باختصار شديد، من بين الجديد الذي نهجته هذه السنة، يتعلق بتدريس الثانية بكالوريا علمية- ومن ضمن أحد الأقسام العلمية( الرقم 4) توجد ابنتاي إيمان وأميمة- .تصفحت من جديد كتاب التلميذ، وكم كان اندهاشي حين وجدت نصا يتيما لجون لوك حول الهوية الشخصية. وتساءلتُ، كيف تتناقض لجنة كتاب في رحاب الفلسفة مع روح الفلسفة، القائمة على الحوار بين الفلاسفة حول ما هذا الذي يكون به الشخص شخصا؟ وما الذي يجعله شخصا؟ وبهذين السؤالين تجاوزت السؤال التقليدي : ما الشخص؟ بحجة أنه لا يرقى إلى مساءلة المشكل الميتافيزيقي لذاتي.(أي نفترض أن هناك ثابثا هو ما يُشكل هويتي بالرغم من التغيرات التي تطرأ على ذاتي ، لتبقى ذاتي-كما قال الفارابي مستعملا لفظ الشيء- هي عينها في وجودها المُنفرد لها. المفارقة هو أننا لحظة بناء الإشكال، بصيغة السؤال التناوبي: هل...أم...؟ المفروض أننا يجب أن تستحضر أطروحتين متعارضتين، مما يُعطي المصداقية لمشكل الهوية الشخصية، مع العلم أن الإشكال في تعريفه حسب " هنري بينا رويز": قضية استفهامية تتضمن أطروحتين أو أكثر توجد بينهما أو بينها مفارقة أو اختلاف أو تعارض، وتقتضي الإجابة عنها استدعاء أطروحة أو أطروحات معينة بالذات. فقلت لنفسي، ما هذا الذي أقنع لجنة التأليف بإنزال نص يتيم راهنت من خلاله على أن يفهم التلاميذ مشكلة الهوية؟ أتساءل و أُسائل الزملاء المدرسين في حالة اشتغالهم على نص لوك لوحده، كيف عملوا على صياغة الإشكال باعتماد نص واحد فقط؟ ولو حصل العكس : تعدد أسئلة الإشكال مع الرهان على نص لوك فقط، فهناك مشكل حقيقي، ، حتى ولو اعتمدنا مقاربة " التّناص " من داخل نص لوك ، فالمشكل يظل قائما. لقد تعاقدنا مع التلاميذ على أن الوضع البشري يتسم بالتعقيد والمفارقة..لنقدم له نصا يتيما ، فقط لأنه استعمل صراحة لفظ:
" الهوية الشخصية"، مع أنني أتحفظ أصلا على وظيفية نص لوك مقارنة مع وظيفية نصوص ديكارت ( حتى في تاريخ الفلسفة)... لنترك التأليف الماركوتنكي لرحاب الثانية علمية- بالرغم من ميلي لجدية كتاب الرحاب الخاص مسلك الثانبة آداب- ونمارس الفلسفة كما نُحبها ليُحب التلاميذ التفكير من خلالها. قررت الاشتغال على ثلاث أطروحات مركزية: الموقف الديكارتي، وموقف التحليل النفسي، والموقف الوجودي، بخصوص السؤال : لماذا أنا شخص؟ أو ما الذي يجعل مني شخصا؟
وقررت أن أقارب النصوص الثلاث من خلال المقاربة التفاعلية،و التي اخترت لها نصوص عبارة عن حوار ثلاثي بين ديكارت وفرويد وسارتر.
بالمحصلة أردت أن أصل إلى الرهان التالي من خلال تشغيل التلاميذ طبعا، وما أطرحه هنا هو للإستئناس فقط: يطرح ديكارت السؤال : ما الإنسان؟ كان جوابه : أنا نفس وجسد. هل هذا التركيب الثنائي هو هويته؟ يفول ديكارت : لا. السؤال لماذا؟ يُجيب:أنا واجد أن الفكر هو الصفة التي تخصني، وأنه وحده لا ينفصل عني.." ويضيف " النفس أو " الأنا "هي أساس ما أنا عليه ومتميّزة تمام التميز عن الجسم".
لنُركّز الانتباه في حكم ديكارت على المفهومين: وحده وأساس.هنا يتم استبعاد الجسد كونه لا ينتمي إلى هذا الثابت المُشكّل لهويتي. ومع الأسف نجد في بعض القراءات- بناء على مقولة : الثنائية الديكارتية" أن هوية الإنسان ثنائية-هذا الاعتراف له مجاله التداولي في سياق فلسفة ديكارت لا علاقة له بالمشكلة التي نحن بصددها . لقد أزاح ديكارت الجسم من كونه عاملا أساسيا في بناء المعرفة( الشك في الحواس) ومفهوم وحده تخصيص للهوية كونها تتجسد في الفكر. وحده..إذن بالفكر يوجد الإنسان(الكوجيتو) وبالفكر لا يغيبُ عن وعيي أي شيئ .ألم يقل ديكارت:لا يوجد شيء في ذاتي إلا وأعيه كامل الوعي"
نعود إلى قراءة نص فرويد ونسأل التلاميذ: ما هي الجمل ( الأحكام التي من خلالها يردّ فرويد على ديكارت، ومن خلال رده كيف يرفض مفهوم أساس الهوية عند ديكارت؟ وما هو الأساس الذي يقترحه؟ وما هي حججه في تفنيذ مفهوم الهوية عند ديكارت، والحجج التي استعملها فرويد فيما يراه أساس هوية الشخص؟........
نعود إلى نص سارتر ونسأل: نعم اختلف كل من ديكارت وفرويد حول أساس الهوية وطبيعتها، لكنهما يشتركان في أصلها ومشئها-كل من منظوره( أقصد أنها قبلية عقلية مع ديكارت، وقبلية جسدية غريزية(الهو) مع فرويد)، وهذا ما جعل سارتر يرفض مفهوم الهوية القبلية لدى كل من ديكارت وفرويد، السؤال كيف نظر سارتر لمفهوم هوية الشخص ومن أي منطلق، وما حججه في ذلك. نعود ونقرأ النصوص الثلات مع التلاميذ - بعد أن تم تقسيم التلاميذ إلى مجموعات، إذ كل مجموعة تهتم بالرد على الموقف المناقض.... ونرسم على السبورة جدولا ثلاثي الخانات، وفي كل خانة حُكما من كل نص نعتبره بمثابة أطروحة صريحة إجابة على إشكال محور: الشخص والهوية.
مثلا:
1- ديكارت:"أنا موجود ما دمتُ أفكر، فقد يحصل أني متى اقطعت عن التفكير تماما انقطعتُ عن الوجود.الفكر وحده لا ينفصل عني وهو أساس ما أنا عليه."
2- فرويد:"إن فرضية اللاوعي ضرورية لأن معطيات الوعي ناقصة جدا بحجة وجود أفكار تخطر لنا من غير أن نعرف مصدرها..وتظل عمليات إنشائها خفية عنا."
يمكن تحضير مجموعة من الأسئلة البيداغوجية ( كل حسب اجتهاده)بهدف رصد نقط الخلاف والتشابه بين ديكارت وفرويد( مع استحضار أطروحة قبلية العقل الفطري لدى ديكارت، قبلية " الهو" الذي يولد مع الطفل لدى فرويد) والتساؤل عن ما هذا الذي يجعل مني شخصا؟
3- سارتر:"هناك فكرة تزعم أن الإنسان مُمتلك لطبيعة إنسانية... إن الإنسان غير قلبل للتحديد لكونه في البداية عبارة عن لاشيء.إنه لن يكون إلا فيما بعد..إنه مشروع يُعاش بكيفية ذاتية".
تأتي لحظة تفعيل الحوار بين المواقف الثلاث المعروضة على السبورة. ومن الأفضل تدييل سهم من كل خانة يُشير إلى حجج الأطروحة.. يليه سهم يُشير إلى مفاهيم كل أطروحة.
جهة يسار كل خانة نُحدد الانتماء الفلسفي لكل أطروحة، حتى لا تختلط على التلميذ المواقف المختلفة ( بالرغم من تحفّظ البعض على مثل هذا التصنيف ولكنه ضروري بالنسبة للتميذ في هذه المرحلة): الموقف العقلاني،وموقف العلوم الإنسانية( علم النفس التحليلي)، وموقف الفلسفة الوجودية.يجب أن نجعل التلميذ يندهش أمام هذا التعدد، وذلك بالاشتغال على مفهوم" المنظور " perspective،في أفق تدريب التلميذ على تكوين منظور خاص به، شريطة بنائه مفاهيميا وإشكاليا وحجاجيا كما هو الأمر عند المفكرين الذين نحن بصدد الانصات إلى حوارهم فيما بينهم، وكأنهم أمامنا على طاولة النقاش في منتدى حول هوية الشخص، والتلاميذ يتحاورون معهم بكل ندّية وشغف للمعرفة النظرية، والمعرفة من أجل بناء الذات في صراعها مع الحياة اليومية، فإذا لم يُكوّن كل تلميذ منظورا كونيا حول الهوية الإنسانية (كشخص وكعلاقة مع الغير)ومنظورا خاصا بشخصيته التي عليه أن يتميّز بها كوحدة داخل الاختلاف- فما الداعي من التفكير في مشكلة الوضع البشري. اللهم إذا كان وضعا بشريا لقوم يسكون كوكبا غير كوكب الأرض.ولعمري إنها لمهمة صعبة ، نجمع فيها بين التملّك النظري للقول الفلسفي في سياقاته التاريخية والوظيفية المدرسية،وبين تحويل هاته المعرفة إلى فعل في الوجود، به نعي جميعا مبدأ وكيفيات وجودنا كأشخاص.علينا إقناع التلميذ بأن درس الفلسفة ليس ترفا فكريا، بل هو أيضا مطلب حياتي من أجل الوجود والفعل في الوجود. هذه إحدى الرهانات والكفايات الصعبة التي نرجو تحقيقها من مجزوءة الوضع البشري. إنه في النهاية،وضع التلميذ ووضع المدرس، أي وضعنا كإنسان. وكم هو جميل أن نكون بمعية التلاميذ، ومع صُحبة الفلاسفة، نضع وجودنا على المحك من خلال مُساءلته ونحن في الحقيقة نُسائل ذواتنا وفعلنا،راكبين سفينة الأسئلة التي لا تنتهي، نبحث في الظلمة عن بصيص من نور نتهدي به في طريقنا الانتقال من مجهول إلى آخر كلما تحوّل المجهول إلى معلوم ، ليتحوّل كل معلوم إلى مجهول، ..هكذا ورّطنا سقراط في لعبة الوجود القاسية: إني أعرف أنني لاأعرف شيئا" وبالطبع من لايعرف عليه أن يبحث عن المعرفة التي لا تنتهي في اللامتناهي، الأمر الذي قيل معه : الفلسفة هي المُضي في الطريق.هكذا تظل العقلية الفلسفية يقظة من تربّص " الدوكسا " ، مُتسلّحة بالقاعدة الذهبية للفلسفة:" يبدأ التفلسف حين تفقد الأشياء بداهتها." وعلى رأسها بداهة الإنسان، والتي تزحزحت عبر السؤال الكانطي الرابع : ما الإنسان؟هذا التأسيس الأنتروبولوجي الجديد لقضية الإنسان، كموجود مسكون بالمفارقات هي بمثابه" خميرة" للأسئلة الفلسفية المُحطمة لكل بدهية قاتلة للتفكير، ومؤسسة للتقبّل والاستغراق في اليومي.
هكذا وبهذا المنطق الفلسفي الحجاجي، علينا كمدرسين بناء قضية الوضع البشري، وهو في النهاية وضعنا نحن، في أفق تحقيق المُصالحة بين سؤال الهوية وسؤال الوجود، والذي أفني المفكر الكبير " المهدي المنجرة" زهرة حياته في خلخلة العقلية المنطقة العربية ( ومعها أمازيغييها وأكرادها وأقباطها...) والتساؤل عن انسحاب العربي من المساهمة في الحضارة الإنسانية. هل يمكن أن يكون مدخل الوضع البشري بالنسبة لهذا الجيل الذي نُدرسه،فاتحة خير لنعيد سؤال النهضة المنسي: لماذا تقدم الغرب وتأخر العرب؟ هل يمكن أن نجد في قضية الوضع البشري ما يجعلنا في مستوى الإنية الإنسانية....أم سنتحول مثل " رواة الحكايات " في جامع" الفنا ": كان يا مكان في قديم الزمان، فارس مغوار، اسمه ديكارت، في أحد الأيام ضاق ذرعا بسطو القديم على الجديد، وبضربة قوية " مسح الطاولة" وقال بالفم المليان:أنا أفكر إذن أنا موجود.ووضع حدا لفارس من غابر الأزمان، سموه " أرسطو " المغوار.هكذا ياسادة ويا مستمعين،أزاح الفارس المغوار ديكارت سلطة الوجود ليطرح بدلها سلطة الذات...
كم أتأسّف على الدرس الفلسفي حين يتحول إلى مجرّد حكاية يرويها المدرس في القسم الأشبه ب " الحلقة"، وكأننا نروي عليهم سيرة سيف سيف دو يزن أو عنترة بن شداد....فلا يعرف من الفلسفة غير أسماء فلاسفتها...