عبدالجبار الرفاعي
في إن الإمكان اعتبار عقلي، وانه لازم للماهية
البحث في هذا الفصل في مطلبين:
الأول: أن الإمكان اعتبار عقلي.
الثاني: أنه لازم للماهية.
الإمكان اعتبار عقلي:
المقصود بذلك أن الإمكان من أحكام الماهية، وهذا الحكم من الأحكام الثابتة للماهية اللازمة لها كلزوم الزوجية بالنسبة للأربعة، والماهية هي مفهوم اعتباري ينتزعه العقل من الموجودات الممكنة أو هي حدود الموجودات الممكنة. وهذا المفهوم الاعتباري أحكامه وصفاته التي ينتزعها الذهن أيضاً اعتبارية.
فالإمكان ثابت للماهية وهي أمر اعتباري، فلذلك الإمكان أمر اعتباري، لأن ما يتصف به الاعتباري هو أمر اعتباري، ولا يمكن أن يكون لازم اعتباري وما يتصف به الاعتباري أمراً حقيقياً، نعم يمكن أن يكون لازم الأمر الحقيقي أمراً اعتبارياً، لأن الأمر الواقعي الحقيقي يتصف بأمور حقيقية كما يتصف بأمور اعتبارية، أما الأمر الاعتباري فلا يتصف إلا بأمور اعتبارية، فكون الإمكان اعتباراً عقلياً، أي كونه حكماً للماهية وهي أمر اعتباري، فلا بد أن يكون حكمها اعتبارياً، لأن ما يتصف به الاعتباري اعتباري.
قد يقال: أن الإمكان الذي هو اعتبار عقلي هل ينافي كون الماهية بحسب الواقع ونفس الأمر إما موجودة أو معدومة؟ لأن الماهية إما أن تكون موجودة إذا وجدت علتها التامة، وتكون حينئذ محفوفة بوجوبين، وجوب من جهة العلة ووجوب من جهة المحمول، وإما أن تكون معدومة، والماهية المعدومة تكون محفوفة بامتناعين، امتناع وجود من جهة عدم العلة، وامتناع من جهة عدم المحمول. فالماهية المعدومة معدومة بالضرورة، فهل ينافي كون الماهية بحسب الواقع ونفس الأمر إما موجودة أو معدومة، كون الإمكان اعتباراً عقلياً للماهية؟
الجواب: لا توجد منافاة، لأن الإمكان تتصف به الماهية ولا ينافي ذلك كون الماهية بحسب الواقع ونفس الأمر إما موجودة أو معدومة.
الإمكان لازم الماهية:
إن الإمكان من لوازم الماهية، أي من الأحكام الثابتة لها بدرجة اللزوم، وليس عرضاً مفارقاً وإنما هو لازم لا ينفك عن الماهية، كالزوجية بالنسبة للأربعة. وهذا ما اتفق عليه الحكماء المسلمون.
أما كيف يكون لازماً للماهية؟ الجواب: لو لاحظنا العلاقة بين المحمول والموضوع، أي نسبة المحمول لأي موضوع، فإنها لا تخرج عما يلي:
إما أن يكون الموضوع مقتضياً للمحمول ولا ينفك عنه، كقولنا: الباري موجود.
أو يكون الموضوع غير مقتض للمحمول، أي يقتضي عدم المحمول، فيكون المحمول ممتنعاً عن الحمل على هذا الموضوع، فلا نقول: (اجتماع النقيضين موجود)، بل نقول: (اجتماع النقيضين محال) وهذا الموضوع يقتضي عدم ثبوت الوجود بالنسبة له، فاجتماع النقيضين محال الوجود.
أو أن الموضوع لا يقتضي وجود المحمول ولا يقتضي عدم المحمول، أي لا الحالة الأولى ولا الحالة الثانية.
الحالة الأولى الوجوب، والحالة الثانية الامتناع، أما الحالة الثالثة التي لا يقتضي الموضوع فيها لا وجود المحمول ولا عدمه، وإنما العلاقة تكون علاقة نفي ضرورة الوجود ونفي ضرورة العدم، أي سلب الضرورتين، فعندما نقول: (الانسان موجود) فالوجود لا هو ضروري الثبوت للانسان ولا هو ضروري العدم، نفي للضرورتين، هذا هو الإمكان، فالإمكان لازم للماهية.
لكن قد يقال هنا إن الإمكان إذا كان سلب ضرورة الوجود وسلب ضرورة العدم، والسلب معنى منفي، بينما نحن نصف الماهية بمعنى وجودي فنقول: (الانسان ممكن) فالقضية هنا موجبة لا سالبة، والإمكان هنا أمر مثبت لا منفي، فهو ثابت للموضوع، فكيف يكون الإمكان أمراً ثبوتياً مع أنه يساوي سلب ضرورة الوجود، وسلب ضرورة العدم؟
الجواب: عادة ما يجعل العقل أمراً لازماً لسلب ضرورة العدم وسلب ضرورة الوجود، وهذا الأمر اللازم هو اللا اقتضاء، لا اقتضاء الوجود، ولا اقتضاء العدم، أي ماهية الانسان لا تقتضي الوجود ولا تقتضي العدم، فاستواء النسبة للوجود والعدم يجعله العقل أمراً لازماً لسلب ضرورة الوجود وضرورة العدم، فيكون الإمكان على هذا الأساس معنى ثبوتياً لا معنى سلبياً، وإن كان في حقيقته عبارة عن مجموع نفيين، وهذا المعنى الثبوتي هو معنى لازم لهذين النفيين.
------------------------
المصدر: دروس في الفلسفة الاسلامية