اللحظة الأولى:
أساس العمل الفني التشكيلي هو تحويل المحسوس الخام إلى محسوس إستطيقي، عَمِل المُبدع على إنتاج واقع مُواز للواقع الواقعي. إذن ليس الفن مُحاكاة لأشياء الواقع بالرغم من أنها هي ذاتها في العمل الفني، ولكن التخييل التشكيلي يجعل لها واقعا ليس هو بالضرورة واقعها الأصلي.كمثال نقدم بيتا شعريا للشاعر أدونيس:
لأب مات أخضر كالسحابة...وعلى وجهه شراع.
حينما أسأل تلامذتي عن الدلالة المعجمية لكل كلمة مستقلة بذاها يتعرفون على الدلالة، ولكن بصعب فهم دلالالتها التشكيلية.لسنا إذن أمام اصطناع للغة، بل التشكيل يرجع لتركيب العقل من خلال فعل التخييل، هكذا يكون الفن طريقة في التفكير .لقد قال أحدهم:" لولا الفن لبقيت الأشياء على ما هي عليه".:
موت الأب ارتبط بالعطاء من مثل عطاء السحابة ، التي تكون سببا في اخضرار الأرض ذاك هو غطاؤها النباتي، مادامت السحابة مُحمّلة بالماء الذي سينزل مطرا...هذا العطاء لم يُعدم بالموت، وما الموتُ سوى إبحار جديد نحو حياة أخرى...لقد شدّ الأب الرحال إلى عالم آخر مثلما هي السفينة تنشر شراعها نحو أفق جديد، وبداية جديدة.
اللحظة الثانية
"في إحدى لحظات درس مفهوم الفن أُراهن على استحضار أمثلة في أفق تمكين التلاميذ من فهم ماهية التجربة الجمالية وطبيعة علاقتها بالواقع لحظة اشتغال مُخيّلة المبدع.أعمدُ في هذه اللحظة إلى المقارنة بين مقطع للشاعر محمود درويش وآخر من أغنية للمغني الشعبي رويشة.يقول درويش: بين ريتا وعيوني بندقية.ويقول رويشة في إحدى أغانيه: تابعك الهجهوج حتى النّمرة جوج.
في كلتا المقطعين تحضر الحبيبة، ولكن من خلال تجربتين فنّيتين مختلفتين.بالطبع المقارنة الجمالية بين درويش ورويشة غير واردة، ولكن الرهان هو اختبار تمثّل المُتلقي وتأويله للقول الشعري، الفصيح والعامي.واضح أن درويش لا يمكن أن يصل إلى حبيبته ريتا " فلسطين" بسبب كونها مُستعمَرة، والوصول إليها يمرّ عبر تحريرها بالثورة" البندقية"هنا نصطدم بمفارقة العشق والثورة..لكن رويشة في إطار " الجمالية العامية" يتبع آلته الموسيقية" الهجهوج " حتى باب حبيبته " الراقصة-الشيخة" ورقم منزلها هو "جوج" أي الرقم2. و..وُجْ فرضتها الدلالة السّجعية.وشتّان بين المسافتين"عشف وثورة، ونزوة وخمرة.لكن تلك أرض والأخرى امرأة شاءت الأقدار أن يتناص في جسدها شيئ من معاناة الأرض المسلوبة.فذاك يطلب اللقاء من أجل الحرية، وهذا يطلب اللقاء من أجل المتعة.وودتُ لو قال رويشة: تابعك الهجهوج حتى نمُوتُو بجوج.،ألم يُقال: مات فريد الأطرش فمات معه عُودُه؟.