتيكية أصبحت من فرط اجترارها باهتة، وبالمقابل تمّ السكوت عن الأهم في نظري والمُتجلي في منطلقات منهاج 1996، بحيث لم يسبق لي أن اطلعتُ على اهتمام بمضامين ما يطرحه هذا المنهاج، في الصفحة6 نقرأ ما يلي:
*- تتحدد مواصفات تلميذ المرحلة الثانوية في جعله "
1-
قادرا على تحقيق ذاته وإنماء شخصيته إنماء متكاملا ومتوازنا والاستقلال في رأيه، حتى يتمكن من تحمل المسؤولية ومواجهة مواقف الحياة.(الغرض 5).
2-متشبعا بروح النقد البناء، وقادرا على اتخاذ القرارات المناسبة للمساهمة في تطوير مجتمعه. ( الغرض
إن خصائص التفكير الفلسفي المتمثلة أساسا في الحرية بما تتضمنه من اتخاذ مسافة من البداهات السائدة والأحكام المسبقة من الأهواء وعنفها، ومن ثم فالفلسفة موقف للوعي أكثر منها معرفة بالمعنى الوضعي. فجوهر الفلسفة يكمن في عودة الوعي إلى ذاته، واتخاذ الموقف النقدي من المعرفة الجاهزة،ومساءلتها، وتأمل تجربة الحياة المعيشة وإخضاعها للفحص والتحليل، وتربط بذلك النظرة التركيبية الشمولية، والتعامل مع الآخرين على أساس الحوار والتواضع والتسامح والمسؤولية، والدقة والصرامة والوضوح في التفكير."
سؤالي إلى مدرسي الفلسفة، كيف تحققون هذه الغايات لحظة إنجاز دروسكم وكيف تقومون بتقويمها بعد تحليل النصوص من خلال الآشكلة والمفهمة والحجاج.لنجرب الأمر من خلال مائدة مستديرة مع التلاميذ حول موضوع من الحياة اليومية لنكتشف مدى تعلم التلاميذ بالفعل التفكير الفلسفي في الذات وفي الآخر.....أشكلة ومفاهيما وحجاجا.
كم يحزّ في قلبي، وكم أنا مُشوّش ذهنيا وأنا أجد نفسي أمام تجارب منشورة إعلاميا وفي الكتب الفلسفية التجارية من خلال الأنترنيت أن الدرس الفلسفي تحول إلى ما يُشبه طريقة " الطبّاخة شوميشة" وذلك من خلال استعراض مقادير فلسفية جاهزة يحفظها التلاميذ من دون جوهر الفلسفة كما أعلنا عليه من خلال المواصفات أعلاه. والدليل هو مقارنة الوعي الفلسفي لتلاميذ السبعينات والثمانينات وحتى حدود بداية التسعينات مع تلاميذ الألفية الثالثة،على مستوى التلفظ بالمفاهيم الفلسفية التي كانت جزءا من يومهم وبين تلاميذ المرحلة السوداء الحالية لتدريس الفلسفة:الاهتمام بنقطة المراقبة المستمرة " طزّ" على التفلسف. إقرأوا الكتب التجارية التي تزعم تهييء تلميذ الباكالوريا للإمتحان الوطنى لتكتشفوا مدى الكارثة في الإجرام في حق الفلسفة.وآخر هذه الجرائم الفلسفية منشور تحت إسم : المختصر في دروس الفلسفة ضمن سلسلة الشامل، لتكتشفوا مدى الاستهتار بالدرس الفلسفي .... وأحمد الله على أني دنوتُ من التقاعد قيد أنملة حتى لا أشهد تشييع جنازة الفلسفة على مذبح الديداكيك الوضعي البراجماتي الحرفي الصوراني. في نفس السياق قال الشاعر الكبير نزار قبّاني مع بعض التحوير: لقد لبسنا قشرة الفلسفة والروح ظنيّة.
من هذا المنطلق أناشد مدرسي الفلسة أن يتفضلوا بعرض تجاربهم الفصلية التي من خلالها يُحققون جوهر الفلسفة كما بيّنتُ في منهاج 1996.